والله عيب يا إعلام مصر!
بقلم: عبد الباري عطوان
إن استمرار الحملة الإعلامية التى تشنها صحف ومحطات تلفزة مصرية على حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، وفصائل أخرى فى الوقت الذى يستمر العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة ويزداد شراسة، وتتصاعد أرقام الشهداء والجرحى، من الأطفال خصوصا، فهذا أمر معيب تتحمل مسئوليته السلطات المصرية التى تمادت فى الإساءة للشعب الفلسطينى، ولم تحترم الحد الأدنى من "أخلاقيات" خصومه اخترعتها هى، مستغلة ضعف الطرف الآخر، ومن منطلقات استعلائية غير مفهومة وغير مقبولة معا.
فمن العار أن تظهر مذيعات ومذيعون مصريون على الشاشات المصرية وينتصرون لبنيامين نتنياهو، ويطالبونه بإكمال حرب الإبادة حتى القضاء على آخر فلسطينى فى قطاع غزة، ومن العار أيضا أن تمتلئ صحف مصرية بمقالات تخطّئ المقاومة، وتحملها مسئولية العدوان على القطاع، وتتشفى بدماء الأطفال والشهداء، و"تزغرد" ابتهاجا بكل غارة إسرائيلية تطلق صواريخها وحممها لتمزيق اللحم الفلسطينى وتشرد مئات الآلاف فى العراء وفى شهر رمضان الكريم.
من يتابع حملات الحقد والكراهية هذه يتبادر إلى ذهنه أن الشعب الفلسطينى احتل مصر، وانتهك عرض نسائها، ونهب ثرواتها وأذل رجالها وحول مياه نيلها، وفرض عليها حصارا تجويعيا خانقا، تماما مثلما فعل "الهكسوس" أو التتار وكل الغزاة الآخرين.
قطاع غزة الذى لا تزيد مساحته عن 150 ميلا مربعا، ويعتبر أكثر مناطق العالم ازدحاما بالسكان، أصبح فى نظر الكثير من الإعلاميين المصريين دولة عظمى تملك قنابل نووية، وتشكل الخطر الأكبر على أمن مصر واستقرارها حتى فى ظل المجازر التى يتعرض لها على أيدِ الإسرائيليين على مدى عشرين يوما من القصف المتواصل برا وبحرا وجوا.
مظاهرات احتجاج على هذا العدوان انطلقت فى معظم العواصم العالمية: فى (لندن، باريس، واشنطن، الهند، باكستان، بنجلاديش)، ولا مظاهرة واحدة فى القاهرة ترتقى إلى مكانة مصر ودورها وتعكس روابط الجوار والتاريخ المشترك.
صبرنا كثيرا على هذه الحملة، وقررنا عدم الرد؛ لأن معركتنا ليست مع مصر، ولن تكون، ولأن العدو الذى يسفك الدماء هو إسرائيل المدعومة أمريكيا وغربيا، ولأننا اعتقدنا أن هذا العدوان الوحشى قد يعيد إحياء بعض الضمائر الميتة، أو يحرك مشاعر الأخوة والمحبة، ولكن اعتقادنا لم يكن فى محله للأسف.
فتحنا أعيننا هذا الصباح على تقرير طويل نشرته صحيفة مصرية، تعتبر واحدة من الأوسع انتشارا، نقلا عن صحيفة إسرائيلية تدعى "غلوبس" يكشف النقاب عن الحسابات البنكية الخاصة بقيادات حركة "حماس"، وزعم التقرير أن السيد إسماعيل هنية يملك أربعة مليارات دولار، بينما تصل ثروة السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسى للحركة من 2 ـ 5 مليارات، أما السيد موسى أبو مرزوق، فتبلغ ثروته ثلاثة مليارات دولار، علاوة على أساطيل السيارات الفارهة والشقق الفخمة فى عواصم عالمية.
الحديث عن ثروات القادة الفلسطينيين بهذه الصورة المضخمة ليس جديدا فى مصر، فقد قرأنا تحقيقات ومقالات فى هذا الخصوص لأقلام معروفة فى حينها، مثل: (موسى صبرى، وأنيس منصور وصلاح قبضايا)، صبت كلها فى تصعيد الكراهية للشعب الفلسطينى، وتحريض الشعب المصرى ضده، وبما يبرر زيارة الرئيس محمد أنور السادات للقدس المحتلة ومخاطبة الكنيست، وتوقيع اتفاقات كامب ديفيد بعد ذلك فى نسف للإرث القومى المصرى الذى بناه وعزز أسسه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وجعل قضية فلسطين ومواجهة المشروع الإسرائيلى العدوانى عنوانه الرئيسى.
