كيف تفهم الشخصية العربية من خلال الفضائيات؟
ظروف العمل، قادتني إلى لاتفيا، تلك الدولة البلطيقية الأوروبية الخارجة من خلف ستار موسكو الحديدي أوائل التسعينات.
أول طلب طلبته من الجهة المضيفة، أن تتوفر لي القنوات العربية في مكان إقامتي!! ومع استغراب هذا الطلب، كانوا كرماء إلى حد توفير تقني مختص لتجهيز تلك القنوات الغريبة عن تلك الأرض بأسرع وقت.. وهذا ما كان.
الطلب «الفضائي» الغريب جعلني أشعر إلى حد كبير بأني كائن فضائي غريب أيضا، وهذا الشعور ترسخ في عشاء عمل سألني فيه أحد المضيفين «اللاتفيين» عن سر إصراري على توفير القنوات العربية، وهل الطلب يتعلق بطبيعة عملنا هناك؟ وما إن كانت تلك الفضائيات التي طلبتها معيارا لفهم طبيعة وسلوك المجتمعات العربية؟
أنا محشور في زاوية الإجابة الفورية.. لكن خيالي الجامح سرح بعيدا في إجابات من عالم الفانتازيا غير البعيد عن واقع تلك الفضائيات!!
المسألة المطروحة إذن، محاولة فهم البشر للكائنات المتواجدة بين المحيط إياه على الخليج ما غيره، من خلال اعتماد ما تبثه الفضائيات العربية، وتحليل هذا المحتوى الفضائي لكشف أسرار التعامل مع الشخصية العربية!!
صديقي كثير الغلبة والذي هاتفته ليلا وقد شرحت له القصة، لم يعتبر الأمر طرفة، وبميوله التشكيكية وعقليته المهووسة بالمخابرات وجيمس بوند رأى في هذا المعيار الجديد طريقة جديدة لفك طلاسم الشخصية العربية والتي – حسب رأي كثير الغلبة – هي شخصية عصية على التحليل ويقف أمامها علماء النفس بحيرة شديدة، ولا أي نظرية من نظريات العلم قادرة على فك لغز «العقل العربي».
واستزادة من معين بحر علوم صديقي كثير الغلبة، طلبت منه التوضيح مع الشرح فحدثني عن برامج الحوار العربي أو «التوك شو» والتي ممكن من خلالها قراءة النزعة العدوانية للعربي في أغلب حواراته، بدءا من ملاحظة سلوكه الجسدي في الحوار وليس انتهاء بأي أجسام متطايرة في الاستديو يستخدمها المحاور العربي «المأزوم» كوسائل إيضاح لفكرته التي لا تحوي أي قيمة مضافة غالبا!
مما يعني لو أن بلادا مثل لاتفيا، لا خبرة لها بالعرب من قبل، تريد التواصل مع العالم العربي فإن مراقبة برامج حوارية من هذا النوع السياسي الثقيل، قد يعطيها فكرة عن «الممارسة الديمقراطية» للحوار في عالمنا، وهو ما يفيد بنقل الملف العربي برمته من المؤسسات المختصة فيها إلى قسم المصارعة في وزارة الرياضة.. لتأهيل محاورين على مستوى المسؤولية والقدرة على التفاهم مع المفكرين العرب مثلا!!
إلى هنا انتهيت من أفكار صديقي كثير الغلبة والذي جعلني أقلق من مستقبل العلاقات العربية – الأوروبية لو اعتمدنا فرضية محتوى الفضائيات كمعيار لدراسة العرب والعقل العربي.
العربية تتحمل مسوؤلية المجتمع
في تلك الزيارة كان للفضائيات الإخبارية نصيب أكبر خصوصا في متابعة الأحداث الدموية المتتابعة في غزة هاشم..
وكان البرومو الإعلاني لمجموعة «أم بي سي» لافتا، وتلك السرعة في إنتاج هذا البرومو الذي جمع نخبة من النجوم التلفزيونيين وما تبع ذلك من لقطات ترويج مماثلة بثتها العربية أيضا، والتي قفلت معظم ما تبثه من تحشيد لمساعدة غزة بعبارة استوقفتني تقول «العربية، المجتمع مسؤوليتنا»!
