اخر الاخبار

الخميس , 18 ديسمبر , 2014



الصراع بين العلماء المجددين الثائرين وبين المتفيهقين الجامدين الحاقدين صراع قديم : هؤلاء الآخرون ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا خدّام السلاطين ؛ فقد اصطنعوا الفقه بضاعة يتقربون بها إلى الحكام الجبابرة و الطغاة الأبالسة ؛ زينوا لهم طغيانهم ومباذلهم .. واخترعوا لهم فقهًا زائفًا .. ولم يتورعوا عن اختلاق أحاديث مكذوبة على رسول الله ، وأوّلوا لهم آيات القرآن ليحرضوهم على قتل الثائرين على الظلم واللصوصية ونهب قوت الأمة .. لقد عاصرنا وسمعنا منهم مؤخّرًا فتاوى تبرر السطو المسلح على سلطة الرئيس المنتخب تحت إسم "المتغلّب".. وعلى قتل المعارضين السلميين بتهمة الخوارج ووصموهم بالإرهاب .. أما الأولون فقد حملوا أرواحهم على أَكفّهم دفاعًا عن العقيدة والعدالة ضد انحراف السلاطين وظلم الطغاة المستبدين .. وتعرضوا بذلك للتكفير والاعتقال والتعذيب وأحكام الإعدام ..
ليس الآخِرون فقهاء ولا علماء حقيقيين ، وقد تخرج من مدرستهم قبيلة من المتفيهقين الجهلاء .. كلامهم ينضح بالكراهية واحتقار أهل العلم وأهل الجهاد والاجتهاد والتجديد ؛ فهم أقرب إلى السفاهة والسفهاء منهم إلى الفقه والفقهاء .. لا علم عندهم ولا فقه ولا فكر ينفع الناس .. ومع ذلك يتعالون ويتعالمون عليهم بشقشقات لفظية ومصطلحات غائمة ، وحماس مصطنع غيرةً على الإسلام ، فيما يزعمون ..
ولأنهم فى الفكر أصحاب عاهات ، لا يلفت أنظارهم إلا سفاسف القضايا والترّهات.. أما عظائم الأمور والنوازل والكوارث التى أصابت الأمة ، أما المجازر الوحشية وقتل الأبرياء واغتيال أنقى وأشرف عناصر الأمة ، واعتقال الحرائر والأطفال وانتهاك الأعراض فى المعتقلات وأقسام الشرطة بالمئات ، وأحكام الإعدام للأبرياء بالجملة وحقوق أهل الشهداء المهدرة فلا تهز شعرة فى أبدانهم..
كان العلماء و الفقهاء العظام وما زالوا إلى اليوم يُضطهدون من السطات المستبدة: سجن الإمام ابن حنبل .. وسجن ابن تيمية عدة مرات فى دمشق والقاهرة .. وسجن سيد قطب وتم إعدامه .. واغتيل الإمام حسن البنا بأيدى الشرطة السرية لوزارة الداخلية .. وأباحت الإمارات دم الشيخ القرضاوى ، وأرسل الإرهابي كلب مصر يستعدى الإنتربول للقبض عليه ، وتسليمه إليه ليحاكمه ناجى ، قاضيه النذل قاطع الطريق بتهمة الإرهاب..
سلطان علماء الأمة وفقيهها الأكبر يَهدر دمه كلب فى الإمارات ويطلبه كلب حقير فى مصر لمحاكمته وتجد من فقهاء السلاطين من يحض على استئصاله و مِنْ سفهاء المتفيهقين .. من يفتى بالحياد.. لأنها فتنة وهو ينأي بنفسه بعيدًا عن الفتن..
هؤلاء المتفيهقون لا يخجلون من عارهم وجهلهم : يصدعون رؤوسنا بفتاويهم فى سفاسف الأمور ويحتجون بكلام لابن تيمية.. وهم فى الحقيقة يجهلون كل شيء عن ابن تيمية ولا يذكرون عنه شيئا إلا ما ينفّر الناس منه ؛ حتى ليبدو وكأنه كأنه الفقيه المنغلق على نفسه المتشدد فى الأحكام المضيّق على عباد الله المسلمين ، لقد احتكروه لأنفسهم ليشوهوا صورته الحقيقية المشرقة ..
