حين أبدع الروائى الكولومبى الراحل (جارسيا ماركيز) روايته البديعة (خريف البطريرك) وصف لنا بكاميرا شديدة الإبهار والجسارة ما يعانيه الحاكم القابع خلف متاريسه المحكمة من هلع لأدنى بادرة، وما يحسه من خوف زائد فى (صقيع وحدته)، و يمكن أن يكون الخوف مبررًا بسبب سياقات سياسية محتقنة خلقتها ممارساته فى المحل الأول، وقد يكون بعض هذا الخوف مأتاه الهواجس والأخيلة الداخلية التى تتراقص أمامه فى (مملكة سأمه الواسعة) بتعبير ماركيز. تدافعت هذه الدلالات فى ذهنى حين أمعنت فى قراءة المشهد السياسى الحالى عقب رسو سفينة الانتخابات الرئاسية عند المرشح الأوفر حظوظًا منذ البداية (عبد الفتاح السيسي)، ومضت بى قراءتى فى المشهد لتقصى الملفات العالقة الملغومة التى تنتظر عريس القصر الرئاسي، خصوصًا ملف الاقتصاد المتهاوى والانفلات الأمنى والمصالحات الوطنية واستعادة السلم الأهلى وسد النهضة وغيرها من الملفات القاصمة للظهور، بيد أنى توقفت عند سؤال مفصلي: هل سيتمكن السيسي، ميدانيًا ولوجيستيًا، من مباشرة شئون الدولة المصرية فى مساحات انكشاف نمطية، على ما صنع سابقوه، أم أن المخاطر الأمنية الهائلة ستلزمه (ملاذًا سرمديًا) إلى الأبد يدير الملفات من قلبه؟ وهل يمكن تحريك الدولة المصرية فى طريق التعافى من وراء صوبة محصنة أياً ما كان تحصينها؟ وهل سيكون فى مقدور السيسى التوجه نحو قرية نائية ليقص شريطًا لمشروع إنمائي؟ وهل سيكون فى مقدوره أن يشق طريقه إلى محافظة طرفية ليتابع جهدًا تنمويًا؟ وهل سيكون سفره إلى مطار عاصمة أوروبية أمرًا ميسورًا؟ وكم ستكون آليات الحراسات وكلفتها فى العموم؟! وقد يرد هنا بأن هذا القياس ينطبق حرفيًا على من سبقه من رؤساء وجب ضمان التحوط الأمنى فى تنقلاتهم، وهو سقف تأمينى ينطبق على أية دولة أو زعيم، بيد أننا يتعين أن نقر، مع هذا القياس، بأن الدولة المصرية مع التدفق الهيستيرى لعمليات الاستباحة والقتل فى الأشهر الماضية بالخصوص قد دخلت فعليًا، حزام الدول ذات الأنظمة شديدة الاستهداف من الوجهة الأمنية. حيث تورط النظام فى الصدام الدموى المكشوف مع قطاعات واسعة من المصريين على نحو غير مسبوق وأنفذت قوانين وقرارات محل استياء تحت زخات الرصاص الحى تقريبًا! ولا جدال أن دخول الدولة المصرية هذا الحزام الأمنى الخطير إلى حد استيطان الثأرات النارية كثيرًا من الحواضر والديار التى لا ترى فى الوجود الآن سوى مفردة (القصاص)، نقول إن دخول الدولة المصرية هذا الحزام الشائك من شأنه أن يرحل للخزانة (الخاوية أصلًا) مؤنًا وأعباءً تدير حساباتها الرءوس! فحين أنشئ فى أمريكا جهاز الشرطة السرية عام 1835 لمكافحة تزوير العملة وحراسات الرئاسة خضع هذا الجهاز بتمامه لوزارة الخزانة رأسًا نظرًا للكلفة الهائلة قبل أن يتم إلحاقه فيما بعد بجهاز الأمن الداخلي، وحين انفجرت الأوضاع داخل الكيان الصهيونى بسبب الحراك الشعبى الفلسطينى الرافض، طالب وزير الداخلية الإسرائيلى (جدعون ساعر) ما يقارب الثلاثين مليون شيكل لحراسات القيادات خصوصًا بعد إحراق سيارة رئيس بلدية الخضيرة، والأمثلة تند عن الحصر. و فى ضوء ما تردد من تسريبات حول تحرك وزير الداخلية المصري، حسب خطة تنقلات أعدتها المخابرات واضطرار كثير من قيادات الجيش والشرطة إلى استبدال أماكن إقامتهم، يبقى تحدى التحصينات والحراسات هاجسًا أوحد! و يبقى المشهد فى مجمله جديدًا مثيرًا فى التاريخ المصرى الحديث إذ يدار دولاب الدولة من قلب ثكنة، يعد التحرك خارج حدودها شبرًا، مرادفًا لمغامرة الموت!