حروف ممنوعة _ هشام حسن
(( الإصبع الوسطى فقط .... تكفى))
.........
......
رن جرس الهاتف بمكتبى بقسم التحقيقات السياسية بصحيفتنا الكبرى... كانت سكرتيرة رئيس التحرير تطلب منى مقابلته، توجهت فورا إلى مكتبه و كان كعادة كل رؤساء التحرير يدخن سيجارته و يبدو عصبيا
قال
.... أنت تعمل مع زكى فى قسم التحقيقات السياسية
.... نعم يا أستاذ، و لكن أستاذ زكى لم يحضر حتى الآن
.... لقد تعرض لحادث و كسرت ساقه
.... يا ساتر
.... إسمع يا بنى، لقد أخذنا موعدا غدا مع (رجل البطولة و الخير و البناء) لإجراء حديث صحفى و كان المفروض أن يقابله زكى لذا أريدك أن تذهب لتقابله غدا
.... أوامركم يا أستاذ و لكن أنا مجرد مصور القسم و لا أعرف شيئا عن التحقيقات السياسية
.... الأمر لا يتطلب أى معرفة لقد أرسلنا سبعين سؤالا لمكتب (رجل البطولة و الخير و البناء) و وافقوا على عشرين سؤالا و ها هى الأسئلة التى ستوجهها إليه، أنت تعرف أن كل الصحفيين مضربين الآن لتأخر رواتبهم و الوقت ضيق
ناولنى ورقة فقلت
.... حسنا فقط إحتاج العنوان
.... (رجل البطولة و الخير و البناء) لا وقت لديه فهو مشغول دوما بأعمال البطولة و الخير و البناء بالإضافة إلى مناصبه السياسية الرفيعة لذا فستركب معه سيارته خلال سفره إلى المدينة الغربية فهو سيلقى كلمة هناك فى إفتتاح مشروع (حنان للأيتام) و تجرى الحديث فى هذا الوقت
.... أوامرك يا أستاذ
فى اليوم التالى كنت أنتظر على أول الطريق المؤدى إلى المدينة الغربية فى المكان الذى حدده سائق سيارة (رجل البطولة و الخير و البناء)
كان الجو باردا لدرجة أن معطفى الثقيل لم يستطع حمايتى من الإرتعاش و كان السحاب الأسود يطبق على الأفق منذرا بأمطار غزيرة
توقفت أمامى سيارة سوداء فارهة من نوع الليموزين الطويل .... ركبت السيارة لأجد أن داخلها يشبه صالونا صغيرا فى أحد الشقق
كانت بالصالون كنبتان متقابلتان حيث يجلس (رجل البطولة و الخير و البناء) الذى جاوز السبعين على إحداهما و أجلس أنا إلى جوار سكرتيرته ذات السيقان الرائعة على الأخرى
كان الرجل فخما بشكل لا يصدق، رغم أننى شاهدته كثيرا فى التلفزيون فلم تكن الكاميرات تظهر نصف فخامته الحقيقية، بالإضافة إلى ذلك فقد كان إستقباله ودودا لطيفا
سألنى عن إسمى و أبدى إعجابه بأن ترسل الصحيفة شابا صغيرا مؤكدا على أنه فى كل مكان يشغله من المناصب السياسية و الإجتماعية يشجع الشباب عماد المستقبل
أمضينا بعض الوقت فى تناول إفطار من الكرواسا و الزبد و المربى و الجبن و أخبرنى (رجل البطولة و الخير و البناء) أنهم من أفضل الفنادق فى أوروبا
مضت نصف ساعة و السيارة تسير بسرعة عالية رغم الأمطار التى تهطل بغزارة و التى تحولت إلى سيول عنيفة، أخذت السيارة تبطئ من سرعتها حتى توقفت تماما، تحدثت السكرتيرة مع السائق الذى أخبرها أن الطريق أمامه مقطوع و أن كتلا طينية تغطيه
على الفور قامت السكرتيره بتحديد مكان السيارة بواسطه ال جى بى أس و أتصلت بمسئول كبير فى مديرية الأمن و اخبرته بالموقع ثم أبلغت (رجل البطولة و الخير و البناء) أن الطريق قطع قبل هذه النقطة بسبع كيلو مترات و أن قوات الإنقاذ ستحتاج لبعض الوقت للوصول إلينا
سألها الرجل ألا يوجد أى مدن قريبة منا، بعد نظرة على شاشة الكمبيوتر قالت ذات السيقان الرائعة
.... يوجد قرية تبعد عن يمين الطريق ثلاثة كيلو مترات إسمها (الهطايلة)
هتف الرجل
.... خبر عظيم ... أنا من أبناء القرية ... إتصلى بوزير المحليات فورا
جرى إتصال بالوزير و طلب (رجل البطولة و الخير و البناء) منه أن يوصل رسالة إلى عمدة القرية بأن سيارته عالقة و يطلب منه أن يرسل بعض أبناء القرية ببعض المعدات لشق طريق وسط الطين لسيارته
بعد دقيقتين تلقينا إتصالا بأن العمدة سيجمع السكان و سيكونون لدينا خلال ساعة على الأكثر
إلتفت إلى (رجل البطولة و الخير و البناء) و قال
.... يا لها من صدفة ... إسمع يا بنى .... تستطيع أن تكتب مقالا عن قصتى مع قريتى بدلا من الأسئلة المكررة .... هذه القرية شهدت بداياتى فى العمل من أجل الوطن
.... طبعا طبعا يا سيدى و لكن كيف كانت هذه البداية
.... الهطايلة قرية صغيرة كان معظم سكانها يعيشون على زراعة أراضيها التى لم تكن تدر الكثير فقد كان أغناهم من يمتلك ثلاث قراريط
.... نعم يا سيدى
.... حدث أن سافرت إلى الخليج لسنتين ... و لكن لم ينقطع تفكيرى فى الهطايلة .... كنت أفكر دوما فى كيفية زيادة دخل أهل القرية و لهذا بدأت أساعدهم بطريقة مبتكرة
.... و ما هى يا سيدى
.... كنت أعرف كثيرا من الأصدقاء الخليجين فكنت أسعى فى تزويجهم من فتيات القرية الصغيرات و بالفعل زوجت المئات منهن مقابل عشرة آلاف لوالد كل فتاة، هل تتخيل كم الأموال التى تدفقت على الهطايلة
.... إحم ... نعم نعم يا سيدى
.... إيه يا بنى ... نفعل الخير لوجه الله و ناسنا .... و لكن لا تجرى الرياح بما تشتهى السفن
.... ماذا حدث
.... كان الخليجيون يقضون شهرا إو إثنين مع تلكم الأبكار ثم يسافرون و لا يعودون أبدا
.... يا للمأساة
.... و هل تظن أننى أتخلى عن قريتى .... لقد أمرت العاملين بمكتبى للمحاماة برفع قضايا لتطليق الفتيات مع تخفيض أتعاب المكتب من عشرين إلى خمسة عشر ألفا
.... و لكن من أين للهطايلة بالنقود
.... و هل تظن أننى أتخلى عن قريتى .... لقد قبلت بآن أخذ أراضى الهطايلة مقابل القضايا و من لم تكن له أرض وفرت وظيفة كريمة لإبنته فى سلسة الملاهى التى أملكها لتسدد الأتعاب من عملها .... نفعل الخير لوجه الله و ناسنا
.... ما شاء الله .... و لكن ماذا فعل الهطايلة بعد أن فقدوا أرضهم مورد رزقهم
.... و هل تظن أننى أتخلى عن قريتى .... لقد جعلتهم يعملون جميعا فى بناء مصنعى الذى بنيته على أراضيهم مقابل ما يقيم آودهم ثم عملوا بالمصنع بعد تشغيله
.... يا لك من كريم رقيق القلب يا سيدى
.... إيه يا بنى ... نفعل الخير لوجه الله و ناسنا .... و لكن لا تجرى الرياح بما تشتهى السفن بعد تشغيل المصنع مرض الكثيرون أمراضا تنفسبة
.... لا حول و لا قوة إلا بالله
.... و هل تظن أننى أتخلى عن قريتى .... لقد ساهمت ب 70% من قبمة بناء مستشفى علاج أمراض الصدر .... بينما سدد الهطايلة البافى من تبرعاتهم كعاملين فى المصنع
.... نعم ... نعم
.... و لكن لم أكن أستطيع ان أكمل بناء المستشفى لأن مبيعات المصنع كانت ضعيفة لعدم وجود طريق مسفلت
..... و ماذا فعلت
.... أقنعت الهطايلة بشق الطريق بالجهود الذاتية مخبرا إياهم بأن هذا الطريق سوف يسهل بيع منتجات المصنع و قبض رواتبهم المتاخرة ... نفعل الخير لوجه الله و ناسنا
.... إذا لقد حلت مشكلة لمصنع
.... نعم ولكن لا تجرى الرياح بما تشتهى السفن ... قتلت السيارات عددا من الهطايلة و لذا كان لابد من بناء كوبرى و تبرعت بنصف ثمنه بينما سدد الهطايلة النصف الآخر مقابل قروض منحها لهم البنك لذى أملكه بفائدة أقل من الجميع
.... ما أكرمك يا سيدى
.... إيه يا بنى ... نفعل الخير لوجه الله و ناسنا ... لقد غادرت القرية تاركا فيها مصنعا و مستشفى و بنكا بإسمى ... لقد تقدم الهطايلة جدا
من بين الأمطار ظهرت مجموعات تقترب من السيارة ... إنهم الهطايلة ... كانوا يرتدون أسمالا بالية و أجسادهم هزيلة فلا تستطيع أن تعرف إن كانوا بشرا أم هياكل عظمية ... كانوا مثالا للفقر المدقع ... سرت رعدة خوف فى بدنى ... لابد أنهم سينتقمون من (رجل البطولة و الخير و البناء) .... لابد أنهم سينفذون الآن القصاص الواجب بمن دمر حياتهم و حياة أولادهم
كم إعترانى الذهول لما حدث .... أخذوا يهتفون له و كانت نساءهم ترقص و تطلق الزغاريد .... أخذوا يرفعون الطين بأيديهم العارية و يضعوه على جانبى الطريق ... تم فتح الطريق بعد أن كاد الهطايلة يهلكون تحت الأمطار و وسط أكوام الطين
عبرت السيارة الأوحال ... هنا قال (رجل البطولة و الخير و البناء)
.... لا بد أن أحيى الهطايلة،،، سألوح لهم بيدى
قالت ذات السيقان الرائعة
.... إحترس يا سيدى من إخراج يدك فالجو شديد البرودة
قال (رجل البطولة و الخير و البناء)
.... لا بد من تحيتهم بما يستحقون
خرجت لأسجل اللحظة بالكاميرا
كان الهطايلة يقفون مغطين بالأوحال فى الخلفية ... بينما يد (رجل البطولة و الخير و البناء) تخرج من فتحة صغيرة من أعلى زجاج الشباك ..... يبدو أن البرد كان شديدا فلم يستطع أن يبسط كل أصابعه ... لم يرفع لهم سوى ما يستحقون ... الإصبع الوسطى فقط.!