كتب عبد الوهاب بدرخان: لا تدخل أميركياً، ولامغامرات عسكرية في الخارج.. هكذا تكلمّ باراك أوباما عمّا بات يُعرف بأنه «انسحاب» أميركي، وهذا أمر عظيم يحقق أمنية عالمية مزمنة. على الفور تأتي «ولكن»، ولكن ماذا عن بضع عشرات النزاعات والمعضلات التي خلّفتها التدخلات القديمة والحديثة حتى الآن؟ كيف يمكن عدم التدخل إذا عادت الأوضاع هنا وهناك إلى ما كانت عليه عندما استوجبت التدخل؟ وكيف يمكن عدم التدخل إذا كان «النظام العالمي» لا يزال على حاله منذ بنته الولايات المتحدة على أساس أنها مستعدة وراغبة في التدخل، ودائماً بذريعة حماية مصالحها أو أمن حلفائها. وأخيراً كيف يمكن الانسحاب مع ترك قوى أخرى، دولية أو إقليمية، وقد شرعت في التدخل، غير آبهة بأي ردع ومحاسبة، ومتغوّلة إلى حد إغلاق مجلس الأمن الدولي وتعطيله.
في منتصف ولايته الثانية، ورغم الانتقادات القاسية التي تعرّضت لها سياسته الخارجية في الداخل وحول العالم، خصص أوباما خطابه في الأكاديمية الحربية في «وست بوينت» للمصادقة مجدداً على «عقيدته» والإصرار عليها. واقعياً، لم ينس أوباما شعار حملته الرئاسية الأولى «نعم نستطيع التغيير»، وأصبح مؤكداً أنه يريد مغادرة الأبيض باعتباره الرئيس الذي لم يأخذ أميركا إلى أي حرب جديدة، وهو على عكس أسلافه لا يخشى وصمه بأنه «ليس محارباً». أما التغيير الذي يطرحه ويمارسه، بل نال عليه «نوبل للسلام» كجائزة مسبقة، فيتناول مفهوم الزعامة/ القيادة الأميركية للعالم ونمط مزاولتها («ليس السؤال عما إذا كانت أميركا ستقود بل كيف»)، ويتناول أيضاً وسائل انتزاع المصالح وحمايتها، فضلاً عن تبديل شبه جذري في نظرة مؤسسة الحكم الأميركية إلى وظيفتها الكونية وتبديد النزعة العسكرية التي غلبت عليها لعقود طويلة.
ولا بدّ أن يعني هذا التغيير سعياً إلى اجتراح قيم جديدة مستمدة من فائض القوة والهيمنة، لكنها قيم ستبقى لفترة غير قصيرة تحت الاختبار. وطالما أنه لا يمكن الجزم بأن أي رئيس مقبل سيعتنق هذه القيم ويحافظ عليها، فإن الإرباك الحالي الذي تتسبب به سياسة أوباما سيتحوّل إلى صداع دولي آخر للتأقلم مع «مبادئ» مَن يخلفه، فيصدق عندئذ القول إن السياسات الأميركية قد تنتقل من نقيض إلى نقيض كل أربع سنين.
هذه سياسة كانت لتبدو أكثر نجاعةً وحكمةً، لمصالح أميركا وضحاياها معاً، لو أنها تتم في بيئة دولية غير ملغّمة بهذا الكمّ من التوترات والتعصّبات والتطرفات.
لكن أوباما يبدو في «عقيدته» كمَن يفكّر وينظّر متناسياً أولاً أن التدخل مسؤولية دولية وليس امتيازاً، بل متناسياً أيضاً المسؤولية المباشرة وغير المباشرة، التي تحتكرها أميركا وتصرّ عليها، سواء في إشعال النزاعات وإدارتها أو في إدارة التفاوض لحلّها من دون أن تكون لديها إرادة حقيقية لحلّها، لأن أميركا اعتادت وعوّدت الآخرين على أن مصالحها لا تُصان إلا في ظلّ نزاعات مستمرة ومتفاعلة ومستدامة. وكمثال فحسب، لا يمكن لأميركا مغادرة الشرق الأوسط قبل أن تحل الصراع العربي - الإسرائيلي بكل جوانبه، خصوصاً أن العرب أبدوا تعاوناً وقدّموا تنازلات ما لبثت أن انعكست على مجتمعاتهم.
ولا يمكن الانسحاب من المنطقة قبل أن يوضع حدّ لمغامرات إيران التي وضعت الشعوب على شفير حروب طائفية ومذهبية، وربما كان فصل المفاوضات النووية عن سواها قراراً صائباً، لكن خوض المفاوضات السياسية سراً لا بدّ أن يشعل الشكوك في «صفقات» بين أميركا وإيران.
لا شك أن أوباما استند في بناء عقيدته إلى فلسفة خاصة وشخصية، وقد تكون سياسة العقوبات التي رسمتها واشنطن هي التي شجعته على التمسّك بـ «عقيدته». فالتجربتان الأكثر أهمية تتفاعل إحداهما منذ سنوات ضد إيران، أما الثانية، فلا تزال قيد التبلور ضد روسيا وتدخلها في أوكرانيا ولم تكتمل بعد. وإذا كان بالإمكان ادعاء نجاح ما لهذه السياسة كبديل من التدخل العسكري والحروب، فإن العقوبات الأكثر قسوة على سوريا وقبلها على ليبيا والعراق لم تجدِ نفعاً طالما أن الحكام لا يبالون بتدمير بلدانهمِ. وإذ تلفت «عقيدة أوباما» الأميركيين إلى أن التدخلات «مكلفة» فإنها تنطوي على بعد «لا إنساني» مثير للاشمئزاز، كونها تقترح علناً ومسبقاً عدم الاكتراث بالخسائر البشرية وبالأكلاف الهائلة للشعوب اقتصادياً وسياسياً. والأكثر فظاعة أنها تساهم عمداً في إطالة الأزمات، ويمكن أن تسفر عن انتصار طاغية على شعبه.
(الاتحاد الإماراتية)