اخر الاخبار

الجمعة , 5 ديسمبر , 2014



قراءة في كتاب بؤس الدهرانية / إخليهن ولد محمد الأمين

صدر عن الشبكة العربية للأبحاث و النشر مفتتح هذا العام (2014) كتاب "بؤس الدهرانية النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين" للفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن و هو رجل واسع الثقافة متعدد المعارف، غزير الانتاج.
تبلغ صفحات الكتاب مع فهارسه و مراجعه 191 صفحة من القطع الكبير بخط متوسط الحجم. و تدور فكرة الكتاب حول نقد فكرة "فصل الأخلاق عن الدين" و بيان البؤس الفكري للفلاسفة الذين نظروا لها، و مقلديهم من المثقفين في أوطاننا العربية، و ذلك في بابين و سبعة فصول.
يسعى الفيلسوف طه عبد الرحمن من خلال هذه الفصول السبعة إلى تفكيك مقولات الحداثيين، و نقد مشروعهم (الدنيوي) الذي توسلوا إلى إقامته بـ"آلية تفريق المجموع" أو قل "آلية فصل المتصل"، و ذلك بفصل الدين عن مجالات الحياة.
و يسمي طه هذا العمل (بفصل الدين عن مجالات الحياة) بـ"الدُّنيانية"، التي تتخذ صورا متعددة منها فصل السياسة عن الدين، و هو "العلمانية"، و منها فصل الدين عن العلم، و هو "العلموية"، و يرى الفيلسوف طه أن أشد هذه الفصول خطرا و أبلغَها أثرا هو "فصل الأخلاق عن الدين"، و ذلك لأن (فصل الأخلاق عن الدين ينزع عن الأخلاق لباسها الروحي و يكسوها لباسا زمنيا). و يسمي طه هذا العمل بـ"الدهرانية"، و لا تعني عنده "العلمانية" (كما زعم الدكتور السيد ولد أباه في مقاله "الإسلام الأخلاقي أم الإسلام السياسي")، و إنما هي صورة أخرى من صور "الدُّنيانية" تختص عنده بفصل الأخلاق على الدين، كما تختص "العلمانية" بفصل السياسة عن الدين، و كما تختص "العلموية" بفصل العلم عن الدين.
و يتوسل طه في نقده للحداثة بمنهجه الفلسفي الذي أطلق عليه "النقد الائتماني"، و ذلك أن تعريفه للفلسفة لا ينطلق من التعريف المتادول الذي يعرفها بأنها "المعرفة العقلية المجردة". و إنما يرى طه أن العقل ثلاثة درجات "عقل مجرد" و هو العقل الذي لا يعبأ بالممارسة الدينية، و "عقل مسدد" و هو العقل الذي ينطلق من الممارسة الدينية، و لكن اتجاهه الأفقي (يجعله يتعلق بظواهر الأشياء في اتصال وجودها بعضه ببعض)، و "عقل مؤيد" و هو عقل منطلق من الممارسة الدينية، بيد أن اتجاهه العمودي (يجعله يطلب خفي دلالاتها بالنسبة لوجوده). و يتأسس "العقل المؤيد" الذي تتحدد به الفلسفة الائتمانية على ثلاثة ركائز، هي "مبدأ الشهادة" و "مبدأ الأمانة" و "مبدأ التزكية". و على هذه المبادئ الثلاثة بنى الدكتور طه نقاشه (في هذا الكتاب لما تعاطته الحداثة من فصل الأخلاق عن الدين).
الدهرانية و إحلال الإنسان محل الإله
في الباب الأول من الكتاب ينطلق المؤلف من القاعدة التي قررها في مدخل الكتاب، و التي تقول إن العقل ليس (ذاتا مدركة مركوزة في داخل الإنسان، و إنما فعلا إدراكيا داخليا يصدر عن قلب الإنسان كما تصدر أفعال الإدراك الخارجية عن حواسه) ليؤكد أن (عقل الحداثة ليس عقل ما قبل الحداثة و لا عقل ما بعدها)، ملاحظا أن عقل ما قبل الحداثة (اختص بكونه يصل الأشياء بعضها ببعض)، على عكس عقل الحداثة الذي (اختص بكونه يفصل الأشياء بعضها عن بعض)، و أول ما بدأ ذلك الفصل كان بفصل "المتصل الديني" وفق تعبير المؤلف.
و يبين المؤلف -في الفصل الأول من هذا الباب- أنه يقتصر في هذه المقاربة على نقاش (الدهرية التي لا تعادي الدين المنزل)، منطلقا في نقاشها من ثلاث مسلمات، هي: "مسلمة التبدل الديني" و "مسلمة التخلق المزدوج" و "مسلمة الآمرية الإلهية".
و في إطار هذه المسلمات الثلاث يعرض المؤلف الصيغَ الأربع للأنموذج الدهراني: "الصيغة الطبيعية"(جان جاك روسو)، و "الصيغة النقدية"(كانط)، و "الصيغة الاجتماعية" (دوركهايم)، و "الصيغة الناسوتية" (ليك فيري)؛ مبينا عوار هذه الصيغ و ما تحمله داخلها من تناقض، موضحا (أن الدهرانيين لا يقصدون في بعض الأحيان بـ"العقلانية" سوى إحلال الإنسان محل الإله، و إسناد كمالات الجلال و الجمال إليه).
ثم يبين -في الفصل الثاني من نفس الباب- ما تحتوي عليه هذه الصيغ الأربع من بؤس فكري فاحش، تمثل في (تصورات فاسدة عن علاقة الإله بالإنسان), و هي "التصور الخارجي" الذي غلب على الصيغة النقدية، و "التصور التجزيئي" الذي غلب على الصيغة الطبيعية، و "التصور التسيدي" الذي غلب على الصيغة الاجتماعية، و "التصور التجسيدي" الذي غلب على الصيغة الناسوتية". موضحا أن مرد هذا البوس الفكري هو "الجهل بالقدْر الإلهي" و الاغترار بقدرة العقل، مؤكدا (أن الدهرانيين من أشد الناس جرأة على حرمة الذات الإلهية، و أكثرهم تطاولا على أسمائها و أوصافها، إذا لا يترددون في نسبتها إلى الإنسان، فيصفونه بالألوهية و الربوبية و الخالقية، ثم ينسبون إلى الذات الإلهية صفات الإنسان، فيصفونه بالضعف و القسوة و الألم و العشق).
من التفكيك إلى البناء
بعد أن ينتهي الدكتور طه من تفكيك مشروع الدهرانية و رؤيتهم للأخلاق يشرع في بناء مشروعه الأخلاقي المستمد من الدين الإسلامي و الذي يطلق عليه "الأنموذج الإئتماني" و ذلك في الفصل الثالث من نفس الباب، و يقوم هذا الأنموذج على خمسة مبادئ رئسية، هي: "مبدأ الشاهدية الإلهية" التي هي أصل التخلق الإنساني، (فلولا شهادة الإله لهذه الأعمال و شهادته عليها لما تم للإنسان تخلق، ناهيك عن كمال التخلق)، و المبدأ الثاني هو "مبدأ الآياتية" و مقتضى هذا المبدأ (أن اتصال الدين بالعالم عبارة عن اتصال آيات، لاتصال ظواهر)، و المبدأ الثالث هو "مبدأ الإيداعية" و يُقصد بهذا المبدأ (أن الأشياء ودائع عند الإنسان)، و يقتضي ذلك منا (أن ننسب الأشياء إلى بارئها و شاهدها نسبة مطلقة، و إلا فلا أقل من أن ننسبها إليه قبل أن ننسبها إلى أنفسنا)، و المبدأ الرابع هو "مبدأ الفطرية" و مقتضاه (أن الأخلاق مأخوذة من الفطرة)، و المبدأ الخامس هو "مبدأ الجمعية" و مقتضاه (أن الدين المنزل كله أخلاق)، و ذلك لأن (إنسانية الإنسان لا تتحقق بعقلانيته المجردة، و إنما بأخلاقيته المسدَّدة، و لم يَنزِل الدين إلا لكي يرقى بهذه الإنسانية بفضل كمال التخلق). و تُخرج هذه المبادئ الخمسة (الإنسان من مشقة التخلق إلى متعة التخلق)، و (من ضيق الظواهر وانفصالها إلى سعة الآيات واتصالها)، و (من التسلط على الأشياء إلى الترفق بها)، و من (التخلق الظاهر إلى أصوله في أغوار الباطن)، و من تخليق الإنسان لذاته بعضا إلى (تخليقها كلا، باطنا و ظاهرا)؛ و بهذا تنتقل هذه القيم الأخلاقية إلى رتبة القيم الجمالية.
بعد هذا البناء لـ"الأنموذج الائتماني" يعود المؤلف -في الفصل الرابع من نفس الباب- من جديد نقد "مذهب الدهرانية" ليبين أنه مذهب بائس، فيه ظلم للدين و ظلم للأخلاق و ذلك بالفصل بينهما؛ بل و "ظلم لماهية الإنسان نفسها" لأنه نزل بها عن رتبتها نزولا بعيدا. موضحا أن الدهرانيين (بلغوا غاية الاغترار بأنفسهم)، و انزلوها (منزلة الإله!)، و أنهم لم يؤرقهم (شيء مثلما أرقهم المعنى الأمري الذي تحمله القواعد الأخلاقية حتى و لو جاء لفظها بصيغة الخبر؛ إذا لا يأنفون من شيء أنفهم من الطاعة لغير أنفسهم و أهوائهم، جاعلين منها السبب في مآسيهم و مساويهم).
"مفكرة الحداثة"
في الباب الثاني من الكتاب و ضمن فصوله الثلاثة يناقش المؤلف المثقفين العرب، الذين يطلق عليهم "مفكرة الحداثة" ، و ذلك لأنهم (لا يجدون مذلة، و لا شناعة، و لا حتى حرجا في تقليد الآخرين فيما استحدثوه من أنماط تفكيرهم)، بل أكثر من ذلك يسخرون أقلامهم و أفهامهم للدعوة إلى صواب ذلك التقليد (و وجوبه، و بث روحه و قانونه في نفوس مواطنيهم، ظالمين لتاريخهم و تراثهم، بل تأخذهم العزة بمساوئ هذا التقليد)، (فحسبهم من الحداثة ان ينقلوا عن غيرهم الفكرة تلو الفكرة، و العبارة تلو العبارة)، فصاروا بذلك "مفكرة للحداثة" تختزن من ينتجه الفلاسفة الحداثيون في الغرب و تخرجه كما هو.
و يبين المؤلف أن "المثقفين العرب" بسبب بؤسهم الفكري الغير مسبوق، و شعورهم بعقدة النقص التي لا تبرحهم ينساقون إلى إسقاط ذلك البؤس على تراث الأمة، ماحين من أفق تفكيرهم (وجود ثراء أخلاقي و روحي فيه)، مؤكدا أنه (لولا استنكارهم الحق و استحسانهم الباطل و تلبيسهم على القراء) لما اشتغل بالرد على أدلتهم المحجوجة.
ملاحظة أخيرة
و إذا كان لا بد من كلمة ختامية فإنني أشير هنا في نهاية هذا التلخيص أو القراءة إلى أن المشروع الفكري للفيلسوف الدكتور طه عبد الرحمن ظهير للمشروع التغيري لحركات "الإسلام السياسي" و سنده الفلسفي، و ليس مقابلا له كما زعم الدكتور السيد ولد أباه في مقاله الآنف الذكر(مع وافر الاحترام و التقدير له و لمكانته العلمية)، و لست بحاجة هنا لكي أؤكد على ذلك أن أحيل القارئ إلى كتاب "روح الدين" الذين هو فصل مكمل لهذا الكتاب أفرده طه لنقد فكرة فصل السياسة عن الدين، كما أفرد هذا الكتاب لنقد فكرة فصل الأخلاق عن الدين، بل يكفي أن أنقل فقرتين من هذا الكتاب تؤكدان على أن رؤية طه الشمولية للإسلام تتطابق مع رؤية تيار "الإسلام السياسي".
الفقرة الأولى هي قول طه (في الصفحة 109) أن العلمانية (ظلمت الوجود الإنساني ظلما كبيرا، و ذلك بأن ضيقت أطرافه أيما تضييق، فجعلت آفاقه المتسعة أفقا واحدا منقبضا، و عوالمه الكثيرة عالما واحدا).
و الفقرة الثانية هي قوله (في الصفحة 137) (لقد قضى بعض المثقفين في أوطاننا ردحا غير قصير من الزمن و هم يلوون ألسنتهم بأول فصل عرفوه على وجهه المنقول، و هو "الفصل بين السياسة و الدين" أو قل "الفصل العلماني"؛ و لا يزالون يخوضون فيه إلى حد الآن، و يتنازعون بلا نهاية من غير كثير جدوى إلا ما كان من اتفاقهم على مفهوم "الإسلام السياسي" الذي قلدوا فيه، هو الآخر غيرهم، و كذا اتفاقهم على تهويل أخطاره على شاكلة من يقلدون، حتى وجد منهم من يبرر و يؤيد، من غير استحياء، تنكيل الحكام بأهله و مناصريهم، طمعا في أن تتاح له فرص الاشتراك مع هؤلاء الحكام في التسيُّد على الناس).