فاقرأ ما أقوله لك ثم اذهب إلى المراجع الموثّقة لتتحقق مما أقول:
إبن تيمية لم يكن فقيهًا فحسب ولكنه كان موسوعة فكرية وعلمية رائعة: أجاد علوم الحديث والعقيدة وأصول الفقه والفلسفة والمنطق وعلم الفلك ، واشتهر عنه البراعة فى شرح الجبر والرياضيات .. وأعلى من شأن العلوم الطبيعية "كالفزياء" التى انحط بها فلاسفة المسلمين المتأثرين بفلسفة أرسطو.. دافع عن العلوم الطبيعية كجزء ضروري لنهضة الأمة فى كتب له مشهورة: نذكر منها "الرد على المنطقيين" و كتاب " درء تعارض العقل والنقل "و الرسالة العرشية".
ومن أبرز كتبه كتاب " نقض المنطق".. نسف فيه قداسة منطق أرسطو وأعلى قيمة المنطق الإسلامي الذى بنيت عليه قواعد الفقه وأصوله .. اشتهر هذا الكتاب فى الغرب وتُرجِم إلى اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الأروبية .. وهام به المفكرون الغربيون الذين يؤمنون بأن منطق أرسطو الصوري عديم الأهمية فى التقدم العلمي الذى تبنّى الاستقراء فى البحث العلمي وهو ميراث إسلامي ابتدعه المسلمون وصنعوا به التقدم العلمي خلال القرون الزاهرة للحضارة الإسلامية .
لن تجد أحدًا من صغار المتفيهقين المحدثين يذكر لك شيئًا من هذه الجوانب المشرقة لابن تيمية .. لأنه يجهلها ولا تعنيه فى شيء .. ولن يذكروا لك أبدا صراع ابن تيمية مع السلطات المستبدّة فى عصره ولا عن ثورته على الحكام الظلمة .. ولا عن تحريضه للأمة وأمرائها على قتال المغول الذين غزوا الشام رغم أن قائدهم كان مسلمًا
وتعالى معى نطل على هذا المشهد التاريخى العظيم لابن تيمية:
دعا ابن تيمية أعيان دمشق للاجتماع به يوم الإثنين 28 ديسمبر ١٢٩٩ م واتفقوا على السير إلى السلطان غازان الموجود في بلدة النبك المجاورة ، ونُصْحِهِ باعتباره حاكمًا مسلمًا ..
تقدّم ابن تيمة وفد دمشق ليتحدث بالنيابة عنهم ؛ فدخل على غازان.. لم يعبأ بهيبته ولاحرسه ولامظاهر الأبّهة والسلطان من حوله ، خاطبه بجرأة الحق الذى يستند إليه ؛ فأسمعه قول الله ورسوله فى إقامة العدل .. وأخذ يرفع صوته ويقترب منه شيئًا فشيئًا حتى أوشكت رُكبته ان تلاصق ركبة السلطان، والسلطان مع ذلك مقبل عليه ومُصْغٍ إليه باحترام ..
قال ابن تيمية للمترجم : "قل لغازان أنك تزعم أنك مسلم ومعك قاضٍ وإمام وشيخ ومؤذِّنون .. فغزوتنا وأنت مسلم .. وكان أبوك وجدك كافرين .. وماعملا الذي عملت؛ فقد عاهدا فوفَّيا .. وأنت عاهدت فغدرت .. وقلت فما وفَّيْت وعلينا جُرْتَ وظلمت"..
إستطاع ابن تيمية أن يحصل على وثيقة أمان من غازان .. إلا أن جنوده نقضوها واستمروا في نهب المدينة .. لم يسلم من النهب والعدوان إلا القلعة فقد رفض حاكمها أن يسلمها إلى التتار وامتنع أشد الامتناع .. وصمم ألّا يسليمها إليهم مهما كلفه ذلك من تضحيات .. وذلك تنفيذًا لنصيحة الشيخ تقي الدين بن تيمية الذى بعث إليه برسالة يقول فيها : "لو لم يبق في قلعتك إلا حجر واحد، فلا تسلمه إليهم إن استطعت"..
كانت صورة ابن تيمه الثائر المجاهد مسيطرة على أفئدة الجماهير المسلمة ، لا فى دمشق وحدها ولكن فى القاهرة أيضا .. وبدت أمامها صورة فقهاء السلاطين أقزاما متّضعين ، فامتلأت قلوبهم بالحقد عليه والغيرة من شهرته التى طبّقت الآفاق ..
والحمد لله .. لم تكن توجد وقتها فضائيات وصحف داعرة وإعلاميون فجرة أنذال ليشوّهوا صورة القائد العظيم ويتهموه بالإرهاب وإخفاء السلاح تحت المنصة .. ولم يكن أمام الفقهاء الأنذال إلا الدس على الرجل وتحريض الأمراء عليه لإزاحته من الساحة ؛ فجمعوا له بعضا من آرائه وفتاويه التى خرج فيها –كما يزعمون- على علماء عصره.
وقد ذكرتُ أن ابن تيمة قد كسر حالة الانغلاق التى حصَّنها فقهاء السلاطين بغلق باب الاجتهاد ؛ فتمرد عليهم ورأي أنه لا حق لأحد مهما بلغت مكانته أو سطوته أن يغلق باب الاجتهاد .. هذا الإغلاق الذى أمات الأمة وجمّدها وكان سببا فى هزيمتها أما المغول والتتار والصليبيين.. كل ذلك لم يعبأ به المتفيهقون عبدة السلطان ، الذى طلبه فى مصر وعقد له مجلسًا لمحاسبته أمام قضاة من عيّنة ناجى شحاتة ، وفقهاء من فصيلة الهلالى وجمعة ، والأعيان من طراز الفلول والرأسماليين ولصوص الثروة فحكموا عليه بالحبس فى سجن قلعة الجبل سنة ونصف.
والغريب أنهم _إمعانًا فى التنكيل به- جاؤوا بأخوين له من دمشق فوضعوهما معه فى السجن بدون تهمة ولا محاكمة ، تماما يحدث الآن فى مصر على نطاق واسع وبصورة انتقامية أبشع..
عاد إلى دمشق بعد انتهاء مدة السجن ولكنه طُلب مرة أخري بإيعاز من بطانة الشيطان فحُبس فى برج الإسكندرية [قريبًا من محبس محمد مرسى حاليا] .. حُبس لمدة ثمانية أشهر ليتوب عن ثورته وييأس من تحريك الجماهير ضد الظلم والاستبدا. ثم رأوا أن يبقوه فى مصر تحت أعين العسس الأكثر خبرة وتدريبا فأطلقوا سراحه بعد جلسة مصالحة تقررت فيها براءته ؛ فأقام بعدها فى القاهرة مدة من الزمن .. ولكن اشتاق إلى دمشق فرحل إليها ليجد فى انتظاره مفاجأة غير سارة ؛ إذ طلبه فقهاء السلطان هناك فى مجلس مناظرة لمناقشته فيما اختلف فيه معهم .. وانتهي المجلس بحبسه فى قلعة دمشق ليقضى ماتبقى من عمره فى السجن حتى توفّاه الله سنة ١٣٢٨م عن عمرٍ قدّروه بين ٦٥ و٦٧ سنة ..
العجيب أنه قضى حياته فى السجن وخارجه لم ينقطع لحظة عن الجهاد والاجتهاد والتدريس والتأليف والحضِّ على محاربة الغزاة المغول.. وكان له دور مشهود فى انتصار المسلمين فى معركة شقحب .. أراه كما يراه معي لفيف من المؤرخين أنه كان أحد المجددين الإسلاميين فى زمانه وأنه كان يفهم الإسلام فى شموله وثنائيته التكاملية كما صورها لنا القرضاوي وعلى عزت بيجوفيتش فى العصر الحديث ، هذه الثنائية الخالدة التى تجمع بين: الدنيا والآخرة العلم والدين ..الروح والجسد .. الدين والسياسة .. فى بوتقة واحدة .. وقاتل معاركه كلها لتثبيت هذه العقيدة فى أذهان المسلمين..
**
فى سيرة عظيمة كسيرة ابن تيمية لا أستطيع أن أمُرَّ على معركة "شقحب" مشيرا إليها فى نصف سطر فإنها تستحق كتابا كاملا يبرز حقيقة هذا النوع من الشخصيات الفريدة فى تاريخ الإسلام .. شخصية طُمست معالمها بفعل فاعل .. قدمها المتفيهقون الصغار فى أسوأ صورةٍ .. حتى بدا "ابن تيمة" رمزًا على انغلاق الفكر وضيق الأفق، من كثرة ما ذُكر اسمه مصحوبا بأكثر الأراء والفتاوى تشدُّدًا وتضييقًا وتعسيرً على المسلمين .. أقول:
اعتزم المغول غزو دمشق من جديد سنة 1303 خلال عهد المماليك ، فبدأ ابن تيمية بتحريض أهل الشام في دمشق وحلب على المقاومة .. وانتدبه الناس للسفر إلى مصر لملاقاة سلطانها الناصر محمد بن قلاوون، ليحُثَّه على الجهاد ، فأعاد نشر فتاويه في حكم جهاد الدفع ورد الصائل .. ثم سافر إلى أمير العرب "مهنّا بن عيس الطائي" فلبى دعوة ابن تيمية لملاقاة التتار.
وبعد استكمال الاستعدادات اجتمعت جيوش المسلمين من الشام ومصر وبادية العرب في "شقحب" أو (مرج الصفر) جنوبي دمشق.. وكان ذلك في شهر رمضان فدار ابن تيمية على الجنود يقوِّى عزائمهم .. واندلعت الحرب بقيادة السلطان الناصر والخليفة المستكفي بالله الذي كان يقيم في القاهرة أنذاك ؛ فدامت يومين انتهت بانتصار المسلمين. وبانتهاء هذه المعركة تراجع التتار عن خططهم فلم يدخلوا الشام ولا العراق ولا مصر أو الحجاز .. ولذلك تعتبر معركة شقحب من المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي ضد المغول بعد "عين جالوت" ..
كان لمشاركة ابن تيمة فى هذه المعركة السبب الأبرز فى الانتصار على التتار فقد كان يعمل فى وسط الجنود ويشاركهم فى القتال .. وهو الذى ثبّت عزائم الحكام والأمراء على مواصلة القتال .. وهو الذى جمع الأموال من التجار وأصحاب المال فى دمشق لتمويل جيش الدفاع .. وكان على رأس جيش دمشق الذي حارب وهزم المغول وطاردهم شرقًا حتى نهر الفرات .. وكان ابن تيمية أول من عاد إلى دمشق يبشر الناس بنصر المسلمين فلما أحس بشكوك تساور السلطان من جهته ؛ أن يستغل حب الناس له فيثوون عليه ، طمأنه إبن تيمة .. فقال: "أنا رجل ملَّة لا رجل دولة.. فليطمئن قلبك"
لم يعلم أكثر الناس بمرضه الأخير وهو فى السجن حتى فوجئوا بموته.. بعد أن أذاع خبر وفاته مؤذن القلعة من فوق مئذنة الجامع .. ومن حديث حراس الأسوار إلى المارة .. فتسامع الناس بذالك واجتمعوا من كل حدب وصوب حول القلعة .. فلما فتحت أبوابها امتلأت بالرجال والنساء ، وصُلِّيَ عليه بعد صلاة الظهر .. وكانت جنازته عظيمة هائلة .. أقل تقددير ذُكر عنها أن عدد الحضور كان خمسين ألفا .. والأكثر أنهم زادوا على خمسمائة ألف ..
بعد أن عرفتم هذا عن سيرة ابن تيمية ، هل تعلمون أن السفلة الأوغاد من الذين نصّبوا من أنفسهم خصومًا له -دون ذنب جناه- اتهموه بالكفر فى كتاباتهم وأشاعوا مقولتهم بين العوام ..؟! حتى ليحتاج إلى أن يؤلف فيه ابن ناصر الدمشقي كتابًا يبرِّئه من تهمة الكفر بعنوان " الرد الوافر على من زعم أن شيخ الإسلام ابن تيمية كافر".
ويبدو أن زمن الغزو المغولي واستبداد السلطات الحاكمة ، كان أشبه بزمن الغزو الذي تشهده الآن مصر تحت سطوة العصابة العسكرية .. والعنصر المشترك هو شيوع الظلم والكآبة فى كل من مصر والشام ؛ ويبدو هذا واضحًا من حقيقة أن المؤلف نفسه وضع كتابين أحدهما بعنوان "سلوة الكئيب بوفاة الحبيب" .. والثاني بعنوان "برد الأكباد عن فقد الأولاد".
وكان شمس الدين بن قيِّم الجوزية تلميذا لابن تيمية ، لازمه ١٦ سنة وتعلّم منه الفقه.. و لقى كثيرا من الأذى والبلاء من متعصبى المذاهب، كما حدث لأستاذه ، وقد ناله من السجن نصيب وافر ؛ لأنه دافع عن أستاذه فحبسته السلطات فى سجن القلعة منفردا عنه .. ولم يخرج من المعتقل إلا بعد وفاة ابن تيمية..
رحم الله الجميع .. وفك أسر المأسورين .. وكفَّ أيدى الظلمة عن المساجين والمعتقلين..!


القراء 1176

التعليقات


خريطة الموقع


2024 - شبكة صوت الحرية Email Web Master: admin@egyvoice.net