في القرن الخامس عشر الميلادي ازدهرت تجارياً ولاية «ساكسونيا» الألمانية، بفضل الطبقة الكادحة من عامة الشعب من الفقراء الذين كانوا يعملون تحت إمرة طبقة النبلاء الأغنياء المالكين لزمام الأمور سياسياً واقتصادياً بالولاية.
كان النبلاء يرون أنهم طبقة مختلفة عن المواطنين العاديين الكادحين، لذلك قام المشرعون من هذه الطبقة بوضع قانون خاص يحكم مجتمع ولاية ساكسونيا. وكانت نصوص قانون العقوبات الجديد تعاقب اللصوص والمجرمين من كلتي الطبقتين؛ عامة الشعب الفقراء والنبلاء الأغنياء دون تمييز، باستثناء طريقة تنفيذ العقوبة.
فإذا كان المجرم من طبقة عامة الشعب الفقراء قاتلا فيؤتى به في وضح النهار وينفذ فيه حكم الإعدام بقطع رقبته وسط جمع غفير من الناس، وكذا السارق أو المحكوم عليه بالجلد مثلاً فيجلد بنفس الشكل العلني، وإن كانت العقوبة السجن فيسجن.
أما إذا كان المجرم من طبقة الأغنياء النبلاء فإن قانون ساكسونيا كان ينص على أن تنفذ العقوبة على "ظله"، فإذا كان قاتلاً يؤتى به وسط جمع غفير من الناس وفي وضح النهار وتقطع رقبة "ظله"، وإن كان محكوما عليه بالجلد فيجلد "ظله"، وإذا كان محكوماً عليه بالسجن فإنه يدخل السجن من الباب الرئيسي ويخرج في الوقت ذاته من باب مخصص للنبلاء.
كان هذا في القرن الخامس عشر، أما الآن فقد ازدهرت ولاية ساكسونيا الألمانية فعلاً عندما سادت العدالة وسيادة القانون بين مواطنيها، وباتت من أهم الولايات الالمانية المزدهرة اقتصادياً وعاصمتها دريسدن وتضم ثلاث مناطق إدارية هي لايبزيغ، دريسدن وكمنيتس.
في القرن الواحد والعشرين، وفي جمهورية مصر العربية عندما استشرى الفساد في مؤسساتها، استلهمت طبقة الفساد والاستبداد في دولة السيسي-مبارك تجربة أقرانهم من النبلاء الساكسونيين لتستحدث منظومة قضائية جديدة، لم يطلقوا عليها اسم "ساكسونيا" لسمعة الكلمة السيئة تاريخياً، بل أطلقوا مصطلحاً بديلاً جديداً اسمه "القضاء الشامخ" في تعبير عن علوه ورفعته ومحاولة تأليهه حتى لا ينتقد فساده أحد.
وبتطور الزمان، من القرن الخامس عشر إلى القرن الواحد والعشرين، تطور قانون ساكسونيا في صورة قضائها الشامخ الجديد.. فلم يعد المجرمون من النبلاء بحاجة إلى تطبيق القانون على ظلهم، بل الإفراج الفوري والإفلات الرسمي من العقاب وإن كانوا قتلة أو فسدة أو ناهبي ثروات الشعب الكادح الفقير.. ولم تعد هناك حاجة إلى إجراء محاكمات من الأساس، فكل الطبقة الأخرى من عامة الشعب مجرمون إرهابيون تصدر ضدهم أحكام إعدام جماعية دون دفاع.. هم من يقتلون أنفسهم بأيديهم أو بأيدي إخوانهم المعتصمين معهم أو بفعل أرواح شريرة غير مرئية تنتمي لعالم "ساكسونيا".. هذا بخلاف أحكام من ثلاث إلى ست سنوات ضد من راجع أحد القضاة الشامخين طالبا منه إضافة مستندات أو تفريغ "تسريبات" تثبت تزوير القضاء الشامخ، أو سؤال من متهم من طبقة عموم الشعب لقاض شامخ آخر: هل تملك "حساب شامخ" على فيسبوك؟
وتبقى كلمات لأحد الجنرالات الساكسونيين تلخص ماهية قانون ساكسونيا وقضائها الشامخ في القرن الواحد والعشرين: "هكلم القاضي يجيب شهود"!!.
http://hatemazzam.com/