لا شك أن المعارضة التركية التي تحاول وضع العصا في عجلة العدالة والتنمية وفق تعبير أحمد داود أوغلو، تستغل موقف الحزب من أحكام الإعدام –رغم أن بعض المعارضين ينتقد أحكام الإعدام- في الترويج لأن العدالة والتنمية له أجندة إسلامية، وأنه يقحم الدولة في التدخل بالشأن الخاص لدولة أخرى (مصر)، نظرا للتقارب الأيدولوجي بينه وبينه جماعة الإخوان التي ينتمي إليها الرئيس مرسي.
ومثل هذا الترويج يستثير الزمرة الأتاتوركية بدوائر تأثيرها لا شك، وتثير مخاوف البعض على مستقبل البلاد، في ظل السقطات المزعومة في السياسة الخارجية لحكومة العدالة والتنمية.
*وكالة "دوغان" نشرت خبرا عن إعدام بعنوان "الحكم بالإعدام على مرسي، الذي أصبح رئيسًا بفوزه بنسبة 52% من الأصوات" وهو ما يحمل تعريضا بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والذي فاز بنفس النسبة، بالانتخابات الرئاسية في العام الماضي.
موقف العدالة والتنمية من أحكام الإعدام في ذلك الوقت الحرج، يؤكد على أن الحزب بالفعل يرفع قيمة المبادئ على المصالح، بما يتناسب مع هوية المجتمع التركي وقيمه الأصيلة، وليست هذه سذاجة أو مراهقة سياسية، وإنما هي تنُمّ عن تغليب البعد الاستراتيجي على التكتيكي لدى الحزب الحاكم، حيث أن التمسك بالمبادئ يحقق مصالح مستقبلية مؤثرة طويلة المدى، لا المصالح الآنية المؤقتة التي يمكن أن يجنيها الحزب.
إن أهم ما يميز حزب العدالة والتنمية وضوح ملامح سياساته الداخلية والخارجية، وتحديد ثوابتها ودوائر المتغيرات فيها.
سياسة تركيا الخارجية في ظل حكم العدالة والتنمية، والتي صاغها (كسينجر تركيا) أحمد داود أوغلو كما يطلق عليه، في كتابه "العمق الاستراتيجي"، تعتمد على تحقيق الاستقرار في المنطقة، واحترام ودعم النظم الديموقراطية والتكريس لها.
ولذلك يدور الحزب الحاكم في تركيا في فلك الديموقراطية وإرادة الشعوب، ويعارض أي قفز على صناديق الاقتراع، ولم يتوان في وصف ما حدث في الثالث من يوليو 2013 م في مصر على أنه انقلاب على الشرعية، رغم ما ترتب عليه من توتر العلاقات مع النظام المصري، وإلغاء اتفاقية الرورو.
فهو حزب يحترم مبادئه، ويقدر في نفس الوقت أهمية الحفاظ عليها وفوائدها اللاحقة، وليس أدل على ذلك من أنه قد التزم بالقوانين الداخلية التي تمنع أيا من أعضائه من الترشح لأكثر من ثلاث فترات متتالية، ما جعل الحزب يخوض الانتخابات بدماء جديدة، علمًا بأنه قانون داخلي للحزب ولا تلزمه الدولة به، رغم الحاجة الماسة إلى تغيير ذلك القانون نظرا لغياب النجوم الكبار عن الاستحقاق الانتخابي القادم.
ومبدأ احترام الديموقراطيات وصناديق الاقتراع هو راسخ كذلك في رموز الحزب من قبل تأسيسه، فليس بوسعنا التغافل عن موقف أردوغان عندما كان عضوا بحزب الرفاه، خلال ندوة عن الجزائر نظمتها شعبة اسطنبول بمشاركة كافة الأحزاب السياسية.
في ذلك المؤتمر ألقى أردوغان كلمته النارية عن الانقلاب العسكري على جبهة الإنقاذ الجزائرية التي وصلت إلى إدارة البلاد عن طريق الصناديق قائلا: "إنني أدرك التطورات التي وقعت في الجزائر باعتبارها عدم احترام للشعب الجزائري وتحقيرا لإرادته، فرغم النظام الانتخابي الجائر يفوز الإسلاميون بالسلطة، ثم وعلى الفور ينقلب عليهم الجيش فيستولي على السلطة ويُمعن في البطش والتنكيل بهم".
وقال أيضا في السياق ذاته: "إن كل نظام يعجز عن الاستقواء بشعبه فليس لأي قوة أن تحميه أو تشد من أزره، وسيكون الانهيار والزوال حتما مصيره وعاقبته المنتظرة، وأولئك الانقلابيون تنتظرهم عاقبة السوء مثلهم".
وأكاد أجزم بأن موقف العدالة والتنمية من أحكام الإعدام سوف ترفع من رصيده لدى الشعب التركي - والذي يعوّل عليه الحزب- لأن ذلك الموقف يحمل رسالة عملية ضمنية للشعب التركي مفادها: أن الحزب الذي يدافع عن حريات الشعوب الأخرى ويحترم إرادتها، لن يخون شعبه، ولن يتحدى إرادته.
ومن جهة أخرى، استطاع الحزب بمهارة فائقة، أن يدعم موقفه من إعدام مرسي، وتوجيه الشعب لقبوله، عن طريق استدعاء الأحداث الأليمة التي مرت بها تركيا من الانقلاب على الشرعية وإعدام مندريس، حيث أن الدول التي ترعى الانقلاب والضالعة فيه، هي الوجه الثابت في كل مأساة تضيع فيها أصوات الشعوب وحرياتها، وأن نجاح الانقلاب في مصر قد يعرض حريات الشعوب في المنطقة لأخطار الانقلاب.
وتزامن ذلك الموقف مع آخر مشابه، حيث أكد أحمد داود أوغلو في كلمته الخميس بولاية "أماسيا" على أن المسجد الأقصى للمسلمين إلى الأبد، وأن بلاده لا يمكن أن تكون حليفة أو صديقة لمن دنّسوا المسجد الأقصى في إشارة إلى الاحتلال الإسرائيلي.
فجاءت الكلمة ردا على تصريحات رموز المعارضة بأن القدس أرض خاصة باليهود، وانتقادهم سوء العلاقات بين تركيا والكيان الإسرائيلي.
إن هذه المواقف وغيرها، تعكس القيم والمبادئ التي يتمسك بها الحزب، والتي هي من أبرز سماته، وظني أنها ستكون عاملا حيويا في استكماله مشروعه النهضوي لبناء تركيا الجديدة.
====