"في التأني السلامة" مقالة قديمة لعباس محمود العقاد ، نشرتها مجلة الرسالة بتاريخ ٢٤ يناير ١٩٤٤.. أقدّمها لمتذوقى الأدب الرفيع .. استدعتها المناسبة الراهنة فى تصارع الأفكار .. فللعقاد مواقف مشهودة فى مواجهة النقد بالحجة والبرهان ، لم يكن يجاريه أحد فى زمانه ..
لقد تكالب عليه الشيوعيون والملاحدة عندما صدرت له العبقريات الإسلامية فأحدثت زلزالا فى الساحة الفكرية آنذاك واشتد غيظ خصومه .. وكان قبلها قد انتقدهم أشد النقد فانتهزوها فرصة للانتقام منه ..
لغة العقاد صعبة وأفكاره مكثّفة .. ولكنها تستحق العناء والجهد ، ففيها متعة وثراء لمن يفهمها ..وفى هذا المقال بعض مواقف العقاد فى الدفاع عن عبقرياته الشهيرة .. :
قلنا في كتاب «الصِّدِّيقة بنت الصديق» إن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تروي كثيرًا من الشعر … وكانت تحفظ من شعر عروة بن الزبير نفسه وتَسُوق الشاهد منه في موقعه.
كما قالتْ، وهي ترى النبي — عليه الصلاة والسلام — يتندى عرقًا في يوم قائظ وقد جلس يصلح نعله: لو رآك عروة لكُنْتَ المعنِيَّ بقوله:
فَلَوْ سَمِعُوا فِي مِصْرَ أَوْصَافَ خَدِّه
لَمَا بَذَلُوا فِي سَوْمِ يُوسُفَ مِنْ نَقْدِ
لَوَاحِي زُلَيْخَا لَوْ رَأَيْنَ جَبِينَهُ
لآثَرْنَ بِالْقَطْعِ الْقُلُوبَ عَلَى الْأَيْدِي
إلى آخر ما جاء في ذلك الكتاب.
وقد رأينا في العدد الأخير من مجلة الثقافة كلامًا بتوقيع «أحمد محمد شاكر» يقول فيه:
" أما هذه القصة فقد أطَلْتُ البحثَ عنها في المصادر المحترمة من كتب الحديث والسِّيَر والتاريخ حتى أتعبني البحث ثم لم أجدها، وهذا النوع من الكاتبين لا يتورعون عن تكذيب الأحاديث الصحيحة المروية في كتب السُّنَّة الصحاح والتي رَضِيَها أهلُ العلم بالحديث. يُكذِّبونها إذا لم توافق آراءهم وما يَدْعُون إليه من نظريات يتناولون فيها قواعد الإسلام، ويزعمون أنهم يتبعون بذلك ما يُسمُّونه طرق النقد الحديث، ثم يحكون عن رسول الله وعن أصحابه الأكاذيب لا يَرَوْن بحكايتها بأسًا وينسبونها إليهم نسبة جازمة، كأنها من الحديث الصحيح لا يتحرون ولا يبحثون، إنما هو سواد في بياض، يضل به الناس وهم يشعرون أو لا يشعرون … أنا لا أجيز لنفسي أن أتهم الكاتب الجريء بأنه اخترع هذه القصة من عند نفسه، ولكني أظن أنه رآها في كتاب من كتب السمر …
إلى أن يقول: «الذي نعرفه من التاريخ الصحيح في أمر عروة بن الزبير أنه وُلِد في آخر خلافة عمر سنة ٢٣، وقِيلَ: بعد ذلك …"
إلى غير ذلك من أشباه هذا الكلام الذي ينم قليله على كثيره.
وكان بودنا أن ننقل هنا كلمة الكاتب بحذافيرها لتشهد عليه وعلى طويته وبواعث نقده، لولا أننا نطيل في غير طائل، وأن الاجتزاء بما نقلناه كافٍ للدلالة على دخائل الصدور وكوامن النيات.
فأَوْجَزُ ما نَقُولُ وأَصْدقُه أنَّ الجرأة كل الجرأة هي في إقدام الكاتب على مثل هذا الكلام، وهو يضع نفسه موضع الحَكَم الفَصْل في أخبار السِّيرة ومراجع الأحاديث والمُحدِّثين، مع قصور المراجع التي عنده وقصوره في البحث عنها، واستيفاء مواضع الاستقصاء منها، في مسألة بعينها هي معروضة له ومبسوطة بين يديه.
ولا معابةَ على أحد أن يَفُوته بعض المراجع التي لا تفوت غيره، ولكن المعابة كل المعابة أن يبحث عنها عامدًا فلا يهتدي إلى طريقها، وهو يتحدى ويناجز ويتهم ويعاجز، وبه ما به من هذه اللهفة على إظهار العلم الغزير وإغلاق موارد البحث دون الباحثين.
تلك معابةٌ أي معابة على من يَحْسَب أنه يتحرى وحده ويبحث وحده مكتفيًا بما في يديه غير مستزيد مما عنده، ثم هو يبسط يديه معًا إلى أقصى مداهما فلا تبلغان ميسور ما في الأيدي من المراجع في باب السِّيَر وكُتُب المحدثين. "
هنا يصعّد العقاد درجة الحرارة فى لهجته النقدية فيقول:
"فليعلم هذا الكاتب — الجريء — إذن أننا لم نخترع هذه القصة من عندنا، وأننا لم نَرَها في كتاب من كتب السمر ولا في كتاب من الكتب التي يعوزها الاحترام؛ لأن شرح شمائل الترمذي ليس اختراعًا لمؤلف «الصديقة بنت الصديق»، ولا هو حكاية من حكايات الأسمار، ولا هو مهزلة يعوزها احترام مثله، وهو لا يرتقي إلى منزلة التلميذ المستفيد بين أصغر شراح الترمذي في أخبار السِّيرة وعلم الحديث.
فشمائل الترمذي وشروحه من أشهر كُتُب السِّيرة التي يتسامع بها العلماء الواصلون والشُّداة المبتدئون، وهذه القصة مذكورة في شرح الشمائل للعلامة محمد بن قاسم جسوس، يراجعها في الجزء الأول صفحة ٢٩ من الطبعة المصرية، وفي صفحة ٤٠ من الطبعة الخارجية، ليعلم أننا لا نخترع ولا نعتمد على كتب الأسمار، وأنه لا يزال يتهجى في مراجعة فهارس المكتبات ليعلم أين يكون البحث وكيف يكون الاستقصاء، ودَعْ عنك المطولات والمبسوطات، ودَعْ عنك الشروح والأصول. "
ثم يتابع:
"وظاهر من كلام هذا الكاتب الجريء الذي نقلناه والذي لم ننقله أنه يتتبع ما ألَّفناه من كتب «العبقريات» واحدًا بعد واحد، وأنه على اللهفة التي ما بعدها لهفة للعثور على هفوة هنا أو نقيصة هناك، ثم يطلق عقال الحفيظة ليثور ويفور، ويبلغ قصاراه من الثوران والفوران!
فإذا كان قد أضنى نفسه بحثًا في خمسة كتب أصدرناها من سلسلة العبقريات وما إليها فلم يخرج منها — مع تلك اللهفة وذلك التجنِّي — بغير تلك القصة، فهل في وسعه أن يشهد لباحث في المشرق أو في المغرب بتحقيق أوفى من هذا التحقيق، وفضل أشرف من هذا الفضل، وعناية أكبر من هذه العناية؟! "
"أين هو الباحث الذي كتب في السِّيرة أو غير السِّيرة، وبين المتقدمين أو غير المتقدمين، ثم تعقَّبه المَغِيظون المتلهفون على الأخطاء فعصموه عن حكايات فضلًا عن حكاية، وعن مخالفات لآرائهم فضلًا عن مخالفة واحدة؟! "
"صفحات تتجاوز المئات إلى الألوف كلها تنزيه للنبي وتعظيم لأصحابه، وأنت في لهفتك على المعابة تجحظ عيناك في كل سطر منها فلا تقع على غير تلك القصة التي لا تضير ولو كذب رواتها جميعًا، ثم تخرج بها إلى الناس نافخًا في الصور، متشدقًا بعظائم الأمور، ناسيًا لصاحب تلك الصفحات كل ما أصاب فيه، ولو كنت على يقين وأنت كما رأيت لست على أقل يقين! "
"هَبِ العلامة ابن القاسم الذي شرح شمائل الترمذي قد روى ما رواه خطأً من شعر عروة بن الزبير، وهَبْ عروة لم يَقُل هذا الشعر ولم تنشده السيدة عائشة، فماذا في الرواية مما لا ينبغي للسيدة عائشة أو مما لا ينبغي للنبي عليه السلام؟!"
"هل فيها إلا أن السيدة عائشة كانت تثني على جمال النبي، وأن النبي كان يسرُّه هذا الثناء؟!
أهذا الذي لا ينبغي لعائشة رضي الله عنها ولمحمد صلوات الله عليه؟! كلا، بل هذا الذي ينبغي لهما دون غيره، ومن أنكره فهو الكاذب الذي لا يفقه ما يقول."
بعد أن انتهى إلى خلاصةٍ فى رأيه .. انظر إلى قوة العقاد فى تحدّيه:
"وها أنا ذا أعيدها جهرة بغير سند ولا رواية من شاعر أو فقيه: لقد كانت عائشة تثني على جمال محمد، وكان محمد يرضى عن هذا الثناء.
أسمعت يا هذا؟! "
"مرة أخرى أعيدها لك ولغيرك ممن يشاء أن ينكرها، فأقول ثم أُعِيد: إن عائشة أَثْنَتْ على جمال محمد غير مرة وأن محمدًا رضي عن هذا الثناء في كل مرة، فإن كانت قد بَلَغَتْ أذنيك فاذهب إلى صورك فانفخ فيه ما بدا لك، وادعُ من يستمع لك أو يستجيب! "
فليس في القصة ما يدعو إلى الاستنكار والتردد من وجهة الأدب في حق النبي عليه السلام، ويجوز من الوجهة التاريخية أن يكون عروة قد وُلِد بعد العهد الذي ذكره الرواة.
ولكن يُستبعَد جدًّا أنه وُلِد في سنة ٢٣ التي اعتمدها حضرةُ البحَّاثة المُتحَرِّي البارع في تحري الأعمار والأوقات؛ لأن أم عروة أسماء بنت الصديق وُلِدَتْ قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة وليس هو بآخر أولادها، ويندر جدًّا أن تلد المرأة بعد الخمسين.
ومع كل هذا، لا نرى نحن أن نجعل رواية من روايات السنوات والأعمار مُبْطِلة لمقال أو قصيد على سبيل الجزم الذي لا مراجعة فيه؛ فعمر بن الخطاب نفسه مُختَلفٌ في عمره بين خمس وخمسين سنة كما يقول ابن قتيبة، وثلاث وستين كما يقول الواقدي ومن جاراه. وحديث الإفك نفسه مختلف في سنَتِه مع اتصاله بتنزيل آيات من القرآن في موضوع البراءة وموضوع الحجاب، وتواريخ الآيات أولى بالتمحيص من تواريخ الأحاديث أو تواريخ الأشعار.
وقد طبعت لجنة التأليف والترجمة التي تصدر «الثقافة» كتابًا اسمه «إمتاع الأسماع» جاء فيه صفحة ٢١٥: «إن غزوة بني المصطلق التي قال أهلُ الإفك فيها ما قالوا كانت في شعبان من السنة السادسة.» ثم جاء فيه بالصفحة التالية: «إن رسول الله ﷺ عَسْكَرَ يوم الثلاثاء لثمانٍ مَضَتْ من ذي القعدة سنة خمس، وقيل: كانت في شوال منها. وقال موسى بن عقبة: كانت في سنة أربع، وصححه ابن حزم، وقال ابن إسحاق: في شوال سنة خمس. وذكرها البخاري قبل غزوة ذات الرقاع، واستعمل على المدينة ابن أم كلثوم.»
أفبعد هذا الاختلاف في تواريخ القوم للمناسبات التي هي أَجَلُّ من شِعْر عروة بن الزبير وأَوْلى بالإثبات، يريد صاحبُنا أن نُطِيل الوقوف على عُمُر عروة؛ لأنه قال كلامًا يجوز أن يقوله كل إنسان، بل هو معنى كل ما قيل في غرضه وفحواه على ألسنة جميع المسلمين.
"إننا أطلنا الوقوف حيث ينبغي أن يطول وقوف الباحث الحريص على كرامة محمد وذويه، أطلنا الوقوف حيث كان أمثال هذا الناقد الحاقد يتقبلون الروايات، وهي أغرب ما يُروَى وأنآه عن المعقول وأَوْلاه بالنظر ودفع الشبهات. "
**وقفة العقاد الجريئة بالبرهان التاريخي تفنيدًا للأقوال الشائعة الكاذبة عن عمر عائشة عند دخول النبي بها .. يقول:
"كانت روايات من أقوال الأقدمين تذكر أن النبي عليه السلام خطب السيدةَ عائشة وهي في السادسة وبنى بها وهي في التاسعة، وكان هذا مجالًا لأعداء الإسلام وأعداء نبي الإسلام يُبْدِئون فيه ويُعِيدون، ويجدون المستمعين والمتشككين حتى بين المسلمين! فهنا مجال لإطالة الوقوف يَعْبُره أمثالُ هذا الناقد الحاقد مهرولين، ويجهلون ما وراءه من الزُّور الأثيم والبهتان المبين، وهنا وقفنا لنُثْبِت بالعقل والنقل أن محمدًا عليه السلام لم يَبْنِ بالسيدة عائشة إلا وهي في السِّنِّ الصالحة للزواج بين بنات الجزيرة العربية، فأثبتناه على رغم الأقاويل والسنين."
أما عُمُر عروة بن الزبير فهو «الفارغة» التي يتصدر بها أمثال ذلك الحاقد الناقد لينفوا حديثًا قصاراه: أن عائشة كانت تثني على النبي وأن النبي كان يتقبَّل منها الثناء. ولا ممسك في ذلك لأصدقاء ولا لأعداء.
فإن طاب الموقف هنا فليقف فيه من يشاء كما يشاء.