بقلم الأكاديمى التونسى سهيل الغَنْوشى :
قُضي الأمر وشاهد الشعب التونسي الحلقة الأخيرة من السيناريو التعيس الذي ظلّت خيوطه تتكشّف تدريجيا على مدى أربع سنوات.
هذا هو بالضبط السيناريو الذي رُسم لتونس. تجويف الثورة وإعادة إنتاج صيغة معدّلة ومهذبة للمنظومة القديمة. دولة تابعة معتمدة على القروض والمساعدات ومحكومة بطبقة سياسية طيّعة.
إنها نهاية طبيعية لمسار كارثي خُطّط له بدقة، ونُفّذ بانضباط، وغُلّف بمهارة، وسُوّق بنجاح على الأقل في الخارج. البدايات الخاطئة كانت تؤشر لهذه النهاية، لكن بعضنا كان متفائلا عندما توقّع أنّ المنظومة القديمة ستعود ولكن بدون رموزها. ورُبّ ضارّة نافعة، فقد سقطت الأقنعة وضعفت حجّة كل عرّاب أو "محلل".
الفترة الانتقالية التي ظنّها الشعب مخاضا لا مفرّ منه لتحقيق أهداف الثورة، كانت فترة احتاجها المهندسون الأجانب لتهيئة الأرضيّة. فبعض الأطراف في تونس كانت بحاجة إلى ترويض، وأطروحاتهم كانت بحاجة إلى تسييل، ومن استعصى همّش، وأطراف أخرى كانت بحاجة إلى إعادة تأهيل. وميّعت أهداف الثورة فاختزلت في الديمقراطيّة التي اختزلت بدورها في دستور وأحزاب وانتخابات.
ديمقراطية في دولة تابعة مع مال سياسي متدفّق من كل حدب وصوب، ودول متنفّذة بسفاراتها ومخابراتها. ديمقراطية ولو جوفاء أو مختلة على الطريقة الروسية أو الباكستانية أو العراقية أو اللبنانية. أما الشعب فكان بحاجة إلى "علاجات" تتضمّن تيئيسا من أهداف الثورة، وخفضا لسقف طموحاته، وتقسيما (رغم تجانسه الكامل)، وقد كان.
لم يكن أيّ من الخطوات المتسارعة والمواقف الغريبة التي شهدتها تونس في سنة 2014، لم يكن شيء من ذلك ممكنا لولا تلك الخطوات التمهيدية المدروسة. وكان الصراع على السلطة الموجّه والمحكوم من الخارج في دولة تابعة وأوضاع هشّة، الحلّ السّحري الذي استنزف الفرقاء وهيّأ الأرضية، فأجيز الدستور في أيام بعد أن تعطل لسنتين، وتشكلت حكومة تكنوقراط كانت مرفوضة، وأسقط قانون العزل السياسي، وأجريت الانتخابات تباعا، واحتفل الجميع بنتائج الانتخابات التشريعية رغم ما شابها، وانتخب رئيس البرلمان ونائبه بشبه إجماع، والتزمت النهضة الإسلامية والجبهة الشعبية اليسارية الحياد في الانتخابات الرئاسية مع ترغيب ضمني في التصويت للسبسي.
وصاحب كل ذلك دعاية غربية غامرة سوّقت للاستثناء التونسي، تماما كما كانت تسوّق للاستثناء التونسي في عهد بن علي. ومرّر كل ذلك تحت غطاء كبير اسمه التوافق من أجل إنجاح الانتقال الديمقراطي، وكأن الشعب ما ثار إلا ليأتي بأحزاب تتصارع على كعكة السلطة ثم تتقاسمها.
تسارعت الخطوات بعد تعطيل سيناريو تكرّر كثيرا في لبنان، وما إن تتفق الأطراف الرّاعية في الخارج حتى تتحرك الاتصالات والتفاهمات بسرعة بين الوكلاء المحليّين.
أربع سنوات كانت كافية لطي صفحة الثورة بتدبير خارجي وبأيد محلية، ليخرج الشعب بإنجاز وحيد انتزعه في أربعة أسابيع قبل أن يسلم أمره إلى طبقة سياسية خذلته وضيّعت الثورة. حتى مكسب الحرية العظيم أفرغ من محتواه، فأصبحت تعني أن يقول الشعب ما يشاء ويفعل السياسيون ما طاب لهم، أو ما يُملى عليهم في غياب تامّ للشفافية والمحاسبة، وفي جوٍّ من الغموض تفوح منه رائحة صفقات داخلية وخارجية مشبوهة، رغم تغليفها بالمبادئ والتوافق وتسويقها باسم الواقعية والبرغماتية وتغليب المصلحة الوطنية.
تبدّد الرّصيد العظيم الذي أوجدته الثورة في أسابيعها الأولى. زخم ثوري، وحدة وطنية، حسّ وطني عال، طموح وتفاؤل وحماس بلا حدود، وتصميم على تحقيق أهداف الثورة. فإذا بنا الآن أمام طبقة سياسية منفصمة عن شعب منقسم ومحبط لا يحلم إلا بعودة الحياة العادية، فالتقى الجميع على أمر قد قدر.
بدأ الانحراف مبكرا حيث أخطأ السياسيون قراءة ما حدث، ثم "كرّت السّبحة". لم يروا في الثورة فرصة للتحرّر والنهوض، لم يراهنوا على الشعب ولم يكونوا صادقين معه. كانت الثورة والبلاد بحاجة إلى قيادة وطنية صادقة في تبنّي تطلعات الشعب والأهداف التي ثار من أجلها، تصارح الشعب بحقيقة الأوضاع وبالطريق الوحيدة للخروج من التخلف والتبعية، وتحفزه على دفع ثمن التحرر والنهوض، وتوظف الطاقة الإيجابية التي فجّرتها الثورة لإحداث نقلة نوعية في التفكير والوعي والسلوك، وفي الإنتاج والعطاء والتضحيات.
النهوض مثل الاستقلال، نقلة كبيرة ونوعية لا يقدر عليها إلا شعب معبّأ. فلم تستقل دولة إلا بعد أن أصبح الاستقلال حلما شعبيا ملهما وانخرط الجميع في تحويله إلى حقيقة. وكل ذلك لا يتحقق بأحزاب متصارعة على السّلطة أو متقاسمة لها، بل بحركة وطنية جامعة وقيادة وطنية صادقة ومخلصة يلتفّ حولها الشعب لتحقيق الحلم، تنال ثقته وتسير به في طريق واضح -ولو كان شائكا- نحو هدف تهون من أجله كل التضحيات.
هذا المسار العسير كان يتطلب من السياسيين بعد انتصار الثورة أن ينسوا أو يتناسوا انتماءاتهم الأيديولوجيّة والحزبيّة وكلّ ما يفرّقهم، وأن يفكّروا ويتصرّفوا كقادة ثورة ووطن وشعب وليس كقادة أحزاب، وأن يقاوموا إغراءات السّلطة والجاه، وألاّ يتورّطوا في أيّ صفقات داخليّة أو خارجيّة تكبّلهم وترهن قرارهم، وأن يرفضوا أيّ تمويل سرّي أو مشبوه أو مشروط.
لم يكن الوقت وقت تحزّب بل وقت التحام تحت راية الوطن، التحام يفرز قيادات وحركة وطنيّة تقود الشّعب كما تقود أي حركة تحرّر وطني شعبها في معركة الاستقلال، فالتبعية لا تختلف جوهريا عن الاحتلال.
كان مطلوبا الحفاظ على الحالة الثوريّة واستثمارها لتحقيق أهدافها، وذلك بتعميق الوعي والحسّ الوطني والإجادة في طرح المشروع الوطني بوضوح وتحفيز الشّعب للانخراط فيه وبذل الغالي والرّخيص من أجل أن تصبح تونس دولة متقدّمة كاملة السّيادة مشعّة في محيطها بالإنجازات الملموسة وليس بالدّعاية والخطابة والشّكليّات. وفي علوم القيادة النّقلة النّوعيّة تحتاج زخما وهدفا موحّدا ومحفّزا ينتظم ويفعّل الجهود، والزّخم إذا فتر يصعب جدّا -إن لم يتعذّر- إذكاؤه.
والإقلاع بدولة تابعة في وجه الأطماع والأجندات الخارجيّة نقلة كبيرة تتطلّب حزما وحسما (من غير تهوّر) لا تقدر عليهما إلاّ قيادة متحرّرة مسنودة من شعبها غير مكبّلة، ليس لديها ما تخفيه أو تخشاه، إخلاصها ونكرانها للذّات يجعلانها عصيّة على التّطويع.
لم يحدث شيء من ذلك. لم تر الطبقة السّياسيّة سوى الشّغور الذي أحدثته الثّورة في السّلطة، والفرصة التي أتاحتها لجني ثمار النّضالات بعد طول قمع وتهميش، خاصّة وأنه ما عاد في العمر فسحة للنّضال أو للانتظار أو للتّضحية والمخاطرة.
انتشى الشّعب بالحرّية التي انتزعها بعد طول حرمان، وانهمك السّياسيّون في الصّراع على السّلطة قبل الأوان، بعد أن نقلتهم الثورة نقلة صاروخيّة مفاجئة إلى قلب الأحداث، صراع أدّى إلى الرّهان على الخارج، فاستعادت القوى الخارجيّة زمام المبادرة بسرعة وتحكّمت في المشهد السّياسي بما تملكه من نفوذ مباشر ومن خلال وسائط أغدقت الأموال بسخاء على الأحزاب، كما عاد رجال الأعمال بقوّة على السّاحة بعد أن كان عدد منهم متّهما بالفساد، ومنهم من موّل أكثر من حزب، وكثير منهم كانت لهم نفس العلاقة مع بن علي وحزبه ونظامه.
وظّف كل طرف ما لديه من وسائل وعناصر قوّة وتأثير، واحتدم الصّراع بفعل اللهفة على السّلطة وبفعل سياسة قديمة حديثة عنوانها "فرّق تسد"، واستبيحت كلّ الوسائل (بما في ذلك التّخريب والتّعويق)، وكانت النّتائج كارثيّة على الثورة والشّعب والوطن.
أكل السّياسيّون الذين عوّل عليهم الشّعب طعم السّلطة والمال وأدمنوا ووقعوا في الفخّ، وأصبحوا مكبّلين بنرجسيّتهم وبتعهداتهم وبوضعهم الجديد، وأصبح أغلب صنّاع القرار في الأحزاب موظّفين مكبّلين بالخوف على مستقبلهم السّياسي والمعيشي، فسهل تطويع الجميع.
صُدم الشّعب وخاب أمله في النّخب الجديدة التي شاب مواقفها الغموض والتذبذب، فأنفقت ما لديها من رصيد ومصداقيّة في تسويق مواقف عسيرة الهضم، خاصّة وأنّ أوضاعه المعيشيّة كانت في تدهور مستمرّ بسبب الغلاء والبطالة وتردّي الخدمات والانفلات الأمني والإداري.
وما زاد الطّين بلّة الفشل الذريع في ملف العدالة الانتقاليّة رغم الميزانيّة الضخمة والوعود الكبيرة. فلا محاسبة تمّت ولا مصالحة، كلّ ما حدث هو تسويات أو صفقات أغلقت بموجبها ملفّات القمع والفساد. حتى القرارات الصّائبة كانت تأتي متأخّرة.
وفي المقابل ظلّ الشّعب يستفيق تدريجيّا من النّشوة، استفاقة انعكست يأسا من التّغيير وفتورا في الحسّ الوطني وعزوفا عن السّياسة والشأن العام، انعكس في تناقص عدد المشاركين في الانتخابات الذي أصبح لا يتجاوز ثلث النّاخبين الذين يحقّ لهم التّصويت، مع مقاطعة شبه كاملة من الشّباب، حتى أنّ الانتخابات أصبحت مملّة ونتائجها لا تأتي بجديد، بعد أن تميّعت السّياسة بالتّوافق كما تميّعت الثورة، وأصبحت الأحزاب تعقد الصّفقات حتى قبل الانتخابات، وتلاشت الفوارق بين الأحزاب في البرامج والسّياسات، وأصبحت كلها تقريبا أحزاب سلطة بلا مشروع ولا أطروحات.
وجاءت نتائج الانتخابات التشريعيّة ثم نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرّئاسيّة ومواقف الأحزاب منها لتخرج الشّعب تماما من حالة النّشوة والإنكار، ويتيقن أنّ الطبقة السّياسيّة التي استأمنها على الثورة وأهدافها خذلته وضيّعت الثورة، وما عاد يهمّه إن كان ذلك نتيجة نرجسيّة أو انتهازية أو سذاجة أو أحلام يقظة، فكلّ ذلك لا يغيّر شيئا من الحقيقة التي أصبح من العبث إنكارها أو تجميلها، بعد أن اتسع الخرق على الرّاقع.
تنادى الرّافضون لعودة المنظومة القديمة من أجل إنقاذ الثورة، وهبّوا لنصرة المرزوقي في محاولة يائسة جاءت متأخّرة. صحيح أنّهم نجحوا في إضافة حوالي ثلاثمائة ألف صوت، لكن لم يسعفهم لا الوقت ولا افتقار المرشّح للكاريزما وأداؤه المتواضع لإقناع العازفين عن الانتخابات بالتصويت.
وجاءت نتائج الانتخابات الرّئاسيّة لتغلق القوس الذي فتح يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 تاريخ اندلاع الثورة التونسيّة على إنجاز وحيد معتبر تحقق يوم 14 يناير/كانون الثاني 2011، تاريخ هروب المخلوع.
وكل ما تلا ذلك هو للنّسيان، جعجعة بلا طحن، أو مقابلة مملة خلت من الأهداف والأداء. وفي الأخير عاد الحزب الذي أطاحت به الثورة ليحكم البلاد متمكّنا من الرّئاسة والحكومة والبرلمان وغيرها من أجهزة الدّولة وأدوات التأثير. وتلك صفعة لكلّ حزب ينسب نفسه للثورة.
بهذا المسار وبهذه الطبقة السّياسيّة لن يتغيّر شيء. وفي المقابل لن يعود الاستبداد، ليس فقط لأنّ الشّعب لن يقبله، ولكن أيضا لأنّ القوى الخارجيّة المتنفّذة لا تريده. فهم لم يكونوا مرتاحين مع حليفهم بن علي الذي تحوّل إلى عبء خاصة مع إفراطه في الفساد والاستبداد.
أمّا الآن، فهم سعداء جدّا بالوضع الذي تشكّل كما رسموه وأرادوه، ولذلك يشيدون بالنّظام الجديد في تونس ويتصدّون لكلّ محاولة لإرباك الوضع، خاصة بعد أن تحقق المطلوب، ولذلك يحرصون ويشاركون بقوّة في تأمين عدد من السّياسيّين البارزين في تونس. فالمطلوب دوليّا في تونس هو استقرار الأوضاع واستمرار السّياسات وليس الفوضى.
أمّا الشّعب التونسي فعليه أن يغلق قوس الثورة ويتصرّف كأنّ ثورة لم تقع، وكأنّ نظاما لم يسقط، ثمّ هو بعد ذلك أمام خيارين:
إمّا أن يسمح بتطبيع وتجذر الوضع الجديد، ويخرج من الثورة بحرّية التعبير (التفضفيض)، وتظلّ إرادته تزوّر بالطرق العصريّة، بالمال السّياسي والإعلام وكلّ وسائل الترغيب والترهيب. وأقصى ما ينتظره هو عودة الحياة العاديّة كما كانت قبل الثّورة إن عادت.
أو يتجاهل تماما كلّ الإنشاء الذي صدّع آذانه والوعود الممجوجة بالتنمية والتشغيل، وأن يحضّر لثورة ثانية تصحّح مسار الأولى وتتدارك أخطاءها وتفرز نخبة وطبقة سياسيّة جديدة غير مدينة لأحد، تصدق شعبها وتخدمه، لا تخدعه بالشّعارات ولا تحقنه بالمسكّنات، فذلك لا يليق بمن يرشّحهم القدر ليكونوا زعماء وطنيّين يقودون ثورة ويصنعون تاريخا.