العبارة فضفاضة وواسعة جدا، وهي مرسلة على إطلاقها ليتلقفها المتلقي على أي وجه يريده، وشخصيا لم أتلقفها «كأي متلق» إلا وأنا أقلب تلك العبارة تمحيصا..على منهجية صديقي كثير الغلبة.
«العربية»، كقناة إخبارية متخصصة تتبع مجموعة «أم بي سي»، ترى أن «المجتمع» هو مسؤوليتها، وهي مهمة جليلة جدا، تتطوع القناة بحملها لولا أني حتى الآن لم أعرف أي مجتمع بالضبط ذاك الذي تنطحت «العربية» لتحمل مسؤوليته.. وما هو نوع وحجم المسؤولية لهذا المجتمع غير المعرف!!
أحيانا.. نصبح الكلمات تضليلا غير متعمد.. ومهما كان حسن النية متوافرا، فإن تفسير المعاني «الفضفاضة» يجعل حسن النوايا طريق جهنم المرصوف.
«بحر العلوم» عكاشة وأيمانه الغليظة!
وتبقى «أم بي سي» مجموعة محترفة يقوم عليها محترفون في عالم الصورة والكلمة لها الاحترام، مما يجعلنا نقف بتأمل شديد، وضبط أعصاب أكثر شدة، وبمشاعر فولاذية أمام بحر العلوم العلامة العالم فريد عصره ونابغة زمانه الدكتور «رائد الفضاء» الإعلامي الرادح توفيق عكاشة وقناته الخاصة «الفراعين».
بحر العلوم عكاشة انفرد بنمطية مشهدية وضعت اسمه في قائمة المتابعة بلا شك، خصوصا مع زميلته وموظفته المطيعة حياة الدرديري والتي تتقن إرسال «الطابات» الردحية ليتلقفها عكاشة ويحولها إلى جولة ردح وصراخ وانفعالات يستخدم فيها أغلظ الأيمان ويكرر القسم بالله فيها حتى صارت درسا توضيحيا مباشرا لمعنى «يمين الغموس»!
لن نخوض في موقف «بعض الكثير» من الإعلام المصري حول حرب غزة، فالسياق السياسي المجنون في الشرق الأوسط عقب الربيع العربي وتداعياته كفيل بتفسير ما لا يفسر، لكن توفيق عكاشة، حالة منفردة في العزف النشاز المنفرد، ولو عدنا إلى فكرة اعتماد المحتوى الفضائي العربي كمعيار لفهم السلوك العربي واعتمدنا فريد عصره توفيق عكاشة نموذجا معياريا للعالم من حولنا كي يحلل الشخصية العربية، لانتهينا إلى مائة عام من العزلة بحكم قضائي دولي يجعل الأمم المتحضرة تفكر فعليا وبالتنسيق مع ناسا بإرسال العرب إلى كوكب آخر غير كوكب الأرض ليعيشوا عليه.
ونحمد الله أن هناك لبنان!!
وفي لحظة عقل انبثقت كطائر فينيق من رماد «الهبل» العربي، كانت النشرة الإخبارية الموحدة لمحطات التلفزيون اللبنانية تحت عنوان «فلسطين.. لن ننساك» لتلخص المحطات الثماني موقفا عروبيا خالص الإنسانية، كان بحد ذاته تكثيفا لفكرة الأستاذ المرجعي الكبير طلال سلمان، ومبادرة محترمة من شخصية محترمة، لنعيش على مدار نصف ساعة حالة لبنانية نفضت الكثير من الغبار عن أوراق شجرة الأرز اللبناني.
ببساطة، كان الموقف «الإخباري» اللبناني على الفضاء العربي إثباتا لفكرة أن غزة لا تقبل القسمة على موقفين، فبث لبنان نفسه وحدة واحدة في نشرة واحدة اجتمع فيها الفرقاء على نصرة فلسطين، فكانت النشرة اللبنانية باستهلالية درويشية وقفلة درويشية تقول «هنا غزة.. من أعلى أرزة».
مالك العثامنة
كاتب من الاردن
#مكملين #احنا_متراقبين #ارحل_يا_عرص #مرسى_رئيسى #كلنا_مسلمين #شبكة_صوت_الحرية