لن نذهب بعيدًا في عمق حضارة السبعة آلاف عام ؛ فقط سنعود لمائة وخمسين عاماً مضت .
وقت أن كانت الصين غارقة في الأفيون ، وماليزيا وسنغافورة مجرد مباني (عِشَشْ) متناثرة تعيش على الصيد ، واليابان في بداية نهضتها.
مصر في هذا الوقت من عهد "الخديو إسماعيل" ، كانت الحدود الجغرافية لها تمتد جنوباً حتى منابع النيل (بحيرة فيكتوريا) ، وامتد سلطانها بطول ساحل البحر الأحمر متجاوزًا باب المندب إلى ساحل المحيط الهندي في الجهة الأفريقية.
وكانت حدودها تضم السودان كاملة ومعظم أوغندا وأجزاء واسعة من إثيوبيا وإريتريا والصومال وأجزاء من كينيا والكونغو.
كانت مصر تنافس إنجلترا وفرنسا وإيطاليا في مد نفوذها إلى عمقها الاستراتيجي سواء في منابع النيل أو في عمقها الأفريقي في ساحل البحر الأحمر ، بل جعلت ساحل البحر الأحمر كله تحت سلطانها بشهادة الضابط "وود" إلى السير "إليوت" سفير إنجلترا في الأستانة عام 1875 :(إن تنازل الباب العالي عن "زيلع" إلى مصر واستيلاء مصر على"بربرة" يجعلان ساحل البحر الأحمر كله في قبضة مصر، ولا ريب أن تلك المناطق التي كانت مستوحشة لا يأنس بها أحد، نجح المصريون بوصلها بالعالم المتمدين.)
أعاد المصريون بناء مدينة "بربرة" -في الصومال- التي كانت قبل قدوم الحملة المصرية عبارة عن مجموعة من العشش يقطنها صيادو السمك إلى ميناء يفوق ميناء عدن -تحت حكم الإنجليز-، وقد اعترف بذلك "هنتر" قنصل إنجلترا في الصومال في رسالة عام 1884 : (أنجز المصريون في بربرة من العمران ما يصح أن تفاخر به أية إدارة).
وأنشأوا مدينة "هرر" في قلب "إثيوبيا" والتي زارها الرحالة الإيطالي عام 1881 فكانت شهادته: ( المصريون في هذه البلاد تبدو عليهم سيماء الفاتحين الرافعين لواء الحضارة، إذ يعلمون الأطفال القراءة والكتابة، ويعلمون الفتيان الصلاة وأحكام الشريعة...).
هذا فضلاً عن إدخال زراعات جديدة لم تكن معروفة في تلك البلاد مثل القطن والأرز والذرة ، وبناء العديد من المدارس والمستشفيات والمساجد ومكاتب البريد والطرق ...
(المعلومات السابقة مصدرها كتاب "مديرية خط الاستواء" تأليف الأمير عمر طوسون ، وكتاب "مصر في أفريقيا الشرقية - هرر وزيلع وبربرة" للدكتور محمد صبري ).
كانت مصر رائدة الشرق في إنشاء الجامعة المصرية التي تخرج فيها آلاف المبتعثين من الدول العربية وغيرها بمنح مصرية .
حصلت القاهرة عام 1925 على وسام أجمل وأنظف مدينة في حوض البحر المتوسط وأوروبا ، نظرًا لأناقة ونظافة شوارعها وانتظام حركة المرور فيها، وتوزيع متميز للأحياء السكنية والتجارية والمناطق الترفيهية.
كانت مصر رائدة في تأسيس مبادئ الديموقراطية حيث تأسس فيها أول مجلس نواب عام 1866 والذي تطور بصلاحيات واسعة بعد دستور 1923 . هذا المجلس كان يمارس رقابته على مخصصات الأسرة المالكة ورفض بالإجماع عام 1927 فتح اعتماد لرحلة خاصة للملك إلى أوروبا ، واعترض على طلب الملك اعتماد مبلغ لشراء سيارات ملكية .
بلغ وعي الشعب بحقوقه الدستورية مبلغاً جعل مئات العُمَد يقدمون استقالاتهم -دون تنسيق مسبق- في اليوم التالي لتعليق رئيس الوزراء "إسماعيل صدقي" العمل بالدستور عام 1930.
بلغ وعي هذا الشعب بقضايا أمته إلى خروجه في المظاهرات ضد تصريح "مصطفي النحاس" رئيس الوزراء وزعيم حزب الوفد لتجاهله للقضية الفلسطينية وتصريحه (أنا رئيس وزراء مصر ولست رئيس وزراء فلسطين).
كانت المطبعة الأميرية في الثلاثينيات تصدر بشكل منتظم كتابًا تحت عنوان "تقويم" بمثابة سجل كامل عن وزارات الدولة وأنشطتها وميزانياتها بما فيها الجيش ، ومطروحة في المكتبات ، وكانت قيمة الجنيه المصري بحسب تقويم عام 1933 ص 700 يساوي 1.25 جنيهاً استرلينياً ، وكانت العملة المصرية هي العملة السائدة في مناطق نفوذها الأفريقية.
هذه هي مصر التي يجهلها أهلها .
هذه هي مصر التي يقولون لشعبها إنه لم ينضج بعد وأنه يحتاج إلي تعلم الديموقراطية.
هذه هي مصر التي بددها أهلها بشكل ممنهج.
جرفنا الأرض الزراعية الموروثة عن الأجداد ، لوثنا مياه النيل وفرطنا في حقوقنا فيه ، سرقنا آثار الأجداد وهربناها لمنازل الأثرياء ولمتاحف العالم ، حولنا أجمل المدن إلي غابة عشوائية من العشش أو ناطحات سحاب وسط الحارات ، دمرنا التعليم ...
كل هذا ونحن نهتف بكل جرأة وبلاهة وسذاجة ..: " تحيا مصر".
نرفع على الأكتاف من سرق ونهب وخرب وباع ونحن نهتف بكل جرأة وبلاهة وسذاجة .. : " تحيا مصر".!!!
فهل حقًا تعرفون ... "مصر".؟؟!!