قيادة الذات..
أهم ما يميز الإنسان عن الآلة قدرته على قيادة ذاته ، إذ تحتاج الآلة دائما إلى توجيه من غيرها.. وحتى بعد التطور التكنولوجي المذهل فإنها تبقى غير قادرة على أن تمتلك ما يملكه الإنسان من ذاتية القيادة والتوجيه.. فكل ما أمكن للعلم أن يضيفه إلى الآلة هو أن يجعل التوجيه من بعد كالتحكم في الطائرة بدون طيار أو بتوجيه صاروخ (يُسمى مجازا ذاتي التوجيه) بينما أن ما يتحكم بتوجيهه هو إنسان يقبع خلف جهاز كمبيوتر على بعد كيلومترات أو آلاف الكيلو مترات.. كما أن العلم أيضا استطاع أن يجعل التوجيه عبارة عن برنامج مسبق يتم إضافته لمكونات الآلة فتتحرك وفقا لهذا البرنامج ، بحيث يتبع الصاروخ مثلا مستوى من الحرارة أو صورة زُرعت فيه أو خارطة طريق محددة مدمجة بأجهزته.. وتبقى الآلة رغم ذلك غير قادرة على ابتكار ردود أفعالها الخاصة أو الانعتاق من قيود البرنامج المدمج فيها.. بينما الإنسان لا يحمل على شفرته الوراثية ما يقيده من إنتاج أو إعادة إنتاج سلوكيات جديدة وأفعال وردود أفعال مستحدثة.. وهو ما يمكن اختصاره في ملكيته "الحرية"..
كانت هذه هي المعركة الكبرى للإسلام.. فهو في جوهره دعوة للتحرر من التقليد والانقياد لغير الخالق (رغم الصورة التي يحاول البعض تصديرها عنه مجافية لذلك).. ومنذ الخطوة الأولى كان الصحابة يلخصون الدعوة بأنها لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.. كما أن القرآن يأخذ على أقوام أنهم "وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما آلفينا عليه آباءنا ، أولوا كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون؟!!"؟؟ فالإنسان يفقد قدرته على قيادة ذاته بطريقين: التقليد أو الانقياد بمؤثر خارجي.. بينما يمتلك حريته بقدرته على تقييم الأمور ووزنها على معيار عقله وقلبه بعد تخليصها من المؤثرات الخارجية.. وفي النهاية يرسم القرآن لهؤلاء المنقادين صورة مأساوية في الآخرة "إذ تبرأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتبَعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب"..
ويبدوا أن الطغاة الآملين في انتزاع البشر من حرياتهم ووضعهم بقيد العبودية لفرد أو لنظام اكتشفوا منذ وقت مبكر من عمر البشرية أن (الإذاعة) والإعلام هو أفضل الطرق للاستيلاء على عقل الإنسان وقيادته وبالتالي حرمانه من حرية أن يقود نفسه.. وباكرا أيضا اكتشف الطغاة أن تشويه الحقيقة وتشويه الحرية ودعاتها والتخويف منها هو أفضل دعاية لقتل روح الحرية لدى الإنسان.. فقادة قريش دعوا أتباعهم"لا تسمعوا لهذا القرآن" ثم لم يكتفوا بذلك وإنما طالبوا نخبتهم بأن "والغوا فيه".. فما بين خلق ساتر بين الناس وبين سماع الحق ودعاة الحرية ، وتشويه دعوة الحق وحملة أمانتها لا تتغير كثيرا سياسة الطغاة عبر الأزمان..
وربما يكون من حسن طالع البعض ، ومن سوء طالع البعض الآخر أن يكونوا شهودا على انقلاب يوليو 2013 حيث رأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم كيف يستخدم الانقلابيون الإعلام لسلب الناس حرياتهم وتحويلهم إلى آلات يقودوها الانقلابيون رغم ضعف ملكات الانقلابيين وقلة حيلتهم وفقر تصوراتهم وانعدام خيالهم.. فسقط البعض أسير دعاية واضحة في كذبها وفاضحة في خداعها.. فاقدا حريته في الاختيار وأصبح يردد ما يسمعه من إعلاميين يتحدثون عن كرة أرضية تحت الأرض وعن علاجات بطرق هزلية لأمراض معقدة ويتهمون أقرب أقربائهم بأنهم إرهابيون ودعاة عنف غاضّين الطرف عن حقيقة أن اكبر قدر من العنف عرفته مصر الحديثة إنما شهدته على يد الانقلابيين أنفسهم..
بل مع فقدان البعض لحريته وقدرته على امتلاك قيادة نفسه ، فإن كثرين من هؤلاء فقد جزءا من جوهر آدميتهم المتمثلة في رفض القتل والتعذيب والاغتصاب وتشريد الأسر والاستيلاء على الأموال رغم أن ذلك يحدث بشكل فج وسافر دون ستار أو مدراة..
لكن تبقى التجارب الإنسانية ثرية بما تمنحه من خبرات ودروس وعبر... فرغم تغير مظاهر البشر ودرجات تمدنهم المادي تبقى الطبائع كما هي منذ البداوة حتى الحضارة.. وتبقى الملمات الكبرى اختبارات كبرى يرسب فيها كثيرون فيفقدون جوهر قيمة الإنسان وهي الحرية ورفض الظلم بعد أن يأسرهم إعلام الطغاة رغم أنه لا يردد سوى ماكانت تردده الماكينات الإعلامية لكل الطغاة من نيرون إلى هتلر.. ومع ذلك فان المشرق أن كثيرين يعبرون الاختبار بنجاح مستمسكين بحريتهم ومنافحين عن آدميتهم رغم ما يلاقونه من عنت.. وكثيرون أيضا رغم تعثرهم في أول صدمة يستعيدون قدرتهم على قيادة ذواتهم واسترداد حريتهم وآدميتهم بعد أن يدركوا ما نُصب لهم من فخاخ لسلبهم أعز ما يملكون.. الحرية والآدمية.. بل وفي النهاية لقمة العيش أيضا..
#مكملين #احنا_متراقبين #ارحل_يا_عرص #مرسى_رئيسى #كلنا_مسلمين #شبكة_صوت_الحرية