نفهم، ولا نتفهم مطلقا لجوء الرئيس السادات إلى هذا التحريض الإعلامى، كضربة استباقية، لتوفير الغطاء؛ لشق الصف العربى والتفريط بحقوق العرب المشروعة فى فلسطين، ولكن لا نفهم لماذا يلجأ الرئيس عبد الفتاح السيسي للأسلوب نفسه، بل ما هو أشرس منه، وفى مثل هذا التوقيت التى تتعرض فيها الأمتين العربية والإسلامية إلى مثل هذا العدوان الدموى الوحشى؟
أنا أعرف شخصيا جميع قادة "حماس″ الذين وردت اسماؤهم فى هذا التقرير المفبرك، فالسيد هنية ما زال يعيش فى مخيم الشاطئ لللاجئين الفلسطينيين وفى بيت بسيط ومتواضع جدا، ويعيش حياة متقشفة مثل باقى أهل المخيم، ويمكن أن يتعرض للاغتيال فى أى لحظة، أما الدكتور موسى أبو مرزوق، فلا يبعد بيته فى مخيم "يبنا" عن بيتنا فى مخيم أسدود فى رفح إلا خمسين مترا، وتوفيت والدته فى البيت نفسه ولم تنقل للعلاج فى مصر أو غيرها من المرض الذى أقعدها، وقول الصحيفة نفسها أنه ذهب إلى أمريكا فى التسعينيات، نقلا عن شهادة ضابط إسرائيلى، من أجل الحصول على أموال، لتمويل ودعم حركة "حماس" من شخصيات أمريكية ثرية، فلا يستحق التعليق عليه؛ لأن الدكتور أبو مرزوق كان فى حينها معتقلا فى أحد السجون الإسرائيلية، وكنت أرسل له اشتراكا يوميا فى الصحيفة التى كنت أترأس تحريرها فى لندن، وعلى تواصل دائم معه.
وبقى السيد خالد مشعل الذى قالت الصحيفة: "إنه يملك خمسة مليارات دولار، وأنا شخصيا زرته فى مكتبه وبيته فى دمشق، وأعرف جيدا أنه زوّج ابنته من أحد كوادر حركة "حماس"، وهو شاب بسيط ينتمى إلى أسرة معدمة من مخيم اليرموك فى سورية، وكان حفل الزفاف متواضعا جدا.
لو قالت الصحيفة المصرية: "إن ثروة هؤلاء بالملايين، وهى ليست كذلك حتما، ربما وجدت من يصدقها، ولكن بالمليارات فهذا أبشع أنواع الفبركة ولدينا مثل يقول "كيف عرفتها كذبة، فيرد لأنك كبرتها".
من يقف خلف نشر هذا المقال ليس غبيا ويعرف جيدا ماذا يفعل، فعندما يقرأ أشقاؤنا البسطاء المعدمين الذين يعيشون على الكفاف فى مصر مثل هذه الأرقام يميل معظمهم إلى تصديقها للأسف، وأنا تعلمت فى الجامعات المصرية، وأعرف تأثير الإعلام وحملاته على البسطاء، وتابعت كيف نجح هذا الإعلام فى تحويل توجه الشعب المصرى من المحبة المطلقة للعرب والعروبة إلى الكراهية الحاقدة لهم عندما أراد الرئيس السادات نقل البندقية من الكتف الروسى إلى الكتف الأمريكى، وحرف السياسة المصرية تجاه التطبيع مع إسرائيل ورفع عَلَمَهَا فى قلب القاهرة.
***
سنظل، ورغم جرحنا الغائر من جراء هذه الحملات الإعلامية الظالمة، نثق بالشعب المصرى الشقيق، ونعتبره عمقا وسندا لنا وللعرب جميعا، فهذا الشعب الذى قدم أكثر من مئة ألف شهيد؛ نصرة للقضية الفلسطينية لا يمكن إلا أن يكون فى خندقها، وأن حملات التحريض هذه، على شراستها، ستظل محدودة الأثر، ومجرد سحابة عابرة مثل كل سابقاتها، أما الزبد فيذهب هباء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض".
مصر العراقة والتاريخ ونصرة المظلوم والانتصار لقضايا الحق والعدل التى عرفناها وأحببناها لن تتغير فى أذهاننا، وسنورث حبها، وعرفاننا بجميلها، لكل أبنائنا وأحفادنا، أما هؤلاء الذين يتطاولون على أشقائهم المحاصرين المجوعين الذين يعيشون تحت القصف وينتظرون الشهادة فى أى لحظة، ويقفون فى خندق العدوان الإسرائيلى، فلا يسيئون للشعب الفلسطينى بقدر ما يسيئون لمصر وإلى دينهم وعقيدتهم، وإرث شعبهم وتاريخه المشرف فى الانتصار لقضايا الحق والعدل.
نحن متيقنون أن شرفاء مصر هم الأغلبية الساحقة، وهؤلاء لا يمكن أن يقبلوا بهذه الإساءات لمصر قبل الشعب الفلسطينى، وبهذه الطريقة الهابطة والمستهجنة، إساءات لأناس يقفون فى خندق المواجهة لعدو شرس دموى يتآمر على مصر ودورها ومكانتها ونيلها.
#مكملين #احنا_متراقبين #ارحل_يا_عرص #مرسى_رئيسى #كلنا_مسلمين #شبكة_صوت_الحرية