الانقلاب المجرم أسبابه و دوافعه و مآله
بقلم/ أبو رقية أحمد سليمان الدبشة
في ظلال سورة إبراهيم
في رائعة من روائع ابدعات سيدنا الكريم وشيخنا الجليل العلامة فضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله
يقول رحمه الله:-
سورة إبراهيم
" كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ".
فى الحياة الدنيا ظلمات كثيرة، ظلمة الجهل، وظلمة الغرور، وظلمة الإثم، وظلمة العصيان.
وقد أنزل الله كتابه على محمد خاتم الأنبياء ليخرج الناس من هذه الظلمات كلها، وليعلمهم أن هذه الحياة الدنيا مرحلة إلى مابعدها، وأن الذين يستحبون الدنيا على الآخرة ضالون، وأن الذين يقاومون الوحى ويكرهون العيش فى مناره جائرون معوجون.
ومن قبل محمد أرسل الله موسى لينقذ قومه من ظلمات الذل والعبودية، ويمن عليهم بالحرية المطلقة، حرية العقل والضمير والحركة والمرح فى نعمة الله!!.
وكل ما طلبه منهم أن يذكروا هذا الفضل، ويعرفوا حق صاحبه " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور " والأديان كلها نقلة من الجهل إلى العلم، ومن العوج إلى الاستقامة، والكتاب الذى اختص به محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ملئ بحزم من الأشعة التى تمحو العمى، وتهدى الطريق، وتقود إلى الله ـ سبحانه ـ وتعصم من الوقوع فى ضروب الجاهليات كلها. ولكن البشرـ على امتداد العصور ـ يخاصمون الوحى، ويكابرون المرسلين، ويحاولون البطش بهم، ويستغلون ما أوتوا من قوة لفتنة المؤمنين عن الحق، لكن المؤمنين يصمدون ويتحملون " وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون " .
وإخراج أمة من الظلمة إلى النور لا يتم بين عشية وضحاها، إنه يحتاج إلى زمان طويل، وقد مكