الفلاح المصري كما يراه اليهود
د. أحمد إبراهيم خضر
كلُّ فلاح مصري يُغادر قريته متَّجِهًا إلى المدينة للدِّراسة أو للعمل أو للزِّيارة يشكِّل خطرًا على اليهود، وتتفاوت درجاتُ هذا الخطر؛ تعظم إذا سافر إلى القاهرة بالذَّات، وتَخِفُّ قليلاً إذا ذهب إلى عاصمة مُحافظته، أو إلى مدينة من المدُنِ التي تبعد عن قريته، وإذا عاد إلى قريته بعد انتهاء مهمَّتِه في المدينة فهو مَصْدر خطر أيضًا.
الفلاَّح المصري - كما تقول دراسات الباحثين اليهود - متميِّز عن أيِّ فلاح آخَر في بلادِ ما يسمونه "بالشَّرق الأوسط" أو "الهلال الخصيب" بِمُواظبته على الصَّلاة في المسجد، ولا تكاد تَخْلو قرية من قُرَى مصر من وجود مسجد بِها يذهب الفلاَّحون إليه للصلاة.
القرية المصرية كانت لِقُرون عديدة تدفع بأبنائها إلى القاهرة؛ لدِرَاسة الدِّين في "الأزهر"، وكان "الأزهر" إلى عهدٍ قريبٍ الطريقَ الأكثر تَميُّزًا في تحقيق نَقْلة اجتماعية ذات قيمة لأبناء القرى، وإنَّ العديد من العلماء، بل إنَّ أكثر من نِصْف شيوخ الأزهر، ينحدرون من أصول ريفيَّة، كان "الأزهر" في الماضي قلعة الدِّفاع عن الدِّين، وموقع مُختلِفِ الأنشطة الدِّينية، أمَّا اليوم فإنَّه تَحْت قبضة الحكومة، ويخضع لإشرافٍ وضبطٍ قويٍّ من جانبها، فتحوَّل إلى موقع مُسالم يندر أن يَجِد فيه أي نشاط معادٍ للحكومة فرصةً للظُّهور[1].
إذا تعلَّم الفلاَّح المصري فسيصبح يومًا ما خطرًا على اليهود؛ لأنَّه قد يصبح عضوًا في جماعة إسلاميَّة، وإذا ذهب الفلاح المصري إلى القاهرة فأين سيُقيم: في الجمَّالية، أو في الدَّرب الأحمر، أو في الحُسَينية، أو في منطقة حزام الفقر القاهريِّ، أم سيقيم في الحلميَّة الجديدة، أو القصر العيني؟ وكلُّ هذه المناطق لها دلالاتها عند اليهود.
أمَّا إذا ذهب إلى المدن الكبرى في المُحافظات فإنَّ الخطر على اليهود قائم؛ هناك الجامعات الإقليميَّة، وهناك فُرَص العمل، ووسائل الرَّاحة، وهناك الجماعات الإسلاميَّة أيضًا، أينما ذهب فإنَّها هناك، سواءٌ ذهب إلى الإسكندريَّة أو بورسعيد أو الزَّقازيق، أو ذهب إلى طنطا، أو نجع حَمَّادي، أو غيرها من مدُن المحافظات التي لم يَكُن لها ذِكْر في الماضي على خريطة مصر السياسية.
إذا ذهب الفلاَّح المصريُّ إلى الصلاة في المسجد أو في المدينة، أو استمع إلى حلقات الدُّروس التي يتعلَّم فيها أصول دينه، أو اشترك في جمعيَّات إسلامية خيريَّة، فإنَّ الخطر على اليهود قائم أيضًا.
من الخير للفلاح المصري - كما يرى الباحثون اليهود - أن يَقْرأ جريدة "اللواء الإسلاميِّ"؛ لأنَّها الجريدة التي أنشأَتْها الحكومة؛ بِغَرَض مُحاربة ما يسمَّى "بالنُّموِّ الخطر للأصوليَّة"[2].
لا ضرر من أن يستمع الفلاَّح المصريُّ إلى إذاعة القرآن الكريم، أو إلى البرامج الدينيَّة في المذياع والتِّلفاز، لكنَّهم يُحَذِّرون من دروس الشيخ "الشَّعراوي" الذي كانوا يرَوْنه يومًا هذا الوزيرَ الذي دفعَتْه السُّلطات للدِّفاع عن الخطِّ العصري، ثم عادوا يعتبرونه اليوم أحدَ الأصوليِّين.
على الفلاح المصريِّ ألاَّ يقرأ كتابات الشيخ "كشك" التي تذكِّرُهم بكتابات الإمام "حسن البنَّا"، ولا أن ينظر في مؤلَّفات "سيد قطب"!
لا ضرر من انضمام الفلاَّح المصري لحلقات الصُّوفية، مع الحذر من أن تكون هذه الحلقات مَعْبَرًا إلى الجماعات الإسلامية.
"القرية النُّوبية" قنبلة زمنيَّة موقوتة، يَحْسب لها اليهود حسابًا دقيقًا، كما كان النَّصارى يفعلون من قبل، فسلَّطوا عليها مركز بُحوث الجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة؛ لدِرَاسة ما يُسَمَّى بالسُّلوك الدِّيني للقرويِّ النُّوبي.
اليهود قلقون من البَعْث الديني في قُرَى النوبة ذات المستوى التعليميِّ المرتفع، وقلقون من اتِّجاه نساء النوبة نحو الإسلام الصحيح، لكنَّهم مطمئِنُّون إلى أنَّها لا زالت بعيدة عن مرمى الجماعات الإسلاميَّة.
لقد فشلت الحركات الإسلاميَّة - كما يرى الباحثون اليهودُ - في تجنيد أتْباعٍ لها في القرى المصريَّة، لكن الحقيقة المفزعة هي أنَّ القرية المصرية هي التي ولدَتْ "حسن البنَّا" في المحموديَّة في عام 1906، وأكَّد اليهود "لروبرت ميتشيل" أنَّ "المَحْمودية" قرية وليست مدينة كما كان يتصوَّر وهو يكتب عن تنظيم الإخوان المسلمين، "حسن الهضيبي" - خليفة البنَّا - ولد في قرية "عرب الصوالحة" في منطقة شبين عام 1890، "سيد قطب" المُحرِّك الأساسي للفكر "الأصولي" - كما يرى اليهود - ولد في قرية "موشا" بالقرب من أسيوط.
إنَّ مدُنًا مثل طنطا وأبو تيج والأقصر مثلاً، كانت في الماضي مجرَّد مراكز تجاريَّة إقليميَّة، وأماكن للأضرحة والقباب والاحتفالات بالْمَوالد، تجذب إليها الكثير من الفلاَّحين المصريِّين، لكنَّها اليوم - إلى جانب ذلك - تُشَكِّل مركزَ إمدادٍ بِما يسمَّى "بالفكر الأصولي" و"الجماعات الأصوليَّة"، إن الفلاحين يرسلون أبناءهم إلى هذه المدن للدِّراسة، والموظَّفون يفضِّلون أداء صلاة الجمعة بها.
إن مدُنَ المحافظات تعتبر مراكز لِنَشْر سلوكيَّات الإسلام الصحيح، وهناك يتعرَّض الفلاحون لهذا "الفكر الأصوليِّ"، كما ظهر من تبَنِّي الطُّلاب من ذوي الأصول الريفية لهذا الفكر.
اهتمامات الباحثين اليهود بِما يجري على الساحة المصريَّة لا حدَّ لَها، ففي الوقت الذي انشغل فيه المراقبون بتطوُّرات حركة الصَّحوة الإسلامية بِما يسمُّونه بالْمَظاهر العنيفة لهذه الصَّحوة، ودوافع قادتِها، كان الباحثون اليهود مشغولين بدراسة الأبعاد العميقة لِهذه الصَّحوة، وعلى الساحة المصريَّة بالذات.
انطلق الباحثون اليهودُ من مقدِّمتَيْن أساسيتَيْن، بنَوْا عليهما نتائجَ دراستهم، تقول المقدِّمة الأولى عندهم: إنَّ للإسلام مظهرَيْن: أوَّلهما هو الإسلام الصحيح "الذي يعتمد على الأصول"، وهو مصدر الخطر الحقيقيِّ عليهم؛ لأنَّه يَجْمع حوله ما يسمُّونه بوقود التيَّار الأصولِيِّ والجماعات الإسلاميَّة، وخاصَّة المسلَّحة منها، أمَّا الثاني فيسمِّيه اليهودُ "بالإسلام الشعبِيّ"، وهو عبارة عن مُمارساتٍ للإسلام ذات جذور لا إسلاميَّة، بعضها فرعوني، مثل الاحتفال بعروس النِّيل، واحتفالات الزَّار، والموالد، وعبادة الأضرحة، واستخدام التعاويذ والتَّمائم، وأخْذ العهد، والحلقات الصُّوفية، وكذلك كل ما يَسْلُكه الناس في حياتهم اليوميَّة على اعتبار أنه من الدِّين، وهو في حقيقته عاداتٌ موروثة موغِلة في القدم تعتبر من أقْدَم عادات الأمم في العالَم.
أمَّا المقدِّمة الثانية فتقول: إنَّ السُّلوكَ الدِّيني الشَّعبي ذا الجذور الإسلاميَّة ينتشر في القرية المصريَّة، أما سلوكيَّات الإسلام الصَّحيح فإنَّها ترتبط بسُكَّان الحضر المتعلِّمين، لكن هذه الارتباطات ليست حادَّة ولا قاطعة؛ حيث يُمْكن أن يَخْتلط الإسلام ذو المظهر الشَّعبي بالإسلام الصحيح في القرية، ويُمكن أن توجد مظاهر عديدة لسلوكيات غير صحيحة للإسلام بين سُكَّان المدن.
من هاتين المقدِّمتَيْن انطلقَتْ دراساتُ الباحثين اليهود، فانكَبُّوا على دراسة كلِّ ما توافَرَ لدَيْهم من مصادِرَ ومراجع قديمة وحديثة، لعلَّها تفيدهم في فَهْم أبعاد الصَّحوة في مصر، والتخطيط لِمُواجهتها بما يرَوْنه مناسبًا
انشغل الباحثون اليهود بِمُحاولة الإجابة على سؤالَيْن هامَّيْن:
الأول: إلى أين تتَّجِه الوُفود المهاجرة من الرِّيف المصري إلى المدينة: إلى الإسلام الصحيح؟ أم إلى مَظاهره غير الصحيحة التي ترَبَّت عليها؟
الثاني: هل تَفْهَم الحكومة المصريَّة وتَعِي جيِّدًا هذه القضيَّة؟ وماذا أعدَّتْ لِمُواجهتها ومدى قوَّة وفاعليَّة هذه المواجهة؟
تابعَ اليهودُ بدايات الصِّدام بين دُعاة الإسلام الصحيح، ومظاهر السُّلوك الدِّيني غير الصَّحيح منذ بداية القرن التَّاسع عشر، تركَّز هذا الصِّدام على شعائر الوفاة وزيارات الأَضْرحة واحتفالات الزَّار والحلقات الصُّوفية، وقاده في بعض الأحيان الشَّبابُ العائد من القاهرة بعد دراسته في "الأزهر"، وساعد على توقُّدِه تحسُّنُ وسائل الاتِّصال والمواصلات بين القرية والمدينة.
اليهود مُطمئنُّون إلى أنَّ مظاهر السلوك الديني غير الإسلامي ما زالَتْ قائمة ومنتشرة ومستمرَّة، بل إنَّ جانبًا منها قد كُسِيَ بغطاء إسلامي، إنَّهم مُطمئنُّون أيضًا إلى أنَّ دعاة الإسلام الصحيح لم يتمكَّنوا بعدُ من القضاء تَمامًا على هذه المظاهر، قارَنَ اليهودُ قائمةَ الاحتِفالات بالموالد والأولياء في القرن التاسع عشر بتلك القائمة الحديثة التي أعدَّها باحثون مثل "ماكفرسون" في الأربعينيَّات و"بانيرث ودي جونج" في الستينيَّات والسبعينيات، توصَّل اليهودُ إلى أنَّ هناك انخفاضًا في كمِّ الاحتفالات بها، لكن الشَّعبيَّة الكبيرة لأَضْرحة الحسين، والسيدة زينب، والإمام الشافعيِّ طمأنَتْهم.
عاد اليهود إلى موقف "الأزهر" من هذه القضيَّة تاريخيًّا، فتوصَّلوا إلى أنَّ صلابة موقف الأزهر في الدِّفاع عن الإسلام الصحيح أصبحَتْ في ذِمَّة التاريخ، إنَّهم اليوم مطمئنُّون لنجاح الأزهر البالغ في تَجَنُّب الجدل الدِّيني حول هذه القضيَّة، وقدرته على الدِّفاع عن هذه التَّركيبة التي تَجْمع بين الإسلام الصَّحيح ومظاهره الشعبيَّة، والفتاوى التي تصدر دفاعًا عن هذا الجانب أو ذاك.
