لو كنت من مؤرخي التاريخ في عام 2050 لكان توصيفي للولايات المتحدة الامريكية بأنها دولة راعية للانقلابات في العالم، وأن من أهم صادراتها الجنرالات الانقلابيون الذين يتمتعون بجودة التصنيع وكفاءة الآداة في تخريب بلادهم.
فطاغيتنا اليوم ما هو إلا جنرال وارد الشيطان الأمريكي وهو أوغستو بيونشيه ديكتاتور تشيلي لمدة 27 عاما. ولنبدأ القصة القديمة والجديدة في آن واحد.
رزحت تشيلي تحت اقتصاد رأسمالي لا يأبه بالطبقات الكادحة التي ما إن سنحت لها الفرصة في انتخابات نزيهة حتى اختارت سلفادور اليندي رئيسا لها بنسبة 36.3%. وفور توليه السلطة سعى لتحقيق العدالة الاجتماعية وكانت وجهته الى النظام الاشتراكي، وعمد الى تأميم العديد من الصناعات وقلّم أظافر الشركات الأمريكية في بلاده. مما أثار غضب الامريكيين عليه ومن خلفهم رجال الأعمال المحليين ، فكانت مؤامرتهم لمحاربته والانقلاب عليه .
بدأت المعركة بتمويل أمريكي وصل الى 20 مليون دولارللمعارضة وممارسة الضغوط على البنك الدولي لوقف أي قروض للحكومة التشيلية، وعلى المستوى الداخلي كان تأليب مؤسسة القضاء والمؤسسة النيابية على الرئيس المنتخب مما دفع اليندي الى اصدار مراسيم جمهورية تُجبر هذه المؤسسات على تنفيذ اصلاحاته فشهد المجتمع التشيلي انقساما حادا اثر ذلك . وامتدت المواجهة بدفع رجال الاعمال المدعومين أمريكيا بافتعال الأزمات وارباك الدولة وشل مرافقها الحيوية وانتشار الاضرابات التي من أشهرها اضراب سائقي الشاحنات، وتعطلت وسائل المواصلات وتوقفت المصانع ، لتتوج المؤامرة بانقلاب عسكري عام1973 يقوده ييونشيه الذي تولى قيادة الجيش لمدة اسبوعين تقريبا بعد استقال.سلفه احتجاجا على أوضاع البلاد، وبمعنى أدق تمهيدا لجنرال يحلم بالسلطة مهما كان الثمن .
تحرك بيونشيه بقواته الجوية والبرية محاصرا قصر ليمونيدة في العصمة سانتياجو لاجبار الرئيس أليندي على التنحي ، لكنه رفض وأصر على شرعيته التي دفع من أجلها حياته، فقد وجد مقتولا بقصره مرتديا الوشاح الرئاسي لتتضارب الروايات بين أنه انتحر أو تمت تصفيته بيد الانقلابيين.
وحكم بيونشيه متخفيا وراء مجلس عسكري يأتمر بأمره ليّذيق الشعب أشد ألوان العذاب والقمع واغتيال المعارضين والاختفاء القسري والاعتقال للآلاف، ورصدت تقارير دولية بوجود 28 ألف حالة تعذيب في سجونه.
وأما على المستوى الاقتصادي فقد دعمته أمريكا ليّحقق تطورا زائفا حتى أنها أطلقت على تجربته الاقتصادية بالمعجزة التشيلية، ولكنه في حقيقة الامر اقتصاد رجال الأعمال والنخبة العسكرية الحاكمة وزادت الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتلاشت الطبقة المتوسطة. وأصبحت تشيلي بالفعل الحديقة الخلفية لأمريكا تأتمر بأمرها وتنفّذ سياساتها حرفيا .
ولكن مع كل هذا لم يستطع بيونشيه أن يستمر طويلا في السيطرة باحكام على مجريات الأمور في البلاد، فمع اقرار دستور جديد للبلاد عام 1980 لم يستطع فيه أن يجعل من نفسه حاكما أبديا وحّددت فترة الرئاسة ، وكان هذا بسبب الكراهية التي كانت تملأ الشعب اتجاهه واصرار الكونجرس(مجلس النواب التشيلي) على تحديد فترة الرئاسة ومع الضغوط المتزايدة أضطر بيونشيه الى المرواغة بتسليم السلطة الى رئيس منتخب واحتفظ بقيادة الجيش لمدة 9سنوات بعدها محتفظا ببعض نفوذه .
بدأ سقوط نظام بيونشيه منذ عام 1983وذلك بانتشار الإضرابات العمالية والاحتجاجات الشعبية ، بل وبمحاولات البعض بتهريب الأسلحة للمعارضين ، وبمحاولة اغتيال للديكتاتور نفسه. ونشطت الحياة المدنية المعارضة بدعم من السلطة القضائية المتمثلة في المحكمة العليا التي أبطلت استفتاء رئاسي لصالح بيونشيه، ونظمت انتخابات نزيهة حتى أنها حددت مواعيد للمرشحين للظهور الإعلامي ، ووجد بيونشيه نفسه مطالبا بالرد على حالات التعذيب وعن اختفاء الآلاف. وفاز منافسه باتريشيو آيلوين بالرئاسة عام 1989م.
وبما أن الله يمهل ولا يهمل ....ومهما ظن الطغاة أنهم نجوا من العدالة وأنهم لم يحاسبوا على فظائعهم ، فقد تم القبض على بيونشيه في احدى رحلاته للعلاج في بريطانيا بتهم تتعلق بحقوق الإنسان، ولكن بسبب سوء حالته الصحية تم الافراج عنه لتتم محاكمته فيما بعد من قبل محكمة تشيلي العليا.
انتهت حياة بيونشيه وهو قيد الإقامة الجبرية في انتظار حكم محكمة البشر لينتقل الى حكم محكمة الإله العدل . تاركا جراحا عميقة في شعب تشيلي لم تندمل بعد ، فبعد أربعين عامًا على هذا الانقلاب الدموي، لا يزال الشعب التشيلي يتجرع مرارات الإقصاء السياسي وانتهاكات حقوق الإنسان، فقد خرج عشرات الآلاف الشيليين في مظاهرات عارمة في سانتياغو رافعين لافتات كُتب عليها:
"أربعون عامًا بعد الانقلاب.. لن ننسى أحدًا ولن ننسى شيئًا"".
ولم ننسى نحن المصريين (أهل الحق)................ولن ننسى.