اخر الاخبار

الخميس , 3 يوليه , 2014


القطار .......................

ارتفعت الشمس في كبد السماء، تأخر الوقت بالفعل، كان ينبغي له أن يسافر فجراً حتى يصل في الوقت المناسب لكنه لم ينم طوال الليل؛ كان القلق يساوره مما هو مقبل عليه. لا بأس فليلحق بقطار الظهيرة لعل من الأفضل له أن يصل ليلاً حتى لا يراه أحد. لحسن الحظ سريعاً ما استوقف سيارة أجرة على غير المعتاد؛ ربما شعر السائق بحاجته الماسة للمغادرة أو ....للفرار .
محطة رمسيس، خلية نحل تشغي ليل نهار وكأن مصر كلها تجتمع بها؛ لهجات مختلطة، وملامح مختلفة، ومشاعر ممتزجة يختلط فيها الفرح بالحزن، و حرارة اللقاء بلوعة الفراق. لا فرق ...كلها مشاعر ولم يعتد يوماً الوثوق بالمشاعر أو الوقوف عندها تبلد إحساسه كما تبلدت حياته في جمودٍ تام أو شلل تام.
بجوار النافذة كان مقعده، لم ينسَ أن يشتري الجريدة؛ شيء ما يعينه على قطع الطريق الطويل، طريق بطول عمره كله خمسة وعشرين عاماً، ترى هل كانت أمه تدرك هذا حين حملته رضيعاً هرباً من قسوة الأهل، و أملاً في رأفة الأغراب، هل كانت تدرك وقتها ما كان ينتظرها؟ عفواً، ما كان ينتظرهما معاً، فقد شاركها كل معاناتها وحمل عنها أوجاعها حتى أخذها الموت من بين ذراعيه، حينها لم يكن ناقماً أو متبرماً بل ربما شعر بالرضا والامتنان لما حدث....آن لها أن تلتقط أنفاسها... آن لها أن ترتاح.
لم يكن من السهل عليه أن يأخذ هذا القرار ..أن يكتشف المجهول ويخوض غمار المعركة وحيداً إلا من ورقة في يديه تثبت أنه نتاج هذه الزيجة، بل هذه الخطيئة. لم يدركا حين قررا الزواج أن هناك شخصاً ثالثاً من حقه أن يبدي رأيه لأنه مشارك بالفعل في تبعات هذا القرار الذي عصف بحياته كلها.
لقد أحببته بصدق " كانت هذه كل التبريرات التي ساقتها أمه، ولم تأبه بنظراته لها، وما إن كانت حجتها كافيه أم لا؟ وما إذا كان قد غفرَ لهما بالفعل أم لا؟ لا فرق ...فالنتيجة دائماً واحدة فهو مطالب بدفع الثمن. لقد كان ثمن هذا الحب الغير متكافئ أن أمضىَ حياته ..بلا حب وبلا مشاعر، في الحقيقة......بلا حياة.
فتح الجريدة في تراخِ شديد مازال أمامه كثير من الوقت، لما العجلـــة؟

استوقفته بنظراتها الحائرة وتوترها البادي في نبرات صوتها، رفع عينيه.
- هل هناك أحد بجوارك؟
نظر إليها بتمعن وإن لم يكن يراها بقدر ما كان يرى صعوبة الرد على سؤالها، أبداً لم يكن هناك أحد بجواره، طوال عمره كان وحيداً حتى حين كان يمسك بيد أمه يطوف بها في عيادات الأطباء كان وحيداً. كررت السؤال، بدا لها أنه لم يسمعها جيداً، أجاب بإيماءة مقتضبة من رأسه، وأزاح جاكته من المقعد ليوسع لها المكان، ألقت بنفسها على المقعد بعنفٍ مبالغ فيه، ألتفت إليها ثم ما لبثَ أن دفن وجهه في الجريدة مرة أخرى، كان يحتاج لكثير من الجهد لكي يعي ما يقرأه.
صافرة القطار تخترق أذنيه وصوت الميكروفون يعلن مغادرة القطار، نظر من النافذة بدأ القطار يتحرك ببطء شديد ...وحملٍ أشد؛ وكأنه يعطيه فرصة للتراجع، لا.. لا مجال للتراجع الآن، لم يعد هناك ما يعود له أو ما يعود من أجله، اشتدت سرعة القطار وكأنها تسارع دقات قلبه و بدأت الطرق والأفراد يرحلون من أمامه يتلاشون شيئاً فشيئاً وكأنه عرض رتيب لفيلم ممل حفظه من كثرة تكراره.
أعاد عينيه للجريدة يحاول جاهداً التركيز في شيء ما، عامل البوفيه ينادي بإلحاح " قهوة، شاي، ساقع" يشير له، كوب شاي من فضلك، "والمدام تاخد حاجه؟" يتنبه لوجودها بجواره يمنعه الحياء من تجاهل سؤال النادل ينظر لها وكأنه يسألها، تطأطأ وجهها وهي ترفض شاكرة، يتنبه إلى ثيابها السوداء تذكره بموت أمه، ترى أهي أيضاً ثكلى؟ بالتأكيد ليست مثله بالنسبة له موت أمه هو موت تاريخه كله ومستقبله أيضاً لقد كانت كل ماله في الحياة بقدر ضعفها ووهنها إلا أنها كانت العصا التي يتوكأ عليها، كانت الدعم الحقيقي والوحيد له في الحياة.
نظر من النافذة، كم هي كثيرة الأشياء التي لم يرها في حياته! ربما كان الأسهل بالنسبة له أن يعدد ما رآه بالفعل فهو قليل جداً يمكن حصره بسهولة، جحره الصغير أو سمه بيتاً إن شئت في ذلك القبو أسفل البناية الضخمة التي تطل على ميدان شبرا حيث اعتاد الجميع مناداته ليل نهار لتلبية طلبات السكان وسخافاتهم يتذكرٍ مدام دلال، كم من مرة نادته وحين يجيبها، تردد ببلاهة "آه نسيت لما أبقى أفتكر أبقى أناديك" ثم تردف مستدركة "خليك قريب عشان تسمعني".
وأستاذ حسين، الغليظ القلب و الجسد، كم من مرة ضربه لأتفه الأسباب أحياناً لم يكن يعوزه سبباً لضربه وتقريعه كان يكفي أن يكون مزاجه سيئاً ليتحمل هو وزر التنفيس عنه بتلقي ضرباته.
وحسام بيه كما كان يصر أن يناديه، ذلك الشاب الوسيم الثري المتعجرف لم يكن ينقصه من الحياة شيء إلا أن يكون له خدم يشعرونه بأهمية وجوده في الحياة؛ وكان هو من يقوم بهذا الدور ببراعة وخبرة.
أما الحاجة زينب، آه الحاجة زينب ذات القلب الطيب كم كانت تشفق عليه وترحم ضعفه، لم ينسَ أبداً إلحاحها على والدته لتلحقه بمدارس ليلية، والمصروف الشهري الذي كانت تعطيه له، فتأخذه أمه بحجة مساعدتها في النفقات، تذكر يوم نجاحه في البكالوريا حين نفحته عشرين جنيهاً كان أكبر مبلغ وقع في يديه، كادت الفرحة أن تقتله لولا إصرار والدته على أخذه كالعادة، لكن الحاجة زينب أصرت على احتفاظه به تماماً كما أصرت على إكماله لدراسته على أن يعمل ليلاً كي يوفر مصاريف الدراسة وأمـَّلت أمه بكثير من الخير الذي ينتظرهما بعد إكماله لدراسته.
لم يكن هذا مطمع أمه ولا حلمها لقد تشققت يداها من العمل ووهن عظمها من الشقاء كانت تريد من يحمل عنها حملها الثقيل، لم تعد تتحمل طلبات السكان وتنظيف الشقق ومسح درج البناية كل أسبوع مع عجرفة السكان وقسوتهم، لكن أمام إصرار الحاجة زينب ورجائه لم يكن لها أن ترفض، هي أيضاً جزء منها يريد ذلك ويحلم به "هو فيه حد يكره الخير لولاده يا ناس، دا هو ده إللي طلعت بيه من الدنيا، نفسي أشوفه أحسن واحد، بس العين بصيره والإيد قصيره".
رضخت أمه لرغبة الحاجة زينب ودموعه وأكمل دراسته بكثير من الجهد والعناء وقليل من النفقات كان كالمايسترو الذي يوازن بين جميع النغمات حتى لا تكون نشازاً، وهكذا كان يحاول جاهداً الحفاظ على رضا السكان وراحة أمه وتفوقه الدراسي لم تكن أوضاعهما تحتمل أبداً أي إهدار في سنوات الدراسة.
بكى كما لم يبك في حياته حين وفاة الحاجة زينب كانت اليد الحانية التي تربت على ظهره كلما أوجعته الحياة بسياطها. أمضى شهوراً باكي العينين كسير القلب لولا تدخل والدته بإقناعه بطريقتها المعتادة "ليس هناك وقت للحزن لمن هم في ظروفنا يا بني" نعم حتى الحزن رفاهية ليست لأمثالنا.
صوت تقليب الشاي بالملعقة أيقظه من شروده "الشاي يابيه" يمسك الكوب بيديه ويلمس الكلمة بأذنيه ما أعذبها "يابيه" لم يكن يوماً "بيه" حتى بعد أن تخرج وحصل على بكالوريوس التجارة لم يصبح "بيه" وكأن الشهادات غير كافية لتعطيه شرعية الوجود على مسرح الحياة إنه للنجوم فقط، أما الكومبارس فخلف الستار أو على الدَّرج يمسحون السلالم .....
تحولت فرحة أمه بتخرجه إلى حزنٍ ما لبث أن تحول إلى لوم ثم إلى تقريع لما تعتبره هي تقصير في البحث عن عمل، استجدى جميع السكان ليجدوا له واسطة، ولكن كيف ومعظمهم لا يجد عملاً لأبنائه! هل في الحياة مكاناً لابن بوابة العمارة...؟!
- أنت نازل في بني سويف؟
تنبه لوجودها، نظر من النافذة، اليافطة كتب عليها بالفعل محافظة بني سويف. ما أجمل صوت الأنثى! أرق وأجمل من أعذب الألحان، كم تمنى أن يُحِب ويُحَب كباقي البشر، كم نظر بشوق إلى فتيات العمارة وهن يضحكن ويلعبن ويكبرن أمامه ومعه يوماً بعد يوم! لكن تحذيرات أمه الصارمة كانت تردعه دائماً "إن أسأت الأدب سيطردوننا من العمارة سيلقوننا في الطريق، خلينا في حالنا يا ابني، إحنا غلابه، ملناش حد".
كيف لابن العمدة أن يكون غلباناً وملوش حد، عمدة،أي عمدة! هل فكر جده حين طردها أنه يقذف بحفيده الوحيد إلى حوش العمارة ؟؟؟
لم ترض أمه أن تتركه وترحل كما طلب منها جده، أخذته ليلاً وفرت به، لم يغفر جده لأبيه زواجه من الخادمة بنت البندر، ولم يسامحه أبداً حتى عندما مرض أبوه وشارف على الموت لم يجدِ رجاؤه لجده بأن يغفر له ويتكفل زوجته وابنه بعد وفاته، ومات أبوه بين يدي جده، ومات حلمه في أن يكون العمدة المنتظر لنجع الزهاروه، كيف تـُلوَّث دمائهم النبيلة بدماء الخدم القذرة ...!! ترى كيف سيكون شعور جده حين يعلم أن حفيده الوحيد يعمل بواباً في إحدى بنايات القاهرة؟!!
- ممكن أقرأ الجرنال؟
يبدو أنها فطنت أنه ينظر في الجريدة ولا يقرأها فلا معنى للإمساك بها ألقاها إليها بلا مبالاة ودون حتى أن يلتفت إليها.
- في الحقيقة كنت أبحث عن وظيفة، بس النصيب بقى، لقيت فرصة كويسة بس في سوهاج والدتي رفضت بشدة، لكن نعمل أيه بعد وفاة أبي الوضع تغير و أصبح العمل ضرورة ملحة ......المشكلة أنهم يقولون أن في الصعيد الناس قاسيه قوي.
ارتسمت على وجهه ابتسامة غامضة "-الناس قاسيه قوي- إسأليني أنا" قال محدثاً نفسه.
- يا سلام أنت بتسمع، فكرت إن عندك مشكلة في السمع منذ صعودنا القطار لم تنطق بكلمة.
- ................
- أنت رايح في شغل؟
- ................
- شكلك مش من أهل الصعيد، أظن لو تحدثت سيسهلُ لي من لهجتك معرفة ما إذا كنت صعيدياً أم قاهرياً.
- ................
- حتى أهل الصعيد لهم ميزات كثيرة، يـُقال أنهم طيبون وصادقون جداً ورجاله كمان.
آه "رجاله" شرد ثانية "تـُرى من هم الرجال الذين سيقابلهم؟" قالت له أمه أن عائلتهم كبيرة جداً و واسعة الثراء، لكنهم قساة، غلاظ القلب و إن هم علموا بمكانه سيأخذونه منها ليكون العمدة المنتظر وأنها وقتها ستموت من الحزن، ها هي ماتت من الفقر والمرض وهو بجوارها عاجز عن فعل أي شيء.
- يبدو أني أزعجتك بحديثي، آسفة.
يقف أحدهم ليأخذ حقيبته من الرف فوق رأسيهما فيهتز القطار ويفقد توازنه وتسقط الحقيبة فوق قدميها، تصيح متأوهة ولا يجدي أسفه معها فيتشاجران ويتدخل بعض المسافرين لفض الاشتباك يقذفها بأبشع الشتائم تنظر لي مستغيثة، يحدق بها كالأبله ماذا يجب أن يفعل؟ هل يتشاجر معه؟ إنه لم يتشاجر مع أحد طيلة حياته، ولم يعتد أن يسب أحد أو يؤذيه انصياعا لتحذيرات أمه " متعملش مشاكل سيطردوننا، سيلقوننا في الشارع" ، تدخل بعض الركاب في تهدئة الموقف وأخذ الرجل حقيبته وانصرف، نظرت له جارته نظرة لوم وتأنيب وكأنه خذلها قذفت بالجريدة في وجهه بعنف.
- أتفضل أقرأ بدل ما تدخل نفسك في مشاكل ملهاش داعي. همَّ أن يعتذر لكن عن ماذا؟ ما فعله الآن هو ما يفعله منذ خمسٍة وعشرين عاماً وعادة ما يمدحه الناس بدعوى أنه مسالم مش بتاع مشاكل.
ألتزمت جارته الصمت الممزوج بالاحتقار والغضب من سلبيته المفرطة. بعد قليل غفت عيناها سنحت له الفرصة أن يتأملها، وجهها مستدير وشعرها أسود ناعم متهدل على أكتافها، بيضاء البشرة، سوداء العينين، متوسطة القامة، متناسقة الجسد، تضع قليلاً من المكياج الهادئ في وجهها، يبدو من بساطة ملابسها أنها من الطبقة المتوسطة كما يطلقون عليها.
يا لها من فتاة جميلة! كيف تسافر بمفردها هكذا ؟! تستغرق في النعاس فتميل برأسها على كتفه؛ يشعر وكأن شحنة كهربائية عالية تسير في جسده كله لم يلمس في حياته غير يدي أمه الخشنتين، يرتعش جسده وتتصلب مفاصله يرتج القطار بشدة وكأن الكهرباء التي في جسده قد وصلته، تستيقظ جارته الجميلة فجأة فتلمح عينيه المثبتتين على وجهها، وتتنبه لاستناد رأسها على كتفه، فتطرق برأسها خجلاً ويتورد خداها حياءً وغضباً أيضاً، يبدو الارتباك واضحاً على صوتها وهي تقول: "آسفة الظاهر إني رحت في النوم محستش بنفسي".
لأول مرة يود الحديث، لكنه لا يجد ما يقوله يفتش في قاموسه في ذاكرته عن كلمات مناسبة فتفر الكلمات منه هاربة و تعاوده ابتسامته البلهاء ثانية.
يتعمد الآن النظر إليها فينسى مخاوفه و أوجاعه ومرارة أيامه ويلقي بكل أحماله على أعتاب أهدابها السوداء. أعتاد ثرثرتها، بل افتقد ثرثرتها أثناء نومها، وشعر أن وحدته زادت كثافة بصمتها، ينظر إليها محدقاٌ يرجو أن تتحدث؛ لعله يجاذبها أطراف الحديث، ليتها تبدأ من جديد، لكن جارته الحسناء تلزم الصمت وكأن نومها فوق كتفه أخجلها.
- أنتِ رايحة فين؟
وكأنه يسمع صوته لأول مرة، اندهَشَت من سؤاله بعد هذا الصمت المطبق لكن دهشته هو من نفسه كانت أكبر. بعد لحظات من الصمت أجابت.
- رايحة أشتغل ممرضة خاصة في بيت واحد كبير في السن من الأعيان حالته حرجة ومحتاج عناية خاصة.. ودائمة.
كان من المفترض أن يكمل الحوار، لكن ماذا سيقول؟ ليس في عقله جمل أخرى، وكأنها قد قرأت أفكاره وأدركت أن ما قاله يعد إنجازاً في حد ذاته، وليس لها أن تطالبه بما هو أكثر، فتبرعت هي بالإكمال عنه.
- نحن ثلاث بنات وأخي مازال طالباً في الجامعة أنا كبرى أخواتي ومنذ أنهيت دراستي في معهد التمريض وأنا أبحث عن عمل، حتى واتتني هذه الفرصة.
رفعت رأسها إليه تستنهضه الحديث، لكنه اكتفى بإيماءة من رأسه علامة الاهتمام، في الحقيقة كان جُل اهتمامه منصباً على ملامح وجهها الرقيقة، كم هو مريحاً النظر إليها! تمنى أن تطول رحلته، تمنى لو أمضى ما بقى من حياته يستمع لحديثها ويتأمل في وجهها.
- أنتَ رايح زيارة ولا شغل؟
يا إلهي، إنها تسأله، لا مفر يجب أن يجيب، يبذل كثيراً من الجهد ليستخلص الكلمات من شفتيه، فيجيب باقتضاب شديد، وتوتر أشد.
- زيارة.
- أهلك في الصعيد؟
يهز رأسه علامة الإيجاب، ليتها تتركه في شأنه وتكمل هي الحديث عن نفسها! فحياته أكثر تعقيداً مما تتخيل. وكأنها قرأت أفكاره وشعرت بمعاناته في مجاراتها في الحديث فاحترمت صمته وغموضه وبدأت هي تسترسل في الحديث.
- عندما كنت طفلة كنا نركب القطار مع أبي لقضاء الصيف في الإسكندرية في المقر التابع لعمله، كنا نسافر معاً ونمضي الرحلة كلها نضحك ونلعب؛ حتى أن بعض المسافرين كانوا يضجون منا فيعنفنا أبي فنهدأ للحظات ثم لا نلبث أن نعود للهونا من جديد، دائماً كنا معاً ، لم أعتد أبداً أن أكون بمفردي.
يا لسخرية القدر لم تعتد أن تكون بمفردها كيف يقول لها أنه هو الوحدة نفسها. ليت جارته تعرف تاريخه دون أن يسرده لها، يا له من حمل ثقيل يثقل كاهله!
- أجمل ما في الحياة أن تكون لك أسرة، إنها أكبر نعم الله.
هل يطلب منها أن تصمت؟ أم يرجوها بأدب أن تغير الحديث؟ لم تعطه الفرصة، لأنها استرسلت في حديثها.
- حياتنا كانت هادئة، عمادها أبي، هو المثل والقدوة، هو الأب والصديق، بقدر بساطته بقدر صرامته، وبقدر فقره كانت كبرياءه. كان لأسرتنا قوانين صارمة ليس لأحد أن يتعداها أو يتخطاها. نجتمع جميعاً حول مائدة الطعام ويحكي كل منا ما مر به ويعلق أبي بالرضا أو الرفض أو النصح أحياناً، حتى عندما كنا نخطيء ويعاقبنا لم يكن يسمح لنا بترك الطعام وكأنه واجب مقدس، علينا القيام به.
تترقرق الدموع في عينيها فتزيدها سحراً وجمالاً.
- لولا وفاة أبي ما كنت هنا الآن.
يمر نادل البوفيه بصينيته التي تحوي مشروبات مختلفة، هذه المرة دون أن يسألها طلب زجاجتين من العصير.
تنظر في ساعتها.
- أعتقد أننا قاربنا الوصول؟
يهز رأسه "نعم" يزداد توتره، وخفقان قلبه، وكأنه تذكر فجأة ما ينتظره.
- هل أنت ذاهب لزيارة عائلية أم للعمل؟
- زيارة.
- أسرتك تقيم هناك؟
- نعم.
- إذن عملك في القاهرة؟
لا يدري بما يجيب! إن قال نعم فبالتأكيد السؤال التالي سيكون، وماذا تعمل؟ "أعمل بواباً في إحدى البنايات" هل يستطيع أن يخبرها بذلك، لا... محال.
ينقذ الموقف حركة طفلة صغيرة تنحني عند قدميه، تلتقط أغطية الزجاجات الفارغة. من بعيد يأتي صوت والدتها عالياً، تتجاهل الطفلة النداء وتكمل عملها، فيتشارك هو وجارته الضحك، لا تلبث الأم أن تأتي غاضبة تحمل الطفلة بين يديها وهي تعنفها بشدة يرق قلبه لبكاء الصغيرة، ترجو جارته من الأم ترك الصغيرة معها حتى تكف عن البكاء، فترفض الأم بأدب جم حتى لا تزعجهما وتدعو لهما أن يرزقهما الله بالذرية الصالحة، يبتسم شاكراً وتطرق جارته حياءً. يتوقف القطار، محطة سوهاج، يساعدها في إنزال حقائبها.
- مفيش داعي تتعب نفسك، كفايه عليك شنطك.
- ليس معي حقائب.
- أكيد زيارتك قصيرة، عموماً سعدت بلقائك، مع السلامة.
- مع السلامة.
تلوِّح بيديها، وتلاحقها عيناه حتى تذوب في الزحام... هل ينبت الحب من رحم الفراق؟!!!
حمل نفسه وحمله الذي بدا له أثقل بعد فراقها وذهب إلى بوفيه المحطة، تناول فنجاناً من القهوة، وسأل عن نجع الزهاروه، أين هو؟ وكيف يصل إليه؟
- قدامك يجي ساعتين كمان بالبيجو، بعد ما تخرج من المحطة تكسر شمال وتمشي لآخر الشارع قدامك على طول موقف السيارات، الناس حيدلوك.
شكره وغادر، إلى أين؟ يعلم الله ما ينتظره.
الساعة مازالت السادسة مساءً، تشق السيارة طريقها خارج المدينة إلى الطريق السريع تبدو المساحات الخضراء على مدى البصر وأبراج الحمام تزين الحقول، ومن حين لآخر تظهر أسراب الحمام العائدة إلى أوكارها مثله، ولكنهم يعودون في جماعات، ويعود وحيداً، كل شيء بدا مختلفاً هنا، حتى الهواء أكثر حرية وانطلاقاً، رائحة الحقول تنعشه، آه لو لم يكن خائفاً، متوجساً مما سيأتي لكان استمتع كثيراً بهذا الجمال، أكل هذا الفضاء الرحب لم يسعه ووالدته؟! الفلاحون على جانبي الطريق يجرون بهائمهم، و يجرجرون أقدامهم وأوجاعهم عائدين لبيوتهم وأسرهم، الشقاء يبدو جلياً في تجاعيد وجوههم، لكنهم بالتأكيد سينعمون بالراحة حين يصلون بيوتهم. صوت المطربة في المذياع يمتزج بعطر الطبيعة وجمالها فيعزفان معاً لحناً مختلفاً لم يسمعه من قبل، كل شيء هنا له مذاقه الخاص. صوت المطربة في المذياع يردد "ارتاح يا قلبي ليلة، بعد الغربة الطويلة" هل آن لقلبه أن يرتاح؟ تقف السيارة، وينادي السائق "نجع الزهاروه"
- أين،لا توجد مبانٍ هنا ولا بيوت؟ أين النجع؟
- قدام يا بيه أمشي على طول تلاقيه قدامك، السيارات مبتدخلش جوه النجع.
ينزل من السيارة متبرماً، يسير في طريق ضيق متعرج تـَرٍب وتسير معه هواجسه، بل تسبقه على الطريق، ربما هي فرصة له ليرتب أوراقه من جديد، ماذا سيقول لجده؟ وكيف سيكون رد فعله إن طرده كما فعل مع والدته؟ وعماته؟ بالطبع سينكرون وجوده حتى لا يشاركهم في الميراث؟
سيهددهم برفع قضية، بالتأكيد هو لا يملك أتعاب المحاماة، والقضايا طريقها طويل لكنه مجرد تهديد. من حين لآخر يسمع أقدام تسير بجواره ثم لا تلبث أن تتعداه هذا يركب حماراً، وذلك على قدميه، هل يسألهم عن عمدة النجع؟ لا، ليس الآن. تعبت قدماه لكن تفكيره المضني لم يشعره بذلك. أخيراً بدت مآذن القرية وأبراج الحمام، يترامي إلى أذنيه صوت آذان العشاء في مسجد صغير على الطريق، على باب المسجد أزيار وضعت فوقها أكواب معدنية، ما أشد ظمأه! يخلع حذائه ويدخل، المسجد متواضع الحال يفترش المصلون الحصر الجافة، و يتأهبون لأداء الصلاة، يتوضأ ويجلس في ركن من المجلس منتظراً إقامة الصلاة، يرمقه الجميع بنظراتهم.... للغريب ملامح لا تخطئها العين، خاصة في قرية صغيرة كهذه.
يتطفل أحدهم ويسأله: أنت غريب يا أفندي؟ شكلك مش من النواحي دي. يهز رأسه بالإيجاب، بينما يبدو جلياً على ملامحه الاستياء و الرفض التام لتطفله، يفهم الرجل وينسحب في صمت.
تـُقام الصلاة، يقف بين الصفوف شارد الذهن، مشتت الفكر، تُرى هل يكون جده أحد المصلين؟ ربما يكون الواقف بجواره هو ابن عمته أو أحد أقاربه؟ تنتهي الصلاة ويجلس منزوياً في أحد الأركان.
تغفو عيناه من التعب، فيشعر بيد تربت على كتفه بحنان، يتنبه فزعاً، يرفع رأسه، رجل طاعن في السن متوسط القامة علا الشيب رأسه، كثيف اللحية، تبدو الطيبة في ملامحه.
- أنت منين يا ابني؟
- ..................
- طيب رايح فين؟ شكلك غريب؟
- ..................
يقف وهو ينفض التراب عن ملابسه، يلح الرجل عليه ثانية بالسؤال.
- لو متعرفش حد هنا اتفضل عندي؛ كلنا ضيوف الرحمن؟
- شكراً لك، في الحقيقة كنت أسأل عن بيت العمدة؟
- عبد الرحيم العيساوي؟
- نعم، هل يبعد عن هنا كثيراً؟
- لا، شرق البلد، بس الدنيا ليل مش حتعرف توصل لوحدك، خلينا نشوف حد يوصلك.
يقف الرجل بمشقة، يستند على الجدران حتى يصل لباب المسجد وينادي بصوت أجهده الزمن، يا محمد، يا محمد، أنت يا واد يا محمد.
- نعم يا سيدنا.
خد البيه وصله لبيت سيدك العمده، خلي بالك ده غريب أوعى تسيبه إلا لما يدخل الدار.
- من عنيا يا شيخ.
ربت الرجل على كتفه ثانية بيده المعروقة. ما أحوج الغريب للحنان!
يزداد الظلام في قلبه وشوارع القرية. كان الصبي يسبقه، فيسرع الخطى ليلحق به، الشوارع ضيقة ومتعرجة والبيوت طينية سقوفها منخفضة، معظمهم قد بني بجوار بيته مصطبة من الطوب اللبن يجلسون عليها يتسامرون ويتجاذبون أطراف الحديث، لكن سرعان ما يقطعون حديثهم وينظرون إليه وهو يسرع الخطي خلف دليله، تمنى لو يتمهل فهو ليس في عجلة من أمره، في الحقيقة كل ما يفكر فيه الآن هو أن يعود أدراجه... إلى قبو العمارة.
- وصلنا، بيت العمده قدامك أهوه.
وضع يده في جيبه وأخرج جنيهاً أعطاه للصبي، فرح كثيراً ودعا له وهو يمضي بعيداً.
ولكن حين تركه الصبي،ودَّ أن يلحق به، انتابه شعور بالخوف والضياع وكأنه طفل صغير تاه عن والديه في الزحام، وقف متسمراً مكانه، لا يدري ماذا يفعل! البيت هو الأكبر في كل البيوت التي مرَّ بها، وقد بني من الطوب الأحمر سقفه عالٍ، يبدو وكأنه حصن حربي طـُلي باللون الأصفر وزين بالرسومات الزاهية للجمال العائدة من الحجاز وقد كتب عليه بخط جميل حج مبرور وذنب مفغور وبين قوسين كتب بخط أكبر حج لبيت الله الحرام الحاج عبد الرحيم محمد العيساوي عام 1420هـ، أهذا جده؟ لقد ذهب للحج إذن، لعل الله قد هداه ورقق قلبه لحفيده.
شرفات البيت واسعة ونوافذه مرتفعة، أمام البيت دكك خشبية مطلية باللون الأخضر الغامق وقد جلس عليها بعض الرجال يتحدثون بصوت مرتفع وكأنهم يتشاجرون، اثنان من الخفر بملابسهم المعتادة يجلسان على درج البيت يرشفان الشاي ويتحدثان معاً وأمامهما تشتعل النار في الموقد بينما وضع البراد فوقه، تسمرت قدماه، لا يدري ماذا يفعل وكأن أحدهم قد تنبه لوجوده فأشار لهم فنظر الجميع له وعم صمت قاتل في المكان.
ليته يستطيع الهرب! ليته يستطيع الفرار! يود أن يتقدم أو يتكلم فتخونه شجاعته التي لم يشعر بها يوماً ليته كان يملك تلك الشجاعة فيقتحمهم بثقة وثبات! يقترب أحد الخفر منه متسائلاً:
- عاوز حاجه يا افندي؟
- .................
- حضرتك عاوز مين؟
- أنا.. أنا العمدة، ...قصدي أنا عاوز العمدة.
- وماله، تفضل، شكلك غريب، أتفضل أتفضل.
يسير الخفير أمامه, يتبعه صامتاً، يقترب من الباب فيلقي التحية على الجلوس، يردون بصوت قوي أجش، يطرق الخفير الباب، ثم يدلف للداخل.
- أتفضل اجلس لحد ما أناديهم.
ينادي بصوتٍ عالٍ:
- يا هانم، يا بت يا هانم
- نعم، في أيه؟
- بلغي الست غاليه، في واحد غريب عاوز العمدة.
- حاضر.
تسرع إلى الطابق العلوي، ويقلب هو عينيه في أنحاء القاعة الواسعة بسقفها المرتفع يتوسطها مجلس من المقاعد الخشبية الضخمة والوثيرة يتحلقون حول طاولة خشبية عليها رخامة بيضاء وضعت عليها أكواب الشاي وبعض عـُلب الدواء، وكثير من الصور والأيقونات المعلقة على الجدران، وإلى اليمين كان السلم المؤدي إلى الطابق العلوي، سلم خشبي واسع له ترابزين خشبي أيضاً، يسمع وقع أقدام على السلم، تظهر بجلباها الأسود الطويل وصوت الأساور في معصميها يعطي لوقع خطواتها نغمة خاصة، بدأت تهبط الدرج بخطوات متأنية وهو يرقبها عن كثب يلاحقها بعينيه، أما هي فكانت تسير بثبات، لم تلتفت نحوه، توجهت ناحية المقعد الخشبي أمامه ثم استدارت فجأة ناظرة إليه. ارتعش جسده للحظة ؛ لقوة نظراتها الثاقبة وهي تخترقه..
- أهلاً بك.
- أهلاً
- لم نتشرف بمعرفتك هل أنت طبيب الوحدة الجديد؟
- لا، أنا حسنين..........
لم يعنِ لها الاسم شيئا أشارت برأسها له تستحثه على متابعة الحديث.
- أنا حسنين محمد عبد الرحيم العيساوي.
بدت المرأة كمن رأى وحشاً خرافياً أمامه، فتحت فمها وازداد اتساع حدقتها، ظهر التوتر واضحاً في حركاتها أخذت تعود بظهرها للخلف دون أن ترفع عينيها عن وجه، و كأنها توشك أن تفقد توازنها، تلمَست يدي المقعد خلفها وهي تجلس، بينما كان هو يبحث في جيبه عن شهادة ميلاده، مدَّ يده إليها.
- شهادة ميلادي، تفضلي.
لم تلتفت ليده الممدودة إليها وظلت عيناها مثبتتان على وجه.
أخيراً نطقت بصوت عميق وكأنه يأتي من عالم آخر.
- لا داعي لها وجهك يكفي، ثم همست محمد.
- أنا حسنين ابنه.
- محمد.
- لقد توفي والدي -كما تعلمين- منذ خمس وعشرين عاماً تقريباً، ولقد أخذتني أمي إلى القاهرة هرباً بي بعد أن قرر جدي أن يأخذني منها.
- محمد.
هل نسيَت أنه مات؟! ما هذا؟!
تفرست في وجهه بعمق ثم ما لبثت أن قامت من مقعدها فجأة، فخاف وقام هو أيضاً، اقتربت منه، أخذت تتحسس وجهه بيديها، بشرته السمراء وقامته الطويلة النحيلة وشاربه الكثيف و عينيه العسليتين الواسعتين، تماماً كأبيه.
- محمد
قالتها هذه المرة بفرحة ممزوجة بالدموع وقد تهدج صوتها، ظن أنها جُنت، أو شيء من هذا القبيل لكن ملامحها الوقورة ووجها الجاد لا يوحي بذلك.
- وجهك هو أصدق شهادة ميلاد لك. أين كنت؟ لماذا حرمتنا منك كل هذه الأعوام ألم تشفق بنا؟ ألم تشتاق لنا كما كنا نشتاق ونتلهف عليك؟ لقد أعيانا الصبر والانتظار.
وما لبثت أن صاحت بأعلى صوتها حسنين...حسنين ابن أخويا رجع.
وفجأة امتلأ الدار بالناس من كل حدب وصوب وأضيئت الأنوار كلها حتى بدا ظلام الليل شمساً ساطعة، ألتم الجميع حوله في فرحة غامرة يتخطفنه من كل جانب ويحيونه بالأحضان والقبلات وصوت الزغاريد يعلو في المنزل، اجتمع أهل القرية كلهم في خمس دقائق، هيبة الموقف والصدمة ألجمته، لم يستطع مجاراتهم. كل ما فهمه أنها عمته غالية كبرى أخواتها البنات، امتزجت الدموع بالضحكات والتهاني بالتساؤلات، كانت السعادة بادية على الجميع، لكن المفاجأة كانت أوضح على وجوههم، شلالات الأسئلة تنهال عليه من كل جانب، فيرد بكلمات مختصرة.
- والست الوالده فين؟
- يرحمها الله توفيت منذ ثلاثة شهور.
- ومن أخبرك بمكاننا؟
- أمي دائماً ما كانت تحكي لي عنكم.
- الله يسامحها بقى، لو لم تأخذك وتفر من البلد لكنت ربيت في وسط أهلك وناسك.
تتدخل عمته بحكمة ووقار:
- لا داعي لهذا الآن، لقد عاد وهذا يكفي.
صمت الجميع انصياعاً لها
- أين جدي وجدتي؟
يطبق الصمت فجأة على المكان ..وجم الجميع، منهم من مصمص شفتيه ومنهم من أطرق برأسه في الأرض، أما عمته فقد نظرت له نظرة لم يفهمها، تعلقت عيناه بشفتيها.
- ماتت جدتك كمداً بعد أشهر قليلة من موت والدك وفرار والدتك بك.
لا يدري لماذا حزن حتى أوشكت الدموع أن تذرف من عينيه؟ إنه لم يرى جدته يوماً، لماذا انتابه الحزن بهذا الشكل؟ يكفي أنها ماتت حزناً على موت أبيه وفراقه، إذن كانت تحبه!....قال في نفسه
رفع رأسه ثانية وقد بدت سحابة الحزن تظلل وجهه.
- وجدي؟
- إنه ملقى على سريره كالأموات، فعل المستحيل ليصل إليك أرسل رجال الأسرة كلهم والخفر يبحثون عنك في كل مكان، لكن كيف!! ومصر واسعة ووالدتك لم يكن لها أهل نقصدهم؟
حج ثلاث مرات بغرض أن يتقبل الله رجاءه وتعود إليه، ولما فقد الأمل في العثور عليك تراكمت عليه الأمراض حتى أصبح جسداً بلا حياة.
- إذن جدي كان ينتظرني؟
- جدك قتله انتظارك يوماً بعد يوم، كلما عاد واحداً من أبناء القرية من القاهرة سأله ألم ترَ حسنين؟
- كنت أظنكم نسيتموني.
- نسيناك! لقد كنت يا بني الأمل الوحيد الذي نعيش له و نتمسك به ونُخيف به كل الطامعين بنا، بعد أن علموا بمرض جدك أصبحوا ينتظرون موته كل يوم لينقضوا على العمودية فلا رجال لدينا تكاثرت الأطماع حولنا ولولا صلابتي لما وجدت هذا البيت قائماً حتى الآن.
كان حديثها مؤلماً و مؤثراً للغاية. وقف فجأة و هو يقول: أين جدي؟ أريد أن أراه.
- ستفعل ولكن لا تستغرب إن لم يعرفك فقد ضعفت ذاكرته حتى نحن لا يتذكرنا أحياناً.
سارت أمامه صاعدة الدرج الخشبي وهو يتبعها، في نهاية الدرج كان هناك ممر واسع بعض الشيء به غرف كثيرة لم يعدها في نهايته غرفة بابها خشبي مرتفع بشكل ملفت للنظر طرقت عمته الباب، ثم أدارت المقبض فأحدث صريراً مزعجاً، دخلا الغرفة كانت الإضاءة ضعيفة لكن لم يصعب عليه رؤية المقعد الخشبي المرتفع الظهر الموضوع بجوار النافذة وجده بهامته العالية جالس عليه متوكئ على عصاه، ربتـَت على يديه فأدرا وجهه لها.
- أبي هل تعرف من جاء ليراك؟
لم يحرك جده ساكناً ..أما هو فلم يستطع الصمود أكثر من ذلك أجهش في البكاء بشكل هستيري وهو يرتمي عند قدميه يقبل يديه ويبللهما بدموعه الحارة، ربت جده على كتفه قائلاً: حسنين!! كنت أنتظرك.
لم يعد يـُسمع بالغرفة إلا صوت البكاء والنحيب من الجميع، حاولت عمته جذبه بعيداً عن جده لكنه تشبث به بقوة.
- كفى يا حسنين، جدك مريض لا يتحمل ذلك.
- الآن يمكنني أن أموت مُرتاحاً.
- لا يا جدي أنا أريدك، أريد أن أبقى بجوارك لقد جئت لأجلك طوال حياتي لم يكن لي أسرة أو أهل وعندما أراك تتركني وحدي ثانية، أرجوك لا تقل ذلك أبداً.
كيف مرت الليلة عليه، هو نفسه لا يعرف كان مأخوذاً بشدة من كل شيء حوله، الأحداث تتوالى بشكل أسرع من إدراكه لم يحدث أي شيء مما توقعه ومما كان يخافه، آه لو كان يعلم أنهم يحبونه هكذا؟!
مرت الأيام التالية بشكل سلس لم يكن يحب أن يفارق جده أبدأ وبدا جده على عكازه أكثر صحة وقوة من ذي قبل، لا ينسى كيف أنه أصر على أن يأخذه في الكارته معه ويدور به في البلد كلها ليروه مع حفيده، كما أقام ليلة كبيرة لأهل الله، تقول عمته بأنه قد قطع هذا النذر على نفسه منذ زمن بعيد، عماته الثلاث الأخريات كن أصغر من عمته غالية وأقل منها تأثيراً في النجع بل حتى في البيت أيضاً، كانت عمته تدير البلد باقتدار وتمرس وحنكة لم يعهدها في امرأة من قبل، أين هذا من أمه بطيبتها وانكسارها، وانهزامها، وخوفها القاتل من المستقبل كلتاهما امرأتان ولكن شتان بينهما ما أبعدهما عن بعض.
ضحكت عمته قائلة لقد استرد جدك ذاكرته، و اردفت يا ويلنا منه وشاركها الجميع الضحك.
- ألهذا الحد تخشينه؟
- أخشاه!
- كلنا يا ولدي نخشاه، أنت لا تعرف جدك ومدى صلابته لو أن مامر به جدك، مر بجبل لانهار لكنه ظل متماسكاً حتى تظل هذه الأسرة كما هي، وأنا حاولت جاهدة أن ألملم بعده هذا الشتات حتى لا تفترسنا ذئاب القرية.
- ذئاب القرية، يالقسوتك ياعمتي! أين هم الذئاب؟ لم أرَ غير ملائكة منذ جئت؟
- لا تقلق سترى بعينيك وستعلم ما نحن فيه لا تحسن الظن بالناس يا ولدي، هذا أول درس.
- ولا تسيئ الظن بهم يا عمتي.
أحب عمته كثيراً، أحب قوتها وشموخها وعنادها، كان يسير خلفها في الغيطان والحقول كالطفل الصغير الذي يحتمي بأمه، أما هي فكانت تنادي الصغير والكبير " تعال سلم على سيدك حسنين، العمدة" أفزعته الكلمة، العمدة! إن عمته لا تعرفه بعد، يبدو أنها هي التي أحسنت الظن به! لعل من الأفضل أن يجلس معها ويروي لها قصته لعلها تفهم أنه أبعد ما يكون عم تحلم به، لا يتمنى أن يصدمهم، ولكن ينبغي له أن يفعل ذلك.
كل شيءٍ يبدو هادئاً في القرية، حتى مشاكلهم كانت بسيطة في بساطة حياتهم، هذا أخذ دور جاره في المياه، وهذا جار على أرض جاره، والآخر يريد أن يخطب فتاة وأهلها يرفضون لأنه ليس من أولاد عمومتها كما هو متعارف عليه بينهم. و عادة ما تجلس عمته في القاعة الكبيرة على مقعد العمودية الضخم الذي يتوسط القاعة بينما يقف الخفر خلفها، وبعد أن تستمع للاثنين تصدر حكمها الذي لا يمكن لأحدٍ نقضه أو رفضه، وينصرف الجميع وتنظر له بتمعن وكأنها توصل له رسالة لا يفهمها.
عمته غالية كانت كبرى أخواتها بعد أبيه، تحملت تبعات وفاة أخيها و حزن أبيها، فشبت عن الطوق باكراً، تزوجت أحد أبناء عمومتها، لا ينبغي لنا أن نسأل ما إذا كانت أحبته أم لا، فالحب ليس في قاموسهم إنما هو التقاليد والعرف، لم تنجب عمته أولاد وبعد خمس سنوات فقط مات زوجها أو قتلته أحد العائلات المعادية لهم في النجع المجاور، فعادت لبيت أبيها ورفضت الزواج ثانية لتكون عوضاً عن العمدة المنتظر، ونجحت برجاحة عقلها وحكمتها أن تملأ مكان أبيها المتهالك؛ فلا يشعر أهل النجع أنهم بحاجة لعمدة حقيقي. عُرف عن عمته عدلها، ومحافظتها على التقاليد فهي ترفض بشدة الخروج عنها حتى لو كان حكمها سيكسر أو يحطم قلبين، أبداً لم تكن هذه الجملة تعني لها شيئاً.
أما بقية عماته الثلاث فكلهن متزوجات، هنية تعيش بجوارهم في النجع و لها ثلاثة أبناء و عمته عزيزة متزوجة في نجع مجاور ولها بنتان وقد جاءت حين علمت برجوعه ثم عادت ثانية لبيتها، وعمته الصغرى فاطمة و هي الأكثر مرحاً، والأكثر قرباً من جده و عمته غاليه، دائماً عندهم في البيت تتحرك بمرح ونشاط من غرفة لأخرى ومن طابق لآخر، تتفقد أحوال المنزل و تتابع دواء جده وإطعامه وتخفف عن عمته غالية حين يجهدها العمل وإن كانت غالية لا تشكو ولا تتبرم أبداً، وحتى لا تظهر عليها ملامح الإجهاد أو الإعياء، ملامح وجهها ثابتة لا تتغير وكأنها نحتت من الصلب.
كان يحب الجلوس للحديث مع عمته فاطمة لبساطتها لكنه كان مبهوراً بعمته غالية. كلاهما تجنبا الحديث عن أمه وفرارها وكأن هناك تعليمات صارمة من العمة غالية بتجاهل هذا الجانب من حياته.
- لم يسألني أحد عن دراستي؟!
ألتفتت له عمته فاطمة وهم جلوس مع جده يحتسون الشاي في حديقة البيت.
- الشهادات لا تهم هنا يا حسنين، مادمت تقرأ وتكتب فهذا يكفي.
- وكيف يتوظف الناس إذن؟
ضحكت عمته بصوتٍ عالٍ.
- من حسن حظنا هنا، أن الأرض تعرف أبناءها فلا تطالبهم بأوراق وإثباتات.
- ما معنى ذلك؟
- معظم الناس هنا يعملون بفلاحة الأرض وزرعها، الحياة بسيطة لا تحتاج لمستندات.
تلتفت عمته فاطمة لإحدى بناتها تطلب منها أن تذهب لتأتي بدواء جدها.
- هل ستذهب البندر اليوم مع أولاد عمتك هنية، قالوا لي أنهم سيأخذونك معهم؟
- نعم سنذهب معاً بعد قليل.
- حسناً هيا جهز نفسك.
جهز نفسك هذه تعني أن يرتدي جلباباً وعمامةً، فمنذ اليوم التالي لوصوله طلبت منه عمته استبدل بنطاله وقميصه بجلباب فثيابه لا تليق بالعمدة، لشد ما تزعجه، بل تخيفه هذه الكلمة.
بعد ساعة من الزمن كان أولاد عمته بسيارتهم ينتظرونه خارج البيت، ركب معهم السيارة وانطلقوا. نفس الطريق الترب الذي أتاه سيراً على الأقدام منذ شهر، أبراج الحمام و المسجد الصغير، والفلاحون يعملون في الأرض على جانبي الطريق، كل شيء بدا مختلفاً الآن؛ أصبحت هناك ألفة بينهم.
- ما رأيك بالقرية، طبعاً عالم تاني، حد يسيب القاهرة ويجي النجع؟!
ضحك ولم يجب، محمد هو الابن الأصغر لعمته هنية والأكثر مرحاً، لكن حسين هو الأكثر وقاراً، بخلاف أخويه الآخرين، أما علي فهو شخصية انطوائية، ناقمة على التقاليد والعرف والقرية نفسها، حلمه الوحيد هو السفر والفرار خارجها، كثيراً ما تشكوه والدته لخالته غاليه، فتوبخه الأخيرة فيستقيم لفترة ثم يعود مرة ثانية، لكن حسين هو الأشبه بخالته غالية والأقرب منها، قليل الكلام قوي البنية والشخصية غالباً ما يشاركها في مجلسها فهو اليد اليمنى لها.
بدت مدينة سوهاج مألوفة لديه، ببساطتها وطيبة أهلها، قد تكون عالم صغير بالنسبة لهم، لكنها كبيرة جداً بالنسبة له. القاهرة، هي هذا القبو الضيق الذي كان يسكنه، أما هنا فهو عالم رحب يذهله.
أمضوا اليوم في التجوال في شوارع المدينة وشراء ما يلزمه من ملابس تليق بالعمودية كما أوصت عمته غالية، ثم تناولوا الغذاء في أحد المطاعم، وفي الساعة السادسةِ مساءً دخلوا إحدى السينمات.
- طبعاً هذه السينما ليست كسينمات القاهرة الفاخرة، دي حاجه كده على قدنا.
ضحك الجميع وابتسم هو، لو قال لهم أن هذه هي أول مرة في حياته يدخل سينما لما صدقوه.
طوال الوقت كانت عيناه تبحثان عنها، جارته الحسناء، تـُرى أين هي؟ لماذا لم يسألها عن مكان عملها؟ أو حتى اسمها؟ كيف لا يسألها عن اسمها ؟! يا له من متخاذل! لعلها لم تسعد بعملها وعادت للقاهرة لقد كانت متعلقة بأسرتها جداً، لا أظنها تستطيع البقاء بعيداً عنهم، لعلها عادت وذابت في زحام المدينة.
- هيه، رحت فين؟ هيا أركب السيارة تأخر الوقت، علينا أن نعود للبلد، أعجبتك المدينة؟ سنعود الأسبوع القادم على أية حال لشراء السماد.
يركب السيارة، ويغادروا عائدين لنجعهم، استغرب الكلمة، نجعنا! يشعر بالانتماء للنجع بشدة وكأنه ولد وربي فيه ولم يفارقه أبداً، ليته لا يفارقه أبداً، ليته يفعل ذلك!!
طوال الطريق ومحمد لا يكف عن الحديث، يحكي ويضحك، وعلي يشكو ويتبرم مما هم فيه، ويقارن بين سعادة أهل المدينة وشقاء أهل النجع.
- ناس عايشه، مش زينا.
- يا راجل أحمـِد ربنا.
- على النجع! أنا بس نفسي أعرف أيه إلي يخلي واحد زي حسنين يسيب القاهرة ويجي يعيش في النجع؟! حد عاقل يعمل كده! دا جنان رسمي.
- أنت لا تعرف قسوة الحياة في القاهرة.
- دا على أساس إن الراحة هنا حتقتلتا.
كان حسين يرافقه دائماً، أو بمعني أدق كان هو الذي يرافقه في مروره اليومي على الفلاحين في الغيطان وكان يلفت نظره كلما أخطأ وتجاوز حدوده بشكل مهذب غير جارح، أشياء كثيرة لم يكن يعلمها، فمثلاً حين يكون راكباً الكارته أو فرسه لا ينبغي له أن ينزل ليسلم على الناس باليد بل يحيهم بيده، وحين يشكو له شخص لا يجب أن يرد فوراً؛ حتى لا يتسرع في الحكم فيخطئ ويفقد ثقتهم، ولكن يجب أن يدعوه للحضور مساءً مع الطرف الآخر ليستمع للاثنين معاً، ولا ينبغي له أن يجلس مع الفلاحين في الغيط أو يضاحكهم ويتباسط معهم في الحديث فتضيع هيبته، عليَّه أيضاً أن لا يكثر من الكلام حتى يصبح لكلامه حين يتحدث معنى، وهذا بالتحديد ما كان يتقنه بشدة.
لقد أعجبته شخصية حسين، إنه أصلح واحد للعمودية وهذا ما أخطأ وذكره لعمته غاليه يوماً مازحاً فكان ردها عنيفاً وقاطعاً: " حسين ابن جابر..العمدة لازم يكون من ولاد عبد الرحيم العيساوي". صمَت وقرر أن لا يحدثها في ذلك بعد الآن.
كانت أيامه متشابهة لكنها ممتعة، يصحو فجراً فيتناول الإفطار مع جده كما تصر عمته ثم يذهب للغيط ليتابع العمل حتى وقت الظهيرة يأتي الخفير بالغذاء ويشرب الشاي وبعد العصر يعود للمنزل فينام قليلاً و في المساء يجتمع مع شباب العائلة ويتسامرون معاً.
كان محمد الأكثر حديثاً، قال له يوماً، أن زفاف حسين قد قرب وأنه سيكون بعد العيد إن شاء الله.
- حقاً، هل اختار عروس؟
ضحك محمد بصوت ساخر، اختار! ما هذا الهراء يا بني؟ ألم تفهم بعد أننا هنا مسيرون ولسنا مخيرون، نحن هنا لا نختار، ولكننا ننفذ فقط ما تختاره الخالة غاليه.
- لم أفهم هل العمة غالية هي التي ستتزوج أم هو؟
تدخل علي قائلاً بمرارة:
- لا أحد يختار هنا كلنا مسيرون ومسلسلون في سلاسل صدئة، الوحيد الذي جرؤ واختار كان والدك –رحمه الله- وقد دفع ثمن خياره.
عمت سحابة من الصمت والتوتر، نظر محمد في ذهول و حاول إصلاح الأمر، لكن علي هو الذي بادر قائلاً وقد بدا عليه التأثر بالفعل:
- عفواً يا حسنين، لم أقصد تقليب المواجع.
- لا عليك.
وصاح محمد: هيا لقد جعنا ها هي خالتي فاطمة تعد العشاء مع هنية.
- ولكن من العروس هل نعرفها؟
ضحك محمد وعلي معاً، وقال محمد:
- نعرفها! إنها صفاء ابنة خالتي عزيزة.
- حقاً، لم أكن أعرف ذلك.
- وربما لم تكن تعرف أيضاً أنك ستتزوج من أختها الصغرى سهام؟
- ماذا؟!
ضحك الاثنان معاً، واستدرك علي قائلاً:
- سهام دي، هي غاليه الصغيرة، نسخة طبق الأصل من عمتك، ليكن الله في عونك...
أذهلني ما سمعته، ظننت أنهما يمزحان كعادتهما فهما لا يعرفان الجدِّية أبداً، ولكن ملامحهما لا يبدو فيها الهزر!!!
صوت عمته فاطمة تدعوهم للعشاء.
عندما أوى لفراشه لم تكن تفارقه كلمات محمد، هل حقاً تخطط عمته لذلك؟ لا يكاد يذكر ملامح وجه سهام لقد رآها بالفعل عندما جاءت مع عمته للسلام عليه وكل ما لاحظه الحرارة التي قابلت بها عمته غاليه، و كيف ألقت بنفسها في أحضانها ولم تفارقها طوال الفترة التي قضتها معهم، وكيف أن عمته أيضاً كانت تربت على كتفيها وتقبلها في حب وحنان ملفتين للانتباه، ولكن هيبة الموقف وارتباكه وخجله لم يمكناه من التفرس في ملامحها جيداً، ولكن هل يعني ذلك شيئاً؟ هل لو تفرس في وجهها لاختلف الأمر بالنسبة له؟ وهل يفرق معه إن كانت جميلة أم لا؟ مادامت عمته قالت فستفعل، ولكن هو، هل يقبل؟ و هل بإمكانه الرفض؟ ولماذا الرفض أساساً ما هي مبرراته؟ جارته ...... جارته الجميلة، آه جارته التي لا يعرف من هي، ولا أين هي، ولا ما هو اسمها حتى. إن كنت رجلاً فلتصارح عمتك بمشاعرك قال محدثاً نفسه، لا مجال للتفكير الآن أنه مرهق، وعمته لم تفاتحه في شيء حتى الآن، عندما تفعل سيكون لكل حادث حديث. كل ما هو متأكد منه أنه ينتمي لهذا المكان ولن يتركه أبداً......
وتمضي الأيام في طريقها، ما بين عمل و واجبات اجتماعية أدرك أن ما نطلق عليه نحن أهل البندر -كما يسموننا- مجاملات، هو واجبات مقدسة هنا دونها الموت، بل يعد التقصير في أدائها في موعدها أو حتى عدم أدائها بشكل لائق إحدى الكبائر، فبمجرد أن يخبرهم الخفر بأن هناء واجب عزاء في النجع أو في نجع مجاور حتى تشد الرحال فوراً وتصر عمته على أن يرتدي الجلباب الباهظ الثمن وأن يدخل محاطاً بالخفر يوسعون له الطريق؛ وكأنه ملك متوج، آه لو تعرف عمته كم كان يرجـُف في الشتاء وهو يغسل سيارات السكان فجراً قبل نزولهم للعمل ثم يقف بجوار المصعد ليفتح لهم الباب حاملاً حقائبهم إلى السيارة مع الدعاء لهم بالسلامة طبعاً، ما أبعد اليوم عن الأمس!!
الشيء المبهج في ماضِيه كله أن دراسته آتت أكلها، فبينما كان حسين يصحبه إلى بنك التسليف الزراعي اكتشفت أنهم يأخذون قروضاً بفوائد مرتفعة بينما هناك طرقاً أخرى أيسر وأوفر في السداد، وتناقش مع المحاسب في حلول لذلك بحيث يمكنهم تخفيف الأعباء عن كاهل الفلاحين الذين أثقلت كواهلهم الفوائد البنكية التراكمية، ولأول مرة ربما، يعجب به حسين، عادة ما يكون هو الشخص المبهور به دائماً، فقد أعجب بنقاشه مع مدير البنك ونجاحه في تخفيف الفوائد، ونقل ذلك لعمته التي كانت فرحتها شديدة وقالت بثقة:"كنت أعلم أن دم العيساوي يجري في شراينك"، ليس هذا فقط بل انتشر الخبر بين الفلاحين وزادت شعبيته بينهم، وزاد حبهم له.
أخذ يتابع مع البنك ديون الفلاحين ويبحث عن أصولها فوجد أن معظمهم قد اقترض مبالغ تافهة ولكن نتيجة تعثره في السداد أو جهله أو نسيانه أصبحت الفوائد مركبة حتى غدا مديوناً للبنك بمبالغ طائلة، مما اضطر بعضهم لبيع أرضه أو جاموسته لسداد ما عليه من ديون؛ ففكر في عمل سجل في بيت العمودية يسجل هذه الديون بعد مطابقتها بالدين الفعلي في البنك وموعد سداد أقساطها وقيمة القسط على أن يقوم واحدٍ من أبناء القرية المتعلمين بتذكير الفلاحين بموعد السداد ومتابعة ذلك وإعلام العمدة في حالة تعثر الفلاح عن السداد للمساعدة.
ثم ما ليثَ أن جمع الأثرياء من أهل النجع وطالبهم بدفع مبلغ يكون كرأس مال متواضع لتسليف أهل القرية بدون فوائد أو بفوائد رمزية منتهزاً حلول شهر رمضان وحرص الجميع على البذل والعطاء في هذا الشهر الكريم.
نجحت الفكرة نجاحاً باهراً، وأصبح حسنين معشوق القرية كلها بل ومضرب المثل في القرى المجاورة أيضا؛ً مما جعل وفوداً من النجوع الأخرى تأتيه لعرض مشاكلهم المادية و طلب مشورته في حلها. كانت سعادة العمة غالية بالغة بحسنين وزاد حب عماته وأبنائهم له و شعروا أنه فعلاً عوضاً عن والده.
وجاء رمضان وكأنه أول رمضان يأتي عليه في حياته كلها، ما هذا الجمال! ما هذا السحر! تزينت جميع حارات القرية وشوارعها بالزينات الملونة وبدأت مساجد القرية تتأهب لاستقبال المصلين في صلاة التراويح وكثرت الذبائح والولائم بدا البيت كخلية النحل الفلاحات ينهين عملهن في الحقل ثم يأتين لدار العمودية لتجهيز الطعام وقبل الآذان تفرش الموائد في صحن البيت وتوضع الأطعمة و يلتم الفقراء من أهل القرية، وبعدها يدور عليهم الخفر بصواني الشاي والفاكهة، كل شيء بدا جميلاً وزاد جمالاً بوصول عمته عزيزة وبناتها لتجهيز شقة حسين وصفاء؛ بما أن زفافهما سيكون ثالث أيام العيد.
كان اجتماع العائلة كلها معاً أشبه بعرس يومي، كانوا جميعاً سعداء بوجوده بينهم، الكل قال له ذلك: "رمضان هذا العام أجمل بوجودك بيننا"، أما بالنسبة له فلم يرَ أو يشعر في حياته بهذا الدفء من قبل؛ أذاب كل جليد الأيام الماضية سامح الدهر على أخطائه معه، وغفر لأيامه ما بدر منها سابقاً. الآن يمكنه أن يعيد على مسامع جارته الجميلة ما قالته له سابقاً فأوجعه " أجمل ما في الحياة أن تكون لك أسرة، إنها أكبر نعم الله" ومر وجهها بخاطره فافتقدها بشدة، لو أنها هنا الآن لكانت سعادته قد اكتملت!
وفي الظهيرة نادته عمته غالية وطلبت منه أن يوصل بنات العائلة لشقة حسين لفرشها، في بادئ الأمر تردد ثم طلب منها أن تسمح له بأخذ محمد معه، فوافقت وذهبوا جميعاً في ثلاث عربات كانت الفتيات طوال الطريق ينشدن الأغاني الجميلة وتتعالى أصواتهن بالضحكات و ترتفع الزغاريد منهن ومن كل من يقابلنهم من نساء القرية، وعندما وصلوا لشقة العروس كان على كل واحدٍ منهم أن يقوم بدور ما، حتى جاء وقت تعليق الستائر واكتشفت سهام أنهم لم يحضروا الحلقات التي تعلق فيها الستائر فعرض عليهم أن يذهب لشرائها لكن محمد قال بابتسامة ماكرة: "وكيف ستعرف شكلها ربما تحضر نوعاً مختلفاً؛ فتضطر للعودة ثانية ونمضي اليوم في الذهاب والإياب".
- حسناً، وماذا نفعل إذن أيها الفيلسوف؟
- خذ سهام معك، فهي تعرف ماذا تريد حتى تختار بذوقها فلا تزعجك بعد ذلك. وجم للحظة لم يعرف ماذا يقول يخاف إن هو رفض أن يجرح شعورها وإن هو قبل يكون مخالفاً للعادات والتقاليد، لكن محمد استدرك قائلاً:
- هيا، هيا لا وقت لدينا يجب أن ننهي عملنا ونعود قبل آذان المغرب وإلا تعرضنا للعقاب من الخالة غاليه.
سبقها على الدرج وتبعته هي في حياء.
- هل تعرف الطريق؟
- لا في الحقيقة رغم أن البلد صغيرة إلا أن الطرق متشابهة لذلك يصعب علي أحياناً التفرقة بينها.
ضحكت قائلة:
- البلد كلها خمس شوارع فقط! يعني إن لم تصل بيتك ستجد نفسك بالقطع في بيت إحدى عماتك.
ضحكا سوياً، وذاب الجمود بينهما شعر بالألفة نحوها ربما صلة الدم، إنها تشبهه أيضاً بقامتها الطويلة وبشرتها السمراء وعيناها العسليتان الواسعاتان، لولا تلك الغمازتين في خدها، لكنهما يزيدانها جمالاً مع جدائلها السوداء الطويلة الملقاة على ظهرها في وداعة تامة بينما تركت لشعرها المتطاير المنسدل مداعبة وجهها في رقة ودلال.
- ألا تملين حياة القرية؟
- لا فالأمر ليس كما تظن لدي كثيراً من المهام التي أقوم بها.
- عفواً لم أقصد الطهو و غسيل الصحون وتنظيف المنزل مع احترامي لكل مشاغلكن كفتيات، ولكن ليس هناك نوادٍ في القرية أو مراكز ترفيهية لمن هن في مثل سنك.
- أنا أيضاً لم أقصد الطهو وغسيل الصحون ولكن هل الاستمتاع في نظرك هو ارتياد النوادي و المراكز الترفيهية؟
- ربما لن تفهميني لأنك لم تخرجي من القرية فليس لديك فكرة عن العالم الخارجي. فلو أن فتاة في مثل سنك رأت كيف تعيش الفتيات في القاهرة وكيف يستمتعن بحياتهن لما رضيت أن تعيش هنا.
ضحكت قائلة:
- على فكرة أنا معي ليسانس آداب انجليزي من جامعة سوهاج وأٌقوم بتعليم أبناء القرية في المدارس الليلة.
صدمته المفاجأة، لم يكن يتوقع ذلك.
- آداب انجليزي!!! ولكنها التقاليد بالتأكيد التي جعلتك تدفنين نفسك هنا.
- من قال ذلك، إنني سعيدة بحياتي للغاية، فالسعادة شيء نسبي هنَّ يجدن سعادتهن في ارتياد النوادي، وأنا أجد سعادتي في مساعدة الآخرين.
- ولكنك بالتأكيد ستصطدمين بهذه التقاليد يوماً ما.
- لا يمكن أن يحدث هذا أبداً لأن الأمر متوقف على فهمك لمعنى التقاليد، وكيفية رؤيتك لها، أنت تراها قيوداً وسلاسل تقيد حريتك، وأرها أنا ضوابط تحمينا وتصون حرماتنا وتاريخنا وموروثاتنا.
- إنها ليست سنة أو فرض، إنها مجرد قواعد بشرية يمكننا كسرها أو تعديلها أو حتى الاستغناء عنها بما يحقق مصلحتنا.
- لا إنها فرض، فرضته علينا طبيعة حياتنا ولو أننا سمحنا لأياً من كان بالعبث بها لضاعت ملامح شخصيتنا و مكتسباتنا وموروثاتنا التي حافظنا عليها سنين طويلة.
- تتحدثين عنها بكثير من التقديس وكأنها قوانين حامورابي، وليست أفكاراً لبعض البشر مثلنا بل هم أقل منا علماً وخبرة.
- بل أنت الذي تتحدث عنها بكثير من الاستهانة لجهلك -آسفة- بتاريخك وتاريخنا، هل تعرف أن جدك العيساوي الكبير كان من كبار علماء الأزهر وحين دخل نابليون الجامع الأزهر بخيوله وقف جدك وزملائه يذودون عن المسجد بأجسادهم، حتى حموه.
وجم للحظة بالفعل لم يكن يعلم ذلك، شعر بالخجل من جهله بذلك ولكنها استدركت قائلة:
- هؤلاء وأمثالهم هم من وضعوا تلك القوانين التي تستاء أنت منها، قل لي بربك ماذا فعل أصحاب العلم والخبرة من أمثالك؟
رغم خجله من نفسه لم يشأ أن يسلم بهزيمته فجادلها قائلآً:
- ولكن هذه التقاليد أحياناً تصطدم بمشاعرنا والمشاعر لا سيطرة لأحد عليها، ماذا يحدُث إن أحببتي شخصاً ما، ووقفت التقاليد حائلاً بينكما أتضحين بحبك من أجل التقاليد، أنا واثق أنك وقتها ستضربين بهذه التقاليد عرض الحائط.
علا الحياء وجهها و ظهرت حمرة الخجل في خديها ولكنها خوفاً من أن يعد صمتها قبولاً على اعتبار أن "السكوت علامة الرضا" أجابت:
- إن الحب هو نتاج شرعي للزواج لذلك، فبالتأكيد سأحب من أتزوجه وليس العكس.
- ولكن مشاعرنا لا نحكمها نحن بل هي التي تحكمنا.
- الضعفاء فقط هم الذين يفعلون ذلك؛ فيتألمون ويؤلمون من حولهم بخياراتهم الخاطئة، ثم يطلبون من الجميع أن يتحملوا معهم تبعة ذلك. إن مشاعرنا باب مغلق مفتاحه في يدنا، ليس لك أن تسلم مفتاح قلبك لأياً كان ثم تبحث بعد ذلك إن كنت سلمته للشخص المناسب أم لا، احتفظ به في يدك وحين تجد من يستحقه، حينها فقط سلمه له وأنت مطمئن.
كان لقائه بسهام طفرة جديدة في حياته لم يكن يظن أن في القرية فتيات متعلمات ومثقفات أيضاً بهذا القدر وهذا الفكر الناضج كان يظنهن جميعاً أسيرات العادات والتقاليد العمياء التي تقيدهن كارهين. ولكن بعد حديثه مع سهام أخذ يفكر فيما قالته ملياً. وأدرك أنه مازال أمامه الكثير ليعرفه عن هؤلاء الناس.

كانت الأيام التالية كلها تنقضي في التجهيز للزفاف وفرحة الأهل، كل شيء كان يتم على أكمل وجه، وعمته غاليه كانت في قمة سعادتها. حتى جاء يوم العرس ورأى كيف أن لهم طقوسهم الخاصة بهم في كل شيء حتى أعراسهم تبدو متميزة، إنهم يفعلون كل شيء بشكل جماعي، الجميع يتقاسم الحزن والفرح، كثرت الذبائح المهداة من جميع الأعيان و توالت الوفود من القرى المجاورة، وبدت العروس في كامل زينتها وحليها كانت جميلة جداً وحسين كان في غاية الفرح، حينما سأله هل أنت سعيد؟ هز رأسه بثقة رغم وقاره، وعندما قال له هل تحبها؟ حدق فيه بعينيه وكأنه أبله، ما هذا السؤال الغريب!!
اختفى حسين في سعادته وكان عليه هو أن يتابع كل شيء بنفسه، أصبح لديه الآن خبرة كافية والجميع يعرض المساعدة عن حب ورضا، حتى جاء يومٌ وعاد للبيت مساءً كعادته فوجد جمعاً من الرجال يتحدثون بصوت هامس أمام دار العمودية وعندما سأل الخفر ما الأمر قالوا:
- سليم الدهشوري بعافيه و بيقولوا حالته حرجه جداً.
- إذن سنزوره اليوم؟
- صعق الخفير بكلامه وظهر عليه الفزع، مستحيل.
- لماذا، عمتي تصر على عمل الواجب مع الجميع.
- ليس مع هذا، عمتك تكرههم بشدة ولا تطيق ذكر اسمهم حتى.
- مازلت لا أفهم شيئاً، هل لك أن تعد لنا كوبين من الشاي ونجلس معاً لتحكي لي القصة من البداية.
- حسناً.
بالفعل قام مصيلحي وهو أقرب الخفراء إلى قلبه بصب الشاي فهو عادة لا يكتمه سراً، لأنه من عمر والده تقريباً وكان يحب والده كثيراً وانتقل هذا الحب لحسنين بالوراثة أو بالتبعية لا يهم، المهم أنه يعرف تاريخ الأسرة كلها.
- شوف يا سيدي، الدهشوري الجد هو أخو العيسوي الكبير يعني أولاد عمومتكم، و ابن ابنه حمدان كان زوج غاليه ولما مات الله يرحمه عادت غاليه للدار وبدأت الخلافات عند مرض جدك، لأن سليم والد حمدان طمع بالعمودية خصوصاً بعد هروب والدتك بك، الست غاليه هي إللي كانت واقفالهم زي اللقمه في الزور ومن ساعتها والعلاقات سيئة جداً بين العائلتين.
- خلاص فهمت، تصبح على خير يا مصيحلي.
- وأنت من أهله.
في الصباح كانت عمته قد سمعت بمرض الدهشوري وكانت تتحدث مع علي لكنها صمتت حين سمعت صوته.
- أنا أيضاً سمعت بالخبر يا عمتي.
- أي خبر؟
- مرض الدهشوري.
- لا علاقة لنا بهذا الأمر.
- بس أنت يا عمتي أكثر الناس حرصاً على الواجب والأصول، وأظن أنه من الواجب عيادة المريض خاصة إذا كان ذي قربى.
- وماذا تعرف عنهم هل تحدثت مع أحد.
- لا، كل ما أعرفه أنهم من أقربائنا وأن بيننا وبينهم خلافات.
- حسناً بيننا خلافات، ها أنت قلتها.
- أدفع بالتي هي أحسن يا عمتي ثم أنك لا يفوتك واجب.
ظل الجدال بينهما ساعتين من الزمن حتى رضخت لرأيه كارهة بشروط:
- أن تذهب مع أعيان البلد والخفر في خمس سيارات مدججين بالسلاح.
- أهي حرب يا عمتي؟!
- نعم، وإلا.........
- أوافق، أوافق.
وفي الصباح الباكر، كان الموكب يتحرك بهم.
اعتاد الطريق الزراعي، بل أحبه أصبح بينهما ذكريات، وأواصر قوية، فمنه فرت أمه تحمله، ومنه عاد هو يحمل مخاوفه وها هو اليوم يعبره كصديق.
وصلوا بسلام كان الجميع ينتظرهم فقد وصلهم الخبر سريعاً كعادة القرى لا أسرار فيها. كان الرجال يحيطون البيت الكبير مدججين بالسلاح صدقت عمته، يا لبعد نظرها! ماذا لو جاء بمفرده وهم هكذا في عدتهم وعتادهم كأنهم في حرب؟ استقبلوهم بفتور حذر لكن باحترام، دخلوا البيت الكبير كان الشبه بين البيتين كبيراً جداً لولا طلاء الجدران الأخضر الفاتح والذي قد بدا أقدم، كما أن المقاعد أيضاً مختلفة اللون والطراز، استأذنوهم في الانتظار قليلاً حتى خروج الطبيب من عنده فجلسوا يحتسون الشاي و يتجاذبون الحديث معهم حتى فتح الباب وخرج الطبيب كان يعطي تعليماته للممرضة.... يا إلهي ،إنها هي ..............
وقف في مكانه لا يحرك ساكناً، فقد كل الحواس إلا النظر الذي أصبح معلقاً بها، لم يفطن لصوت سلمان ابن الدهشوري الكبير وهو يقول له: تفضلوا بالدخول، حتى جذبه حسين من يده، أما هي فلم تلتفت إليه كانت تتابع تعليمات الطبيب وتكتبها في مفكرة صغيرة في يدها، دخلوا الغرفة، مر أمامها ..لم تعرفه بذيه الجديد ودَّ لو جذبها من يدها وأخذها خارج المنزل وجريا معاً، إلى أين؟ إلى القطار، نعم إلى القطار ثانية ولكن هذه المرة هو الذي سيتحدث لن يصمت أبداً لن يبتسم كالأبله هرباً من الإجابة على أسئلتها سيحكي لها عن أسرته وتاريخ أجداده، "هل تعرفين أن جدي الكبير كان من علماء الأزهر، وحارب الفرنسيين"، ولن ينسى أن يردف قائلاً: " أجمل ما في الحياة أن تكون لك أسرة، إنها أكبر نعم الله".
دخلوا الغرفة جميعاً، إلا قلبه ظل بالخارج معها، حتى انصرف الطبيب،ودخلت هي الغرفة خلفهم لتضع المحلول في يده لم ترفع نظرها إليهم، كانت تؤدي عملها بكل جدية و حماس، حتى أنهت عملها وتركت الغرفة، وتركته ثانية، لا ..لن يسمح لها هذه المرة بالفرار، لن تفلت منه أبداً.
وهم في طريق العودة جذب مصيلحي قائلاً:
- هل رأيت الممرضة التي كانت مع الدهشوري؟
هز الرجل رأسه بالإيجاب.
- بكره عاوز أعرف قرارها.
- من عنيا.
بالفعل في الصباح لم يكن مصيلحي أمام الدار ولما سألت عنه عمته أخبرها أنه أرسله في مشوار تضايقت قليلاً فمصيلحي ليس له علاقة بالمشاوير، لكنها لم تعلق فلم تكن تحب أن تضايقه أبداً، أما هو فظلَّ شارد الذهن في عالم آخر لاحظ الجميع ذلك، كانت عيناه معلقتان على الطريق انتظاراً لعودة مصيلحي. و عندما ظهر من بعيد لم ينتظر وصوله بجسده السمين المترهل وقامته القصيرة بل جري هو له.
- ها، هل عرفت اسمها؟ أين تسكن؟ كيف يمكن أن أراها؟ هيا تكلم بسرعة.....
كان الرجل العجوز يلهث قائلاً:
- دعني ألتقط أنفاسي أولاً، عرفت كل شيء. اطمئن.
- أرجوك، تحدث بسرعة، فرغ صبري.
- اسمها آمال، من القاهرة، تعمل ممرضة عند سلمان الدهشوري، غرفتها في الطابق العلوي مع ابنته سناء، مشهود لها بجديتها وحسن خلقها، عطلتها يوم الجمعة، تقضيها في المدينة تشتري طلباتها ثم تذهب لبيت الدكتور بهاء طبيب الوحدة تمضي اليوم مع زوجته وبناته، فزوجة الدكتور بهاء قاهرية وقد تعرفت عليها وتصادقتا، وفي المساء تعود للقرية ثانية.
يوم الجمعة إذن! عليه أن يصبر ليوم الجمعة، كيف ذلك! ما أبعده! ولكن ماذا يفعل! عليه أن ينتظر. مرت الأيام الثلاث التالية عليه كأصعب ما تكون، ويوم الجمعة فجراً استيقظت ليعد نفسه وكأنه يوم عُرسه قال لعمته أن لديه بعض الأعمال في المدينة رغم دهشتها من غموضه لم تعلق. خرج سريعاً إلى أول الطريق الضيق الترب المؤدي للبلدة وعيناه تتشبثان بالطريق، ماذا لو لم تأتي؟ ماذا لو ذهبت من طريق آخر؟ سيذهب إليها في بيت الدهشوري وليحدث ما يحدث.
ها هي تأتي من بعيد، يا إلهي آمال، ما أجمل الاسم! اقتربت منه دون أن ترفع عيناها له ووقفت بعيداً تنتظر سيارة البيجو لتقلها إلى المدينة، هتف هامساً.
- آمال.
رفعت عيناها إليه مندهشة أن عرف اسمها، في البداية لم تعرفه بزيه الجديد، ولكن سرعان ما تذكرته، امتزجت دهشتها بعذوبة ضحكتها.
- أنت، لا أكاد أصدق! كيف عرفت مكاني، واسمي؟
- عرفت كل شيء عنك.
- لم أتصور أن أراك ثانية، لقد نسيت أن أسألك عن اسمك أو عملك، لا في الحقيقة لم أنسَ ولكن أنتَ لم تساعدني كنت صامتاً وغامضاً طوال الطريق، وبدا وكأني أجذب الكلمات من فمك، فلم أشأ أن أثقل عليك.
- وقتها لم يكن عندي ما أقوله، اليوم أنا كتاب مفتوح، اسألي ما شئت وسأجيبك فوراً.
- ما هذه الملابس؟ أعترف أنك تبدو أكثر جاذبية فيها.
وضحكت بحياء.
كانا كصديقين حميمين يعرفان بعضهما منذ زمن ركبا معاً السيارة وطوال الطريق لم تصمت هي ..ولا هو، كلاهما كان متلهفاً لمعرفة أخبار الآخر، وأمضيا اليوم كله في المدينة، عرف ما معنى السعادة، شخصيته الجديدة بهرتها، و مفاجأتها بكونه العمدة أذهلتها. و انتهى اليوم وهو في قمة النشوة وتواعدا على الجمعة المقبل، وعندما ودعها كان كمن يعصر قلبه حتى يدميه.
لم تكن الجمعة المقبلة فقط بل في كل جمعة كانا يلتقيان ويمضيان اليوم معاً، تبدَّلت حالته أصبح إنساناً آخر، شارد الذهن مشتت الفكر حالم العينين. لاحظ الجميع ذلك.
حتى فاجأته عمته غاليه بقولها:
- أعتقد أن زواج حسين أثر فيك؟
- عفواً، عمتي هل تخاطبيني؟
ضحكت قائلة:
- وهل أمامي غيرك؟
- آسف كنت سرحاناً.
هكذا أنت دائماً في الفترة الأخيرة الجميع لاحظ ذلك، أظن قد حان الوقت لتكمل نصف دينك.
أيقظته الكلمة من شروده.
- أتزوج؟!
- نعم، ولما لا؟ أصغر منك تزوجوا وأنجبوا أريد أن أرَ أولادك قبل موتي واستمتع بهم وهم يكبرون أمامي يوماً بعد يوم.
انحنى يقبل يديها، وكأنها تقرأ أفكاره.
- كنت لتوي أفكر في هذا وأرتب كيف أفاتحك في الأمر.
- الموضوع لا يحتاج لترتيب، خير ربنا كتير، يعني حنستنى لما تكون نفسك!
- لا علشان أكلمك عن العروس.
- العروس لا تحتاج لكلام، سهام من أجمل بنات العائلة، متزنة، هادئة ومتعلمة أيضاً.
- ولكن، لم أكن أقصد سهام.
وجمت عمته للحظة وكأنها لم تستوعب كلماته.
- لم أفهم، ماذا تقصد؟
- عمتي من أريدها اسمها آمال، إنها جميلة بل فاتنة، ومهذبة ومتكلمة، ستحبينها فوراً بل ستعشقينها مثلي حين تريها.
جمدت ملامح عمته، وبدا أنها تواجه صعوبة في نطق الكلمات.
- أنا لا أعرف أحد بهذا الاسم، ابنة من؟
- ليست من هنا، أنها من القاهرة قابلتها في القطار وأنا قادم لكم ومن وقتها لم أرها ثانية، و لكن أنظري للنصيب عندما ذهبت لزيارة الدهشوري رأيتها ثانية إنها ممرضته الخاصة.
- الدهشوري! القاهرة! ممرضة خاصة!
وكأنها كلمات متقاطعة، لكنها رموز لا يفهمها أحد غيرها، ها هو التاريخ يعيد نفسه من جديد، استرسل حسنين في نشوته يحكي لعمته كيف رآها وكيف أنه يقابلها كل جمعة و قد درس أخلاقها جيداً، وكيف أنه كان يفكر منذ فترة كيف يفاتحها في الأمر.
- الجميع يخاف منك، إلا أنا أعرف أنك تحبينني ولا ترفضين لي طلباً. لم يتنبه حسنين في نشوة حديثه عن حبيبته لعمته وهي تتراجع بظهرها للوراء شيئاً فشيئاً وقد تجمد وجهها ودمها أيضاً وبدأت تتحسس المقعد قبل أن تنهار عليه، تماماً كما حدث أول مرة رأته فيها ولكن شتان ما بين اللقاءين.
لم تنطق غاليه بكلمة واحدة، أما هو فكأنما حمل ثقيل قد انزاح عن كاهله بمصارحتها.. في الحقيقة كان يلوم نفسه لكونه يخفي عنها شيئاً فهو يحبها بصدق.
دخل حسين مندفعاً.
- ما هذا لقد تأخرنا السيارة بالخارج، أنسيت اليوم موعدنا مع مدير البنك؟
- حسناً، حسناً أنا جاهز.
قبل يد عمته التي تجمدت في مقعدها ومضى.
طوال اليوم كان ينهي عمله في المدينة بسعادة و نشاط و لكن عندما عاد مساءً وجد عمته ما تزال في مقعدها منذ تركها صباحاً، أدهشه الأمر، كان يظن أنه عند عودته سيجلسان معاً ليناقشان ترتيبات الزواج وكيف ستسافر معه عمته لتخطبها له من أسرتها في القاهرة، وهل هناك أحد غيرها يمكن أن يفعل ذلك! إنها في مقام والدته الآن. ولكن، ما الأمر، لماذا هي صامتة هكذا؟
أجابته عمته فاطمة:
- لا أعرف إنها لا تصد ولا ترد ..هكذا هي منذ الصباح.
- لعلها مريضة، هل أطلب الطبيب؟
- طبيب! هل غاليه تقبل ذلك! أنت واهم.
- حسناً سأذهب لأتحدث معها دعينا بمفردنا من فضلك.
خرجت فاطمة و اقترب حسنين من عمته جلس عند قدميها وربت على يديها فانتفضت واقفة وكأن حية لدغتها.
- عمتي ماذا بك؟ أنتِ بخير؟
- دعك عني.
- أنا لا أفهم! ماذا بك، أأنت مريضة، هل أحضر طبيباً؟
أشاحت بوجهها عنه ولم تجبه. تهدج صوته وترقرقت الدموع في عينيه.
- عمتي، لا أطيق أن أراك هكذا أرجوك، لا أحتمل غضبك، منذ عدتُ هنا و أنتِ كل شيء بالنسبة لي.
- ليتك ما عدت!
- ماذا!
- لماذا عدت؟ لماذا لم تكمل حياتك في القاهرة و تعيش كما تشاء وتتزوج بمن تشاء، وتتركنا نحن نكمل حياتنا بألمها و همها وحملها الثقيل!
- كنت أظنك فَرحَة بعودتي!
- كنت، كنت أظن أنني أخيراً وجدت من يحمل عني حملي الثقيل، كنت أظن أن صبري الطويل قد كافأني الله عليه بابن لم تلده بطني ولكن أنجبه ضميري و انتظاري الطويل، أبداً لم أفقد الثقة في رجوعك، كنت أقول لنفسي ولاد العيساوي زي الطيور المهاجرة تطير تطير ومصيرها لعشها. انتظرت كثيراً.. انتظرت طويلاً، كنت أخاف أن أموت قبل أن تأتي ، من سيحمل هم هذه العائلة بعدي؟ من سيلم الشتات غيري؟ وعندما عدت التقطتُ أنفاسي، كنت أظن أنه قد آن الأوان لارتاح، ولكن ..........
- ولكن ماذا، ماذا حدث؟ ها أنا أمامك وبين يدك وتحت قدميك لن أتركك أبداً مهما حدث.
- هكذا قال والدك لجدك منذ سنوات وعندما تزوج والدتك تركنا ورحل.
- لا، جدي لم يتقبل وجود أمي معكم.
- بل هي التي رفضت حياة القرية وأرادت أن تعيش في البندر بحجة أن النساء يعايرنها بأصلها كخادمة، ورضخ والدك لطلبها وأخذ لها شقة في سوهاج وأصبح يزورنا من حين لآخر حتى نسانا ..لكننا لم ننساه.
- ولكنه عاد.
- أعادته أمك حين ثقل عليه المرض، وأوشك على الهلاك.
- لما رفضتم بقائها معكم؟
- كانت صغيرة وجميلة وعرف جدك أنها لن تبقى بلا زواج فطلب منها أن تتركك معنا وتتزوج وتعيش حياتها كما تشاء ووعدها أن يتكفل بكل مصاريفها، لكنها كما أخذت والدك منا أخذتك أنت أيضاً فقتلتنا مرتين بلا رأفة أو رحمة.
- لكني عدت.
- عدت لكي ترحل من جديد، وتقضي علينا.
- من قال هذا لن أرحل، سأعيش أنا وأمال معكم هنا.
- وهل قبلت أمك أن تعيش هنا منذ خمس وعشرين عاماً حتى تقبل هذا حبيبتك القاهرية؟
- أنا غير والدي.
- بل أنت مثل والدك، كلاكما قاتل.
- بل أنا عاشق، أليس من حقي أن أحب، وأتزوج وأعيش حياتي كما أشاء؟
تلتفت إليه وكأنها ثورة بركانية وتصيح منفجرة:
- وأنا، أو لم يكن من حقي أنا أيضاً أن أحب وأتزوج وأعيش حياتي كامرأة، لماذا علي دوماً أن أدفع ضريبة استمتاعكما بحياتكما؟ لماذا علي دوماً أن أقف في محطة القطار استقبل من يأتي وأودع من يرحل، الجميع يمضون في طريقهم وأنا واقفة في مكاني ألم الشتات.
- عمتي.
- دعني وشأني.
تتركه وتخرج مندفعة إلى غرفة جده في الطابق العلوي، فتلقي بنفسها في صدره وتجهش في البكاء صائحة:
- تعبت يا أبي، تعبت، تعبت. لماذا ننجب الرجال وتتحمل النساء أعبائهم؟ لماذا أصبح أولادك عبء ثقيل فوق أكتاف بناتك؟
كان جده في ذهول يضمها ويجفف دموعها، وكأنها طفلة صغيرة.
بينما يقف هو متسمراً خارج الغرفة، يراقبها في حزن وذهول أغلق الباب في هدوء وانسحب؛ لم يحب أن يراها أحد منهارة هكذا فعمته هي القوة ذاتها التي يستمد الجميع منها إحساسهم بالأمان حقاً لقد استندت عليها الأسرة كلها، ولم تجد هي من تستند عليه.
يخرج إلى الغيطان يسير بمفرده يجب أن يتحدث مع آمال، ولكن اليوم الأربعاء، هل ينتظر حتى يوم الجمعة؟ لا ..لا يستطيع يجب أن يحسم أمره معها لن يترك أمال و لن يترك أسرته.. لماذا علينا أن نختار؟ ألا يمكن أن نأخذ كل ما نريد! يظل هكذا هائماً على وجههِ في الحقول حتى المساء لا يجرؤ أن يعود ويواجه عمته ثانية، يقرر أن يتصل بأمال ويطلب منها رؤيتها في أسرع وقت.
بالفعل، يتصل بها، لكنها تعتذر، ماذا ستقول لهم كيف تترك البيت في هذا الوقت بلا سبب! إنها لا تحب أن يتحدث الناس عنها. لا بد من الانتظار، لكنه هو أيضاً في مأزق كيف يواجه عمته؟ كيف له أن يتحمل نظراتها الجريحة؟!
عاد في وقت متأخر ليتأكد أن الجميع قد نام و في الصباح تعمد أن يخرج باكراً حتى لا يراه أحد، وهكذا استمر الحال اليومين التاليين يخرج فجراً ويعود ليلاً. حتى جاء يوم الجمعة وصحا فجراً ليغادر قبل الجميع، لكن كانت الصدمة في انتظاره جده يجلس على كرسي العمودية بلا عكاز وبلهجة صارمة يقول له:
- اجلس.
شعر بخوف عميق، كان جده قد انقطع للعبادة في غرفته ، لكن بعد عودته بدا جده أكثر حيوية لكنه ظل بعيداً عن العمودية منقطعاً لعبادته.
- أمرك يا جدي.
يجلس مطأطأ الرأس مدركاً ما هو مغزى لقائه به، وإن كان في الوقع لم يتوقع تدخله في الأمر.
أطاح جده برأسه للخلف وكأنه يسترجع ماضٍ سحيق بصعوبة شديدة من ذاكرته المجهدة.
- اعتدنا في الصعيد أن نفرح حين يرزقنا الله بصبي، فالأولاد هم عماد أسرتنا، وورثة مجدنا، وحملة تاريخنا. و عندما رزقني الله بمحمد أقمت الولائم ونحرت الذبائح في الدار سبع ليالٍ متصلة عمت الفرحة في النجع كله، بعدها رزقني الله بأربع بنات، حزنت قليلاً لأني كغيري كنت أريد لابني أخوة يكونون له سندٌ وعزوة، لكني تقبلت أمر الله وحمدته على عطائه. اكتفيت بمحمد وعلقت أمالي كلها عليه.. أصريت أن يناديه الناس العمدة منذ أول يوم لولادته.
لكن محمد لم يصبح عمدة أبداً، كبر الصغير وشب عن الطوق وخرج عن الطوع. تزوج من خادمة في منزلنا دون علمي كسر قلبي وهيبتي وحطم أمالي و أحلامي على صخرة أنانيته، ألقي بحبي كله واعتزازي به وآمالي المعلقة عليه عند أقدامها وتركنا وعاش معها في المدينة. كانت الصدمة قاتلة بالنسبة لنا زواج ابني الوحيد الذي خططت له سنوات طوال يتم سراً في المدينة ودون حضوري أو علمي.
ولم تلبث والدتك أن أتت به إلينا تحمله جثة هامدة؛ ليموت بين يدي ويميت قلبي معه وبعد انقضاء العزاء أخذتك أمك وفرت ليلاً. لتزيد حزني حزناً وجرحي نزفاً لم تتحمل جدتك الصدمات المتتالية والمتلاحقة فماتت قهراً، ومن يومها وأنا أمسك بالعكاز في يدي أدركت أنني بحاجة لما أستند عليه، خارت قوتي، وقلت حيلتي. لكن العمودية كانت تحتاج لأكثر من عكاز خشبي تحتاج لقوة وصلابة ورجاحة عقل ورزانة فكر، وكل هؤلاء أخذهم محمد معه حين مات، فلم يكن من بد من البحث عن عمدة جديد، وكانت غاليه هي العمدة الفعلي بصبر وحنكة و اقتدار قامت بمهام العمودية و أقنعتنا جميعاً بأنها العمدة حتى نسينا أنها امرأة.
و منذ يومين حين ارتمت على صدري وبكت تذكرت فجأة.. أنها امرأة، لكنها امرأة سيئة الحظ جاءت في أسرة بلا رجال فأصبحت دون رغبتها رجل الأسرة، وعائلها الوحيد.
في الحقيقة لم أكن انتظر منك الكثير، فلم أفعل معك كما فعلت مع محمد ولم أحبك كما أحببته، ولم أقدم لك ما قدمته له، ومع ذلك خذلني وباعني لامرأة لم أتوقع بأي حال من الأحوال أن تكون أفضل من أبيك، لكنها غاليه هي التي توقعت أن تكون أفضل منه وتداوي جروحنا المتقرحة من خنجر أبيك. أمضي في طريقك، أفعل ما شئت وعِش كما تشاء، أنا لست حزيناً منك أنا حزيناً لأجل غاليه، مسكينة غاليه دائماً تدفع الثمن.
وقف الجد بجهد كبير وتحرك جهة السلم لم ينظر له ولم ينتظر رده كان فقط يتمتم.. مسكينة غاليه.. مسكينة غاليه، حتى انصرف، وتجمد هو في مكانه كلوح من الجليد. كررت هنيه جملتها ثلاث مرات لعله يسمعها، "أحضرُ لك الفطار يا عمده؟"...
قام مندفعاً إلى الباب في طريقه لرؤية أمال، يجب أن يحسم الأمر، يجب أن يحسم الأمر. أمال تحبه وستعيش معه في أي مكان، سيأتي بها اليوم أمام عمته وجده لتعلن أمامها أنها ليست مثل أمه وأنه ليس مثل أبيه لن يتركهم، لن يتركهم.
لم ينطق بكلمة حتى وصلا سوهاج وجلسا معاً.
- ملامح وجهك تقلقني، ماذا حدث ؟ طوال الطريق وأنت صامت، ماذا بك؟
حكي لها ما حدث بينه وبين أسرته وهو في غاية التأثر كانت الكلمات تخرج من فمه بصعوبة شديدة.
- يا لهم من قساة كيف فعلوا بك ذلك!
- أنا أقدر مشاعرهم.
- وهم لما لم يقدروا مشاعرك؟ لما جرحوك بهذا الشكل ونبشوا ماضيك كله، بل وماضي والديك أيضاً، ثم حملوك تبعة كل شيء.
- إنهم يخافون أن يخسروني كما خسروا أبي.
- أباك كان شجاعاً، مخلصاً في حبه، ضحى بكل شيء من أجل حبيبته.
- يمكننا أن نضحي بما نملك أما مستقبل أسرتنا فهو ليس ملك لنا وحدنا لنضحي به، إنه ملك للجميع.
- صدقت إنه ملك للجميع فلماذا يكون على واحد فقط أن يضحي؟
- عمتي أيضاً ضحت.
- لم يطلب منه أحد ذلك، هي التي أرادت أن تفعل، وما النتيجة هل تراها سعيدة؟ لقد ضحت بحياتها للاشيء.
- قد لا تكون سعيدة ولكنها نجحت في إسعاد الأسرة كلها.
- هل هذا هو المطلوب منك، أن تصبح امتداداً لغاليه؟
- لا، إنهم فقط يريدون أن يتأكدوا أني لن أتركهم بعد زواجي منك.
- ولكننا لسنا مضطرين لأن نقبل تدخل الآخرين في تخطيط حياتنا ومستقبلنا.
- هؤلاء الآخرون هم أهلي لا أستطيع أن أحيا بدونهم.
- ولكنك كنت حياً بالفعل لمدة خمس وعشرين عاماً قبل أن تراهم، ويمكنك أن تكمل بدونهم.
- لا، لم أكن حياً، ولم أشعر بمعنى الحياة قبل لقائي بهم.
- لقد قلت أنك أحببتني منذ رأيتني في القطار، ولو كنت صارحتني بمشاعرك وقتها؛ لكنا قد عدنا للقاهرة معاً وتزوجنا، دون أن تقابلهم أصلاً .
- وهل كنت ستقبلين وقتها أن تتزوجي بواباً، وتعيشين في قبو تحت السلم؟
- نعم، كنا سنبدأ بهذا ثم نبحث عن عمل حتى نبني أنفسنا، ثم لماذا تكون بواباً و لديك كل هذه الأطيان؟
- أية أطيان؟
- ورثك من أبيك، هل سيأكلون حقك في الميراث؟
- وهل أجرؤ أن أطالبهم به؟
- ولماذا لا، أليس هذا حقك.
- وكيف لي أن أهرب من واجباتي ثم أطالب بحقوقي!
- أنت لا تهرب أنت تمارس حقك الطبيعي في الاختيار.
- وقد اخترتك فلماذا لا تختاري أنتِ أن تعيشي معي هنا؟
- أين؟ هنا في هذا التخلف والرجعية، في ظل قيود من التقاليد البلهاء التي تسلسلون بها أنفسكم، هل ترضى لأبنائك أن يعيشوا في هذا السجن، كيف سنستمتع بحياتنا هنا، لا نوادي ولا ملاهي ولا سينمات ولا مسارح أيُ حياة هذه! صدقني يا حسنين ستضحي من أجلهم وفي النهاية تشعر بالندم تماماً مثل غاليه، تأسف لعمرك الذي مضى ولم تحياه كما تتمنى، سيحملونك ذنب والدك مهما فعلت ستظل مقصراً في نظرهم، دعنا نهرب من هنا ونعيش حياتنا معاً نعيشها كما نريدها نحن وليس كما يريدونها هم، كن شجاعاً كوالدك ودافع عن حريتك، دافع عن حبك.
قال هامساً وكأنه يحدث نفسه:
- معك حق يجب أن أكون شجاعاً مثل أبي وأدافع عن حبي. مهما حاولت لن يغفروا لي ما فعله أبي أبداً، سيظل جرم أبي يطاردني ،لعل من الأفضل أن نرحل.
واتفقا على أن يتقابلا في محطة القطار غداً ليستقلا قطار العاشرة صباحاً. لابد من هذا لقد دفعوه لهذا دفعاً لم يشأ أن يتركهم، ولكنهم يريدونه بشروطهم هم، ولن يقبل أن يتنازل عن حبه أبداً، بالتأكيد ستداوي الأيام جراحهم وجراحه.
عندما عاد ليلاً كان البيت ساكنا، حمد الله على ذلك، أخذ يتأمل في جدران البيت وكأنه يودعها ليته يستطيع أن يودع عماته وجده وأبناء عماته، وأهل البلد جميعاً! بلا شك سيفتقد الجميع، لقد أصبح لهم مكاناً في قلبه لن ينساهم أبداً، فليذهب ليعد حقيبته، أية حقيبة! لقد جاء بلا حقائب وسيرحل كما جاء بلا حقائب ولكن بكثير من الذكريات، تمنى لو يستطيع البقاء ولكن لا يمكن أن يضحي بحبه من أجلهم لن يسعد بلا أمال محال.............
صحا فجراً، بل لم ينم حتى سمع الآذان، سمع خطوات عمته كعادتها وهي تتوضأ وتوقظ جدي للصلاة، ليته يستطيع أن يقبلها قبل سفره! ليته يعانقها! آه لو تعرف كم يحبها! لما قست عليه هكذا، لن ينساها أبداً مهما بعُدت المسافات لعلها تغفر له يوماً وتأتي لتزوره في القاهرة! عندما تتحسن أحواله سيرسل لهم عنوانه ويطلب منها أن تزوره.
سار على قدميه في الطريق الترب، منذ خمس وعشرين عاماً هربت والدته تحمله من هذا الطريق وها هو الآن يهرب ثانية حاملاً ذكرياته وأوجاعه، لا لقد ترك الأوجاع لهم، هم من سيتألمون بعد رحيله، ماذا يفعل؟ هذا هو قدره الحب، مشاعرنا هي التي تحكمنا، ترن في أذنيه كلمات سهام "الضعفاء فقط يقولون ذلك".
حسنين: من حقي أن اختار من أحب.
سهام: نعم، لكن ليس من حقك أن تخطئ الاختيار فتتألم وتؤلم من حولك.
حسنين: أنتم أسرى عادات بالية.
سهام: هذه العادات هي التي حفظت لك اسمك وبيتك وإرثك حتى عدت.
الجد: الأولاد هم عماد أسرتنا، وورثة مجدنا، وحملة تاريخنا.
غاليه: لماذا ننجب الرجال وتتحمل النساء أعبائهم، لماذا أصبح أولادك عبء ثقيل فوق أكتاف بناتك؟
حسنين: أمال ليست مثل أمي وأنا لست مثل أبي.
الجد: لم أتوقع بأي حال من الأحوال أن تكون أفضل من أبيك.. لكنها غاليه هي التي توقعت أن تكون أفضل منه وتداوي جروحنا المتقرحة من خنجر أبيك.
أمال: لن يغفروا لك خطأ أبيك، ستظل دوماً تدفع الثمن.
حسنين: وما الفرق لقد كنتم تعيشون حياتكم قبلي وستكملونها بعدي؟
سهام: أنت الفرق لقد أتيت هنا بواباً ورحلت وأنت عمدة؟ هل ستعود لقبوك ثانية؟
أمال: ولما تعيش في قبو وعندك كل هذه الأطيان؟
سهام: الأرض لمن يزرعها.
أمال: الأرض هي حقه في ميراث أبيه.
سهام: والعمودية والبيت والبلد وجده وعماته كل هؤلاء ميراث أبيه فليأخذ الكل أو يترك الكل.
أمال: من حقك أن تختار.
الجد: حين مات أبوك، وفرت بك أمك، أصبحت أمسك بالعكاز في يدي أدركت أنني بحاجة لما أستند عليه، خارت قوتي، وقلَّت حيلتي. لكن العمودية كانت تحتاج لأكثر من عكاز خشبي.
حسنين: أنا غير والدي.
غاليه: بل أنت مثل والدك، كلاكما قاتل.
حسنين: بل أنا عاشق، أليس من حقي أن أحب، وأتزوج وأعيش حياتي كما أشاء؟
غاليه: وأنا، أو لم يكن من حقي أنا أيضاً أن أحب وأتزوج وأعيش حياتي كامرأة؟ لماذا علي دوماً أن أدفع ضريبة استمتاعكما بحياتكما؟ لماذا علي دوماً أن أقف في محطة القطار استقبل من يأتي وأودع من يرحل، الجميع يمضون في طريقهم وأنا واقفة في مكاني.
الجد: غاليه سيئة الحظ جاءت في أسرة بلا رجال فأصبحت دون رغبتها رجل الأسرة، وعائلها الوحيد.
كفى، كفى، كفى....... صاح بأعلى صوته وهو يسد أذنيه بكفيه، وبدأ يلوح بيديه وكأنه يبعدهم جميعاً عنه.
وفي محطة القطار كانت أمال تنتظره، ظل واجماً لم ينطق بكلمة واحدة، ركبا القطار جلست هي بجوار النافذة، تفهمت مشاعره بالتأكيد الأمر ليس سهلاً عليه، سينسى بمرور الأيام، سمع الصافرة، بدأ القطار يتحرك شعر وكأن قلبه قد قفز من ضلوعه. أمسك يديها بقوة بكلتا يديه وقال والفزع يملأ عينيه:
- لا أستطيع، آسف يا أمال لا أستطيع أن أخذلهم ثانية وقبل أن تنطق بكلمة كان قد جرى إلى باب القطار.. القطار يتحرك، ألقى بنفسه منه، نظرت من النافذة، صاحت بأعلى صوتها.......
- حسنين..........
لوح لها بيديه، الآن يشعر بالارتياح، الآن يلتقط أنفاسه صوت غاليه يهمس في أذنيه:
- كنت أعلم أنك ستعود، ولاد العيساوي زي الطيور المهاجرة تطير تطير ومصيرها لعشها.

#مكملين
#احنا_متراقبين
#ارحل_يا_عرص
#مرسى_رئيسى
#كلنا_مسلمين
#شبكة_صوت_الحرية


القراء 2067

التعليقات

#_magdy.s.alfakhrany

شكرآ أسناذة عفاف علي هذه القصة الرائعة و المكتوبة بأسلوب شيق و بسيط.... القصة هادفة و تلفت النظر لمفهوم العائلة الذي إفتقدناه.... في إنتظار المزيد

عفاف_عبد_العزي

جزاكم الله خيرا ..فخوره جداً برأيكم

#محمد__الهلالي

مقطوعة فنية رائعة يا استاذتنا الفاضلة .. ارجو الا تحرمينا من المزيد ان شاء الله

فؤاد_فرحان_

كنت خايف الا الحق بالقطار والحمد للة لحقتة فى اخر ثانية ومش عارف اين ومتى المحطة القادة ولكننى فرحان بجد وانا راكب القطار وكنت خايف

مقالات ذات صلة

بين السلمية والاستسلام

#ضمير_مستتر / أشياؤهم البسيطه

القطار / قصة قصيرة للاستاذة عفاف عبد العزيز

ضمير مستتر / مولد أبو الحجاج

ضمير مستتر / ماراسون الدراجات

ضمير مستتر / بالأسماء التشكيل النهائي للفريق الرئاسي للسيسى

ضمير مستتر / ""المنـــــــــدس""

ضمير مستتر / الرقص على الدماء

ضمير مستتر / كلمينــي يـارصاصه

ضمير مستتر / الرب يسوع ينتخب السيسي

ضمير مستتر / الحياة بقى لونها رصاصي

ضمير مستتر / الشعب الثالث

#ضمير_مستتر / لماذا تثور الشعوب ؟

#ضمير_مستتر / أنتي جايه تشتغلي أيه ..؟؟؟

أنتي جايه تشتغلي أيه .......؟؟

أنتي جايه تشتغلي أيه .......؟؟

أنتي جايه تشتغلي أيه .......؟؟

لماذا تثور الشعوب ؟؟

أنتي جايه تشتغلي أيه .......؟؟

‫#‏ضمير_مستتر‬ / كفايا مظاهرات عشان البلد تمشي !!! ولو بطلنا مظاهرات البلد هتمشي ؟ ؟

‫#‏ضمير_مستتر‬ / الناس دي معدش ينفع فيها كلام

النائب العام يرسل للداخلية مذكرة بضبط مؤسسي الصفحات الالكترونية الإخوانية

ضميرمستتر / كانت ساعة ثورة وراحت لحالها

تراجع الاتحاد الاوروبي عن مراقبة الانتخابات ( نزاهة الله يرحمها )

#ضمير_مستتر / "هارتس" : مؤيدو السيسي يعترفون بفشله

اللمبات الكهربائية المُوفّرة للطاقة تطلق غازات كيميائية تسبب السرطان والعمى،

#ضمير_مستتر / ( اللمبات المُوفّرة طلعت بتُسبّب سرطان الجلد )

‫#‏ضمير_مستتر‬ / بيانات الاخوان ونوبات الصداع النصفي

أسوشيتد برس":السيسى ظهر عاطفيًا وأكثر من استخدام جملة "التوكل على الله"

أيمن نور يكشف سرقة السيسي للبرنامج الانتخابي للرئيس مرسي

#ضمير_ مستتر / الدائرة والحلم



خريطة الموقع


2024 - شبكة صوت الحرية Email Web Master: admin@egyvoice.net