إن سياسة الاستعباد والاسترقاق لأي شعب تقتضي التحقير من شأنه .
هكذا كانت سياسة الدول المحتلة للشعوب التي احتلتها وهكذا هي سياسة الاستبداد في تطويع وتعبيد الشعوب.
وبقدر ما يحط المستَعبِد من قيمة المستعبَد بقدر ما يرفع من شأنه هو زوراً وبهتاناً ، فهو الأستاذ والمعلم والعالم ببواطن الأمور وقد تصل به حد الفرعنة إلى (ما أريكم إلا ما أرى ).!!
إذا عدنا إلى تتبع معالم تلك السياسة للمحتل ثم لمن خلفه من حكام سنجد أنهم ساروا وفق خطة محكمة لتحقير الأمة ، بدأها المحتل في تحقير عقيدتنا وإشاعة أنها سر تخلفنا ، وانتزعوا من تاريخنا الطويل أسود صفحاته وأكثرها دموية وانحطاطا وصوروها علي أنها تاريخنا كله ، انتزعوا منا كلمة أمة واستبدلوها بالوطن ، ثم جعلوا الدين والوطنية ضدان لا يجتمعان.
حقروا عاداتنا وأشاعوا أن تمسكنا بعاداتنا جعلنا أقل منهم رُتبة ، وفي سبيل مساواتهم في الرتبة فتحوا الخمارات ودور البغاء وصالات القمار ..!!!
يوم سن الفرنج كذبة إبريل * غدا كل عمرنا إبريلا . (الشاعر محمد حمام).
حاول الغرب أن يجعل من انحطاط شعوبنا في الرتبة نظرية علمية قائمة على قواعد التاريخ والجغرافيا .!!
فقالوا عنا إننا شعوب توارثت جينات الاستكانة والذل والعبودية بسبب العوامل الجغرافية باعتبارنا مجتمعا زراعيا يتمتع بصفاء وهدوء وسهولة البيئة الطبيعية ، وبسبب عوامل التاريخ وتعاقب قرون الطغيان كما كانوا يصفونها في مصادرهم.
وقد ذكر نظرياتهم تلك العالم الراحل "جمال حمدان" في الجزء الثاني من كتابه "شخصية مصر" ثم تولى الرد عليها :
(هذه النظرية التي تربط بين نظام الاستبداد السياسي وعوامل الجغرافيا والتاريخ تضعنا أمام بديلين نقيضين لا يجتمعان وهو ما لا يستقيم منطقا : إما الحضارة وإما الكرامة ، إما الاستقرار وإما الحرية ، إما العداوة الاجتماعية وإما العدالة الاجتماعية ..!!
وليس حتما أن تختار مصر بين خيار الغابة الدامية أو السجن الكبير بل يمكن يقينا أن تكون وطنا حرا كريما مع ضبط الحاكم .. فصميم المشكلة والمأساة إنما هو ضبط الحاكم ).
ومن العجيب أن الغرب الذي يروج تلك الأباطيل كان غارقا في الجهل والتخلف والاستعباد تحت وطأة نظام الإقطاع وتسلط الكنيسة والملك لعقود طويلة .
خطط الغرب وعمل بكل صبر ودأب على تربية جيل من المثقفين يقومون بنفس الدور بعد رحيله ، دور تحقير دين الأمة وتاريخها ولغتها وعاداتها .
فقام هؤلاء الموظفون بدرجة مثقف بدورهم على أكمل وجه مع دعم غير محدود من الحكومات المتعاقبة التي تلت خروج المحتل.
ومن أصدق ما قيل عن صناعة هذا الجيل ما ذكره فيلسوف الوجودية الفرنسي "جان بول سارتر" في مقدمة كتاب (معذبو الأرض ) للثائر "فرانز فانون" : ( كنا نعلمهم لغتنا وعاداتنا وندبر لبعضهم زيجات أوروبية ثم نرسلهم إلي بلادهم فإذا نادينا في بلادنا: {ليحل دين الإنسانية محل الأديان المختلفة } سمعنا رجع أصواتنا من الشرق: {...المختلفة } ، فهؤلاء المثقفون الذين صنعناهم لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعناه في أفواههم.)!!!!
واستكمالاً لدور أدعياء الثقافة ظل الدور السياسي قائما في الحكومات المتعاقبة والتي روجت أننا شعب غير مؤهل للديموقراطية !!..
وآخر ما أتحفتنا به رزايا الدهر : أننا نختلف عن سائر البشر ، فمعايير حقوق الإنسان في الغرب لا تنطبق على إنسان الشعوب المُحتَقَرَة .!!!!!
والخلاصة : إن الشعوب التي تحتقر نفسها بنفسها ستكون فعلا محتقرة ذليلة ، تعيش في ذل ، وتسلم قيادها لمن يقودها كالقطيع ، لا تؤمن بحقها في الحرية والكرامة ، ولا تؤمن بذواتها وكينونتها وشرفها وكرامتها وحريتها .
إنها مسألة نفسية دقيقة في تطويع الشعوب صَوَّرها "علي شريعتي" بتشبيه بليغ: (ما أشبه الشعوب المحتقرة لنفسها بالطفل الذي تهينه أمه وتضربه فيهرول إليها ليأمن سخطها !!)
وهذا ما تراه فيمن يلعقون أحذية الطغاة كلما اشتدت وطأتهم عليهم.