بقلم: #Magdy__Alfakhrany

القراء 1957

التعليقات


مقالات ذات صلة

حروف ممنوعة _ هشام حسن (( IQ ))

حروف ممنوعة _ هشام حسن (( إعلان حرب ))

دفاعًا عن اللغة العربية

العربية و تقنيات العصر - أ. د. جابر قميحة

تحذير واضح المعني و شديد اللهجة

الرمل المصرى (38) قبل الغروب عوامل السقوط - بقلم أ.د/ محمد أبو زيد الفقى:

الانقلاب المجرم أسبابه و دوافعه و مآله- بقلم/ أبو رقية أحمد سليمان الدبشة

حتى لا تخدعنا مظاهر القوة بقلم أ. / محمد يوسف عدس

الإنقلاب يترنح بين الخداع والتخدير والجهل بالواقع بقلم/ طلعت عبد السلام الخطابى

حلّوها يرحمكم الله - بقلم/ حذيفة زوبع

الحضارة الإسلامية تعمير وتنوير (2) من (4)

قصيدة عندما يعزف الرصاص - عبدالرحمن العشماوي

السلفية المعاصرة: التنكر للعقلانية والتلبس بجرح الهويّة - بقلم/ حسن أبو هنيّة

العقل المستقيل في تونس و ما حولها بقلم دكتور/ عبد الوهاب الأفندى

قراءة في كتاب بؤس الدهرانية / إخليهن ولد محمد الأمين

الحضارة الإسلامية تعمير و تنوير (1) من (4) بقلم الأستاذ الدكتور/ جابر قميحة

الديب لفرانس برس: تعديل قانوني يطلق سراح مبارك



خريطة الموقع


2024 - شبكة صوت الحرية Email Web Master: admin@egyvoice.net