أحمد منصور /
*كاتب وشاعر من لبنان
أيها السادة: لا شك أنكم سمعتم بمجزرة الثقافة العربية والإسلامية في باريس هبة السِّين وأم الثقافة في العالم، ألا وهي:
الحكم بالإعدام على المركز الثقافي المصري حتى إشعار آخر وقتل مديره الدكتور محمود إسماعيل بجميع الأشكال والألوان سنماراً آخر جزاء ثلاثة عشر عاماً ونيف (أي ثلث عمر المركز تقريباً) من التفاني في أداء العمل الثقافي النموذجي.
تعلمون أيها السادة أن المركز العريق هذا أسسه رجال دولة مصريون رواد رؤيُّون عام 1965 في قلب أوروبا والغرب بلد لويس الرابع عشر ونابليون والجنرال ديجول وحقوق الإنسان والثورة العالمية الأولى. هذا المركز كان (بعكس الجامعة العربية مانعة الجمع) جامع الشمل المتفرق في دول وأحزاب ومذاهب وطبقات، فكان بوتقة الانتليجنسيا العربية، نافذة يَطُلُّ منها العرب على الفرنسيين والأوروبيين حاملاً الحضارة والثقافة العربيتين توهجاً وسطوعاً كما كان الهوى الكاسح لهم بآثاره وحضارته الفرعونية والحلم السياحي للكبار والصغار عبر القديم القديم والجديد الجديد.
لقد كان حقاً بيت العرب بدولهم العشرين ونيف وشعوبهم العشرين ونيف ومرِّيخهم العنفواني على ضفاف السِّين ومبكاهم القدسيّ الوجداني وميداناً مجتمعياً شفافاً أمام الغربيين تشرق منه وتتجلى قيمنا وآدابنا وأخلاقنا في وجه الضباب الذي اعتاد التهام النور، والجهل الذي اعتاد بلع العقل واستمراءه.
أيها السادة:
لقد عاصرت هذا المنار منذ عام 1967 بعد سنتين من انتصابه فكان بمثابة الصدر والحضن والضوء، تعرفت فيه على أرقى الشخصيات المصرية والعربية والفرنسية فغدوت ـ ولا أبالغ ـ مستشاراً للمستشار الثقافي ومديراً آخر بعد مدير المركز ولكن دون معاش… معاشي زهو انتمائي لهذا المكان الذي جعلني إنساناً آخر خارج المكان، هوية مفتوحة تصافح هوية أي إنسان، فكلنا إخوة منذ كان آدم والزمان.
لقد كنت أفكر بهذا الصرح أكثر مما كنت أفكر ببيتي وعائلتي وبلدي… ونشاطاتي كما كتاباتي المعروفة في المركز تشهد ولست بحاجة إلى أي برهان.
لقد انتصب المركز نجمة أحد شرياني الحيّ اللاتيني، دماغ فرنسا ومكتبة ثقافتها مستلفتاً انتباه الجميع، والنشاطات فيه تتبارى وتتجارى عبر مسؤولين من أعظم ما أنجبت أرض الكنانة، فعلى سبيل المثال لا الحصر: الأستاذ فاروق حسني الفنان الذي شاد توأماً له في روما كعبة الفن والنهضة، ووصل منه إلى وزارة الثقافة التي لم يسبقه فيها إلا إمام وزراء الثقافة في مصر والعالم العربي الكاتب الراحل العظيم رفيق عبد الناصر الدكتور ثروت عكاشه، كذلك من المؤسسين عرف المركز الدكتور المتميز فتحي صالح حامل تراث مصر الخالدة على ظهره وعينيه أينما كان في وطنه المقيم والممتد، كذلك القدير الدكتور صلاح النجار الراقي والخلوق، والدكتور هاني هلال الذي غدا وزير التعليم العالي، وأخيراً المهذب الرصين المدرسة في الاعتدال الدكتور محمود إسماعيل الذي أعطى أقصى ما استطاع…
أيها السادة:
هذا الرجل المتزوج ووالد أربعة أطفال كان خادم مصر والعرب والثقافة بامتياز طيلة ثلاثة عشر عاماً ونيف (الجندي ينال التقاعد بعد ثمانية عشر)، أصبح على رحمة راتب زوجته وضمانها منذ خمسة أشهر بعد أن أفرغوا المركز من الملأ الذي كان يملؤه وعرضوا عليه تعويض راتب شهر عن كل عام من أربع سنوات خدمة فقط ضاربين بعرض الحائط التسع سنوات التي سبقتها. إنه مسرح اللامعقول في زمن اللامعقول.
إننا لا نطلب له حفل تكريم ومكافأة تليق بما قدمه لوطنه وللعرب، ولا نعتبره منزهاً ولا من جنس الملائكة الذين وطنهم السماء لا الأرض، ولكن بعض سداد الحكمة وبعض بعد النظر يا أصحاب السلطة الكرام…
ننتقل إلى قلب الدائرة وبيت القصيد وأهم الأهم ألا وهو إغلاق المركز الذي هو أهم من محمود إسماعيل وأحمد منصور ومعالي الوزير الدكتور ياسر الدجوي وسواهم، فكلنا يُستغنى عنا أما ما لا يُستغنى عنه فهو المركز… أقول هذا غير متجاهل ومتصور الأسباب التي أدت إلى إقفاله، لكن أيها المسؤولون إنها مصر التي قد تكون أقدم دولة في التاريخ والثقافة، أم العرب ولا عرب بدون مصر…
إن نصف قرن أمامكم رفعنا فيه جميعاً، مصريين وعرباً، برجاً إشعاعياً آخر للقاهرة جاراً للبنتيون مفخرة رؤوس فرنسا، ومحاكياً بشكل آخر برج إيفل العظيم… برجاً يستوقف أعينكم ويستصرخ مصرية وعروبة ضمائركم… كلنا أفراد وقوداً للفناء أما الذي يبقى فهو السمو فوق الحزازات والحزبيات والباشويات والارتفاع عن الصغائر والدعوة إلى خلق خلية أزمة وورشة عمل تحلل الوضع وتضع خطة عمل وتنطلق من جديد من عاصمة النور بمسؤولين نخبة يتصوَّفون لخدمة مصر والعرب ويترفَّعون عن الفوضى التي نعيشها.
إن الدولة يا حضرات السادة فوق الجميع وللجميع، وليست مسرحاً للأهواء ولأصحاب القوى المتطاحنة ولنا عبرة في انحدار وزوال المراكز الثقافية العربية في باريس النور… إذا كانت المسألة ليست أمنية فقط بل اقتصادية أيضاً، فإن مصر لا ينقصها الأدمغة والقامات الكبيرة للانطلاق من جديد والاستنجاد بالعرب الخيِّرين، وإنهم حسب إحساسي لكثيرون. إن إقفال المنار أمسى وكأنه محل تجاري فغدا مهجوراً تتدافع عليه الأوراق التي تعزيها الصور بداخلها ويؤنسها الغبار والحزن…
إني أناشد بأعلى صوتي من عرفتهم من أبناء مصر البررة وآكلتهم وشاربتهم وعاشرتهم من الوزير الدكتور هاني هلال والدكتور فتحي صالح والسفير العظيم الأستاذ علي ماهر ووزير الثقافة الدكتور محمد صابر عرب والدكتورة كاميليا صبحي والأستاذ محمد حسنين هيكل والدكتور مصطفى عبد الغني والدكتور سعيد اللاوندي والأستاذ جمال الغيطاني والشاعر عبد الرحمن الأبنودي، كما أناشد المسؤول الأول في هذا الأمر التاريخي ألا وهو وزير التعليم العالي الدكتور ياسر الدجوي الذي سنتعرف عليه من خلال موقفه الذي تنتظره منه مصر بفارغ الصبر ونحن وكل من يحب المركز واستمرار مصر في امتشاقها علم العروبة والإسلام في المنطقة والعالم.
حضرات السادة المسؤولين الأكارم:
لن أستطيع الإطالة أكثر، فأنا حريص على وقتكم سيَّما في المرحلة الحالية، لكنه والله غيض من فيض… ولو أطلت أكثر فسوف تفاجأون…
إنه الحب والحرص وكذلك القلق في هذه الحقبة المفصلية لمصر ولأمتنا
والله على ما أقول شهيد
اللهم أشهد بأني قد بلغت
#مرسى_رئيسى #انتخبو_العرص #الخائن_الخسيسي #كلنا_اخوان #شبكة_صوت_الحرية