تأملات في سفر الحياة
بقلم/ مصطفى قاسم عباس
الإنسان بطبيعته يَكره المِحَن و الخُطوبَ، و يَتبرَّم من الشدائد و الملِمَّات، و يتضجَّر من الظلم، و يَغلي صدرُه غَليان المِرْجَل عندما يرى المآسي تتْرَى، و الأحزانَ تتوالَى، و العَبَرات تُسكَب، و يَنفر عنه الصَّديق تِلْوَ الصديق، و الأخُ بعد الأخ، و يَصِل إلى مرحلة البكاء، واضعًا نُصْب عينيه قولَ الشاعر:
يُخَادِعُنِي الْعَدُوُّ فَمَا أُبَالِي
وَ أَبْكِي حِينَ يَخْدَعُنِي الصَّدِيقُ
و لكن - ليت شعري - إنَّ الإنسانَ عندما ينظر إلى هذه القضيَّة بنظرة تأمُّليَّة، فإنه سوف يرى أنَّ في كلِّ مِحنة منحةً، و في كل غدرٍ وفاءً، و ستتفتَّح له آفاق و آراء، لَم تكن لتَتَفتَّح لولا ما حلَّ به، فيقول: الحمد لله، و يَمضي في طريقه قائلاً:
جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْرٍ
وَ إِنْ كَانَتْ تُغَصِّصُنِي بِرِيقِي
وَ مَا شُكْرِي لَهَا حَمْدًا وَ لَكِنْ
عَرَفْتُ بِهَا عَدُوِّي مِنْ صَدِيقِي
• قد يُكْلَم الإنسانُ بمُدْيَة أو بسواها في ناحية من نواحي جسده، لكنَّ جُرْحَه سُرعان ما يَلْتَئِم، و حُزن قلبه سُرعان ما يزول، و لكنَّ نفسه عندما تُكْلَم، و رُوحه عندما تُجْرَح، و فؤاده عندما يتصدَّع، فبالله قل لي: كيف ستَلْتَئِم الجراحُ، و كيف سينتظم زجاجُ القلب المتناثر؟!
• إذا قمتَ بخدمة الناس لأجل الناس، فإن كثيرًا من الناس يُنكرون فضْلَك، و يتناسَون ما أسْدَيت لهم من معروف - خاصةً مع مرور الزمن - فاجْعَل خِدمتك للناس، لا لتَنتظر الثناءَ منهم، بل لأجْل فِعْل الخير.
• إذا كنت تنتظر ثوابًا من الناس على معروف أدَّيْتَه، فهَيْهَاتَ هَيْهَات - إلاَّ مَن رَحِم ربُّك - فأكْثرُ الناس يَنسَوْن؛ ﴿ وَ مَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾ [مريم: 64].
• قد تشعر بالخيبة و المرارة، و يَحوطك الحزنُ و اليأس من كلِّ جانب، بالإضافة إلى ما يَعتريك من الدهشة و الحيرة و الذهول، و إذا سألتني: متى يكون ذلك؟ فأقول لك: عندما تتيقَّن أنَّ أعزَّ الناس عليك يَطعنك في ظهرك، و في الوقت ذاته يُظهر لك خالصَ الحبِّ و الوداد، فعليك ألا تَستغربَ من ذلك؛ فهذا شيء قد اعتاد عليه الناس في زماننا، بل عليك أن تهيِّئ نفسك لتستعدَّ لصفعة أخرى من مُحبٍّ جديد.
• يتعلَّلُ كثير من الضعفاء بقول الشاعر:
تَجْرِي الرِّيَاحُ بِمَا لاَ تَشْتَهِي السُّفُنُ
و بالمقابل يبالغُ كثير من الأقوياء الواثقين في أنفسهم عندما يقولون:
تَجْرِي الرِّيَاحُ كَمَا تَجْرِي سَفِينَتُنَا
نَحْنُ الرِّيَاحُ وَ نَحْنُ الْبَحْرُ وَ السُّفُنُ
• كثير من الناس تتحرَّكُ عزائمُهم، و تَنهض حالهُم، و تَهبُّ رياحُ قوَّتهم، و تعلو هِمَّتهم حتى تصل الثُّريَّا، و لكن - مع الأسف - كلُّ ذلك بعد فوات الأوان؛ و لذلك تراهم يُدندنون و يُهَمْهِمون دائمًا:
إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا
فَعُقْبَى كُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونُ
• لا تغترَّ بكثرة الناس حولَك، ففي الأعاصير و العواصف لا تَثبت إلاَّ الجبال، فأمَّا الزَّبد، فيذهب جُفاءً، و أمَّا ما ينفع الناس، فيَمكُث في الأرض.
• الذي لا يتعلَّم من أخطائه، و لا من أخطاء الآخرين، فرُبَّما لن تتحسَّرَ عليه إذا ألَمَّت به مُلمَّة جزاءَ ما اكْتَسَبت يداه.
• قد تصل إلى مرحلة تظنُّ فيها أنَّ الباطل أقوى من الحق، و أنَّ الظلمَ أصلحُ من العدل، و أنَّ الخيانة أفضلُ من الأمانة، و أنَّ اليأس خيرٌ من الأمل، و أنَّ الموت أجملُ و ألذُّ من الحياة و نعيمها، لكنَّك - يا صاحبي - تَنظر بمِنظار الساعة التي تعيش فيها، و المكان الذي تتعايش معه، فهذه الثوابتُ لا تُقاس بساعة زمنيَّة، و لا بمكان محدَّدٍ؛ إنما تُحسب على مرِّ العصور و الأزمان، و قد تختلف باختلاف الأمكنة.
فبنظرة سريعة في التاريخ الغابر، و بما خلف لنا من أوابدَ أثريَّة، نرى أنَّ الباطل إذا كانت له جولة، فإن للحقِّ جولات و جولات، و أن الظلم كما قالوا: مَرتعُهُ وخيمٌ، و أنَّ الخيانة لَم و لن تكونَ كالأمانة في سُموِّها و رِفْعتها، و أن اليأس و التعلُّل مَطيَّة الفاشلين، و أنَّ الموت ليس أجملَ من الحياة، و إلاَّ لَمَا كان هناك بعثٌ و لا نشور، و هنا يجول في خاطري قول الشاعر:
وَ لَوْ أَنَّا إِذَا مِتْنَا تُرِكْنَا
لَكَانَ الْمَوْتُ رَاحَةَ كُلِّ حَيِّ
وَ لَكِنَّا إِذَا مِتْنَا بُعِثْنَا
وَ نُسْأَلُ بَعْدَهَا عَنْ كُلِّ شَيِّ
• الأيام أيها القارئ الكريم، هي الأيامُ ذاتُها لَم تتغيَّر، و الزمن يجري شئتَ ذلك أم أبيتَ، و الأمكنة هي الأمكنة، و لكنَّك أنت لستَ أنت؟!
أو بمعنًى آخرَ: مِزاجك يَختلف من ساعة إلى ساعة، بل من لحظة إلى أخرى، و لَم يتغيَّر شيء في الزمن.
و كذلك الأمر بالنسبة للأمكنة، فعندما تكون بين السنابل و الأقاحي، و في جنان أرض تجري من تحتها الأنهار، و تتنسَّم أريجًا يفوق المسكَ ذكاءً، فهذا طبعًا لا يُقارَن بحالة أخرى، كأن تكونَ في صحراءَ قاحلة، و لَفْحُ الشمس يَخترق وَجْنتيك، و لا ترى حولك إلاَّ سرابًا بقيعة يَحسبه الظمآنُ ماءً، و تظنُّ الأسلَ و السدرَ و الصبَّارَ وردًا و ياسَمينًا و نرجسًا.
و مع ذلك نرى كثيرًا من الناس يعتبون على الزمن و الدهر، و بعضهم قد يصل إلى مرحلة السِّباب و الشتائم، فنتذكَّر قولَ القائل:
نَعَيبُ زَمَانَنَا وَ الْعَيْبُ فِينَا
وَ مَا لِزَمَانِنَا عَيْبٌ سِوَانَا