ضمير مستتر
الدائرة والحلم
استيقَظَتُ وقت الآذان كعادتي دائماً, أعددتُ الإفطار والساندويتشات لأولادي، حملتُ حقائبهم الدراسية وصحبتُ كلٍ منهم إلى مدرسته، ودعتهم ووقفتُ عند محطة الباص، خمس وأربعون دقيقة لم يأت الباص بعد!....لا يهم لم أتضايق أو أقلق، أخيراً جاء، مكتظاً بالبشر. استمتُّ لأضع إحدى قدمي على أول الدرج وحشرتُ نفسي بين أكوام اللحم، لم يضايقني الزحام والتصاق الأجساد بي -اعتدتُ ذلك- ولم أخف من الوقوع ؛ فالناس ستتكفل بزجي للداخل.
- انتبهي لشنطتك يا مدام.
لم أعلق أو أبدي اهتماماً، فلا شيء بها يستدعي الخوف عليه.
وزارة المالية، المبني العتيق المهيب بشارع مجلس الشعب. حيَّاني الحارس بحركة من يديه، فأومأت برأسي رداً للتحية. ومضيتُ للداخل وسط جمع من المتأخرين مثلي إلى حيث المصعد، وقفت في الصف منتظرة دوري، عشر دقائق إضافية في التأخير.
- الطابق الأول من فضلك.
علق أحد المتطفلين قائلاً:
- راكبين الأسانسير ع الدور الأول؟! دي كلها سلمتين!
ردَّ متطفلٌ آخر داعماً إياه: الناس بقت بتوفر صحتها يا أخي.
علقت موظفة كبيرة في السن على الحديث، أرادت هي أيضاً أن تدلي بدلوها:
- يا ابني رجلينا وجعانا، محدش حاسس بحد!!!
لم أعلق، ولم ألتفت حتى. وقف المصعد؛ وانصرفت، اتجهتُ مباشرة إلى حيث دفتر الحضور والانصراف، وقَّعتُ باللون الأحمر.....تأخير -كعادتي- ......لايهم
رفع أستاذ حامد مدير القسم رأسه من الجريدة، عدَّل من وضع النظارة على ووجهه وتفحصني بازدراء قائلاً:
- هو حرام تيجي يوم في معادك؟! ثم استدرك قائلاً:
ربنا ما يقطع لك عادة.
لم تشأ مدام نادية أن ينتهي الحوار هكذا ببساطة دون وضع لمساتها؛ فقضمت قضمة من شاندوتش الفول وأمسكت بيدها قطعة من الطرشي وقبل أن تقذفها في فمها قالت هازئة: ياعيني علينا من الفجر واقفين على الرصيف!!
أعاد أستاذ حامد نظره للجريدة، وأكملتْ مدام نادية إفطارها، وعلقت أنا حقيبتي في يد المقعد... وجلست.
مالت علي أذني سلوى هامسة:
- مش قلت لك حاولي تيجي بدري يا سعاد مفيش داعي للتأخير ده.
فتحتُ دفتر اليوميات وبدأَتُ التدوين ...دون تعليق!!
بشكل تلقائي مميكن ودون أن أرفع رأسي كنت أجيب كل من يقف أمامي لطلب توقيع أو مستندٍ ما؛ بتوجيهه بشكل محكنك ومدربٍ، الغرفة المجاورة، المكتب الثاني، أوراقك غير كاملة، مرَّنا غداً، ورقك لم يصل بعد.....
الثانية ظهراً، أقف في الصف أنتظر دوري أمام المصعد....ثم أنتظر الباص.....ثم أنتظر خروج أولادي من المدرسة لأصطحبهم إلى البيت ليبدلوا ملابسهم، ويجلسوا في انتظاري حتى أُعد الغذاء.....ثم أنتظرهم ليجلسوا متحلقين حولي؛ فأذاكر لهذا وأعنف ذاك على ضعف مستواه....وفي المساء......لاأنتظر.......لم يعد لدي القدرة على انتظار زوجي؛ ينهار جسدي المنهك فوق الفراش مهزوما؛ فيسكن كل ما في فجأة وبلا مقدمات...موت كالنوم.......أو نوم كالموت، كلاهما سيان لافرق.
وفي الصباح أستيقظ وقت الآذان -كعادتي دائماً- فأعد الإفطار والساندويتشات لأولادي، وأحمل حقائبهم المدرسية وأصطحب كلٍ منهم إلى مدرسته، وأودعهم ثم أقف في انتظار الباص المكتظ بالبشر دائماً......لا جديد .....لاجديد.
أدخل المكتب متأخرة –كعادتي- لا ينتبه إليَّ أحد؛ الكل ملتفت لسلوى يصغون إليها باهتمام بالغ....لماذا؟ ...لا يهم!
أجلس على مكتبي أسمع سلوى تنهي حديثها....."كان حلم غريب قوي" تجيب نادية بتنهيدة تبدو مفتعلة بعض الشيء مع زفرة حارة تخرج من صدرها "اللهم اجعله خير..."
حلم........صدمتني الكلمة. رفعتُ رأسي، حدقتُ في الجميع بدهشةٍ باديةٍ في ملامح وجهي الصلب، استغربتُ وقع الكلمة على أذني فقد افتقدتها منذ زمن بعيد.....تنبهت إلى أني.......لم أعد أحلم، نعم منذ فترة طويلة لم أعد أحلم، ولم أنتبه لذلك حتى الآن..!!
تذكرت أني عندما كنت في المرحلة الثانوية رأيت في منامي معبد ينهار بعدها مباشرة توفي والدي، وأني مرة سمعت في منامي الآذان ففازت بعدها أمي بقرعة الحج، ومرة أخرى رأيت فارساً يرتجل حصاناً ويطرق بابنا وبعدها مباشرة تقدم لي ابن الحلال، و ........ ولا شيء....لا أتذكر أحلام أخرى، أين أحلامي؟؟! لماذا لا أحلم الآن...؟! كررتُ السؤال على نفسي مراراً.....
أين أحلامي؟؟؟.....انشغَلَتُ طوال اليوم بهذا الأمر... في طريق عودتي، لم أنتظر المصعد نزلت من الدرج، ولم أنتظر الحافلة....أوقفتُ سيارة أجرى، ولم أنتظر أولادي.....طلبت من جارتي أن تحضرهم مع أبنائها من المدرسة، ولم أجعلهم أبنائي ينتظرون إعداد الغذاء.....أرسلت زوجة البواب لشراء طعام جاهز لهم، ثم طلبتُ منهم ألا ينتظروني وينهوا واجباتهم المدرسية بأنفسهم دون مساعدتي......وفي المساء انتظرتُ زوجها ..... وحينما جلسنا معا.......طلبتُ الطلاق.
#شبكة_صوت_الحرية