ليست للمسلمين العصريِّين أيَّة جذور عميقة في تُرْبة الشَّعب المصري - كما يرى الباحثون اليهود - إنَّهم كحركةٍ ظهرَتْ بين الصَّفوة التابعة للفِكْر الغربي - قابعون بأفكارهم في دوائر الحكومة، ويكتبون في صحُفِها، ويدخل الأزهريُّون الذين يعملون لصالح الحكومة ضِمْن فئة هؤلاء المسلمين العصريِّين، وإن كانت الصحوة الإسلامية قد أوقعتهم في ورطة شديدة.
إنَّ التغيُّرات الدِّينية في القرية المصريَّة بطيئة، و"الفكر الأصولِيُّ" أقَلُّ انتشارًا في قرى مصر من مدُنِها، هذا شيء مُطَمْئِن، لكن دخول هذا الفكر إلى القرية في صورة موادَّ مطبوعةٍ، أو عن طريق الزيارات المتكرِّرة لباعة الكتب المتجوِّلين، ووجود هذا الفكر بين صفحات الكتب التي يحتفظ بها معلِّمو المدارس في مكتباتهم المتواضعة بِمَنازلهم شيءٌ لا يُطَمْئن، فالطبيعة المُحافظة للقرية المصريَّة حالت في نظر اليهود دون انضمام القرويِّين إلى تنظيم الإخوان المسلمين.
لَم يكن الفلاَّحون قادرين على وصل الهوَّة بين ما توارثوه وبين فكر الإخوان، وهذا شيء طيِّب، لكن الذي ليس بطيِّب هو أن الفلاحين المقيمين في المدُن هم الذين انضَمُّوا لتنظيم الإخوان.
أمَّا الذي يجري في القرية النوبية فلا يُطَمْئِن اليهود، صحيح أنَّ الحركات الإسلاميَّة المسلَّحة لَم تَنْجَح في جَذْب شباب النوبة، لكنَّ النوبيِّين بعد استيطانهم الجديد، وبعد تغيُّر قياداتِهم التقليدية، قد تَخَلَّصوا من الكثير من الشَّعائر ذات الأصل الوثَنِيِّ، واعتدلَتْ حفلاتهم الدِّينية، وتقلَّصَت حفلات الذِّكر والزَّار، ويُرجع الباحثون اليهودُ هذا التَّفكيرَ الدِّينِيَّ إلى حركة الذَّهاب والعودة المتكرِّرة لأبناء النوبة إلى القاهرة من قرى النوبة، فيعودون إلى أهليهم بأفكار صحيحة عن الإسلام.
انْزعَج اليهودُ من مسألة التعليم الرَّسْمي في مصر، لقد خطّط منذ عشرات السنين أن يؤدِّي التعليمُ إلى علْمنَةِ البلاد، لكنَّ الذي حدث بالفعل قد خيَّب الآمال، لقد أدَّى التعليم إلى تغيير الأنماط الاجتماعيَّة الدِّينية في مِصْر لصالح "الفكر الأصولي" كما يسمِّيه اليهود! ولَم يَعُد يَخْفى على أحدٍ ارتفاعُ المستوى التعليميِّ لشباب الجماعات الإسلامية، فإنَّ نصف هؤلاء الشباب هم طُلاَّب جامعات، والعديد منهم خرِّيجون مهنيُّون متعلِّمون، وذلك على العكس تَمامًا من الحالة التعليميَّة لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين في الأربعينيَّات والخمسينيَّات، إنَّ هذا الشباب قد درس العلم والتكنولوجيا، وهم مؤهَّلون الآن لِما يسمِّيه اليهودُ بِمَرحلة "ما بعد العَصْر"، وهي مرحلةُ تطَهُّر الإسلام من شرور السيطرة الغربيَّة وعاداتِ الاستهلاك التَّرَفِي، والعودة بالأخلاق إلى أحضان الإسلام، سيُمكِّن هذا التعليمُ الشَّبابَ من فَهْمِ فكر "سيد قطب" الذي يَحْتاج إلى درجة عالية من التَّجريد، كما حدث ويحدث مع رسائل "حسن البنا"، وتُسْهِم شرائط الفيديو والكاسيت بدور ملحوظ في هذا المجال.
إنَّ ارتفاع المستوى التعليميِّ بين الرِّجال وانتشارَ أفكار الإسلام الصحيح - ساعدَهم على معارضة انغماس نسائهم في مظاهر السُّلوك الدِّيني الخاطئ، والمشاركة في حفلات الزَّار، وامتدَّ الأمرُ إلى مطالبة النِّساء بتخصيص أماكن لَهنَّ في المساجد؛ للصَّلاة، وللاستماع إلى الدروس الدينية، لقد حدث ذلك في القُرَى كما حدث في المدن، حتَّى المناطق البدويَّة في مصر اتَّجهَتْ إلى الإسلام الصحيح، فبنَتِ المساجد، واستعانت بأئمة لها من الحضر.
إنَّ لإذاعة القرآن الكريم والبرامج الدينيَّة في التلفزيون المصريِّ شعبيَّةً كبيرة بين الفلاَّحين، لكنَّ هذه الشعبية لا تُقْلِق اليهود؛ فهي شعبيَّة منْتَجة عن إشباعٍ لِحاجة "عاطفيَّة"، وليست "أيديولوجية"، فالذي يزعجهم هو أن يبدأ الفلاَّحون في فَهْم معاني الآيات الَّتي يستمعون إليها فَهْمًا صحيحًا، هنا سيتجاوز الاستماع حدَّ النَّشوة والتأثُّر الرُّوحي بِصَوت المقرئ إلى حدِّ التفكُّر والعمل بِها، وهذا ما يحسب له اليهودُ ألف حساب.
القاهرة بالنِّسبة للباحثين اليهود هي المنطقة الوحيدة للأنشطة التي تُمَثِّل خطرًا حقيقيًّا على الحكومة وعلى اليهود معًا، القاهرة "إحصائيًّا" هي المستَقْبَل البشري الأعظم للحركات الأصوليَّة، و"تاريخيًّا" انتقل "حسن البنا" من الإسماعيليَّة إلى القاهرة في عام 1932م، وكسب "حافظ سلامة" شهرتَه بَعْد أن رحل إليها من السويس.
تتفاوت أحياءُ القاهرة في خطورتها، ويصعب على الجماعات الإسلامية - كما يرى الباحثون اليهود - أن تنشر أفكارها في أحياء الجمالية والدَّرب الأحمر والحسينيَّة؛ فهذه الأحياء تقليديَّة نسبيًّا، وتحتوي على أضرحة وقبور كثيرة، لكنَّ هذه الجماعات يُمْكن أن تَجِد لها أتباعًا في أحياء ما يسمِّيه اليهود - بحزام الفقر القاهريِّ - قد تجد هذه الجماعاتُ صعوبة في التَّغَلْغُل إلى الأحياء المركزيَّة الوُسْطَى بالقاهرة، كما قد يصعب عليها نَشْرُ أفكارها بين أفراد الطَّبقات العليا - الوُسْطى، كما حدث لِجَمعية الشُّبان المسلمين التي خُسِف دورُها بسبب مُخاطبتها لجماعة عالية المستوى اجتماعيًّا وسياسيًّا وتعليميًّا، لكن القادة الدِّينيِّين قد ينجحون في مُمارسة دورٍ أكبر في التأثير على أفراد الطبقة الدُّنيا "الوسطى"، كما حدث مع الشَّيخَيْن "عبدالحميد كشك" و"حافظ سلامة"، وقد ينجحون أيضًا في نَشْر أفكارهم في أحياء منفتحة على الفكر العصريِّ والفكر الأصولي معًا، مثلما حصل مع الشَّيخ "حسن البنا" في حي الحلميَّة الجديدة.
الحكومة نفسها - في نظر الباحثين اليهود - قد تَخْدم هذا الفكر "الأصولِيَّ" عن غير قصد*، إنَّها وهي تُحاول استخدام الإسلام لصالحها تغَذِّي السُّلوك الأصولي، والتمسُّك بالإسلام بين أفراد الطبقات الدُّنيا من السُّكان، كما حدث إبَّان مدَّة حكم "السادات"، حيث ركَّزَت الحكومة على المظاهر الخارجيَّة للشعائر الإسلامية، واستعانت بعضُ الأحزاب السياسية ببعض المشايخ للمشاركة في برامجها السِّياسية التي بدأَتْها بتلاوة القرآن الكريم، وقدَّمَت تقاويم الصَّوم في شهر رمضان كهدايا.
ما زالت تجربة الإخوان وغيرهم من الإسلاميِّين - في تقديم البرامج الثقافية والفصول المسائيَّة لمساعدة الناس على فَهْم أمور دينهم - عالقةً في أذهان اليهود؛ لذلك فإنَّهم يُحَذِّرون من هذه الجمعيَّات التي تعطي دروسًا في القرآن والدِّين في الأحياء المختلفة، إنَّها ستجذب بلا شكٍّ أعدادًا من المهاجرين من الرِّيف، وكذلك الجمعيات الخيريَّة والمساجد كلها مراكز تجنيد جاهزة يُمْكن أن تستغِلَّها الجماعات الإسلامية.
أمَّا كيف يستقبل القرويُّون المهاجرون إلى المدن الأفكارَ "الأصوليَّة" والأفكار "القرآنيَّة" بالذات فهي منطقة لا تزال تحت أعْيُن الباحثين اليهود، كما أنَّ أعينهم تُركِّز عليهم وتراقبهم في القاهرة والإسكندرية وغيرهما من المدُن؛ هل سيسلكون الطريق إلى الإسلام الصحيح؟ أم سيحافظون على عاداتهم التي قَدِموا بها من الرِّيف؟
ما عرَضْناه هو جانب من جوانب اهتمامات الباحثين اليهود، كتبوه ونشروه دون أدْنَى اعتبار لإمكانيَّة استفادتنا منه؛ لأنَّهم واثقون من مقالة "موشي دايان": "إنَّ العرب لا يقرؤون، وإذا قرؤوا لا يفهمون".
[1] انظر: Uri Kupferschmidt, Reformist and Militant Islam in Rural and Urban Egypt, Middle Eastern Studies, Vol:23, 4, Oct. 1987 pp.403 - 418.
بالرغم من أنَّ هذه الدِّراسة ظهرَتْ كاملة في عام 1987، فإن مسودتَها قد قدمَتْ إلى حلقة "دراسة الإسلام بين الريف والحضر في منطقة غرب إفريقيا" التي عقدَتْها الجامعة العبريَّة بالقدس في يونيو 1983.
[2] يقول "إيمانويل سيفان" عضو معهد الدراسات المتقدِّمة في برنستون، وأستاذ التَّاريخ الأوربي الحديث وتاريخ الشرق الأوسط في الجامعة العبرية بالقدس، ورئيس تحرير مجلَّة "جيروزاليم كوارترلي": "ربَّما كانت قصَّة جريدة "اللواء الإسلاميِّ" من أعظم قصص النَّجاح العربي الملحوظ في الأعوام الأخيرة، ظهرَت الجريدة في عام 1981 كَمُلحق دينِيٍّ لجريدة الحزب الحاكم (مايو)، وتَحوَّلَت في عام 1982 إلى جريدة أسبوعيَّة مستَقِلَّة، تصدرها مطابع الحزب الحاكم، إنَّ العالَم الذي تتعامل معه الجريدة هو عالم الأشباح والموتى والجِنِّ الضارِّ وغير الضار، عالَمٌ مليءٌ بغواية الشَّيطان وأتباعه، وعلى المؤمن أن يتَّجِه إلى أحد الرِّجال المقدَّسين، أو إلى المعجزات إذا دعت الحاجة، عالَمٌ يتَّصِل فيه المؤمن بالموتى وخاصة من الأقارب يوميًّا، الموت والآخِرَة، والخطيئة التي يستحقُّ عليها العقاب مظاهر دائمة الحضور في الجريدة، إنَّه عالَمُ القرون الوسطى، إنَّ نوع التديُّن الذي تقدِّمُه الجريدة لا ينفصل عن النَّوع الذي يقدِّمُه المسلمون والعصريون الذين يعطون تفسيراتٍ نفسيَّةً للأرواح الشريرة والشيطان، ويعطون المعجزاتِ أهَمِّيَّة رمزيَّة.
انظر: Emmanuel Sivan, The Two Faces of Fundamentalism, The Jerusalem Q., 27 , Spring, 1983 , pp. 127 - 144.
* يلتقي تحليل اليهود هنا مع تحليل كثير من العلمانيِّين وفلول الشُّيوعيين الذين خفتَتْ أصواتهم، ويُعاد النَّفخ فيها من جديدٍ لِمُوازنة ثقل الإسلاميين؛ البيان.
رابط الموضوع:
http://www.alukah.net/culture/0/29487/#ixzz39rTDD39Q #مكملين #احنا_متراقبين #ارحل_يا_عرص #مرسى_رئيسى #كلنا_مسلمين #شبكة_صوت_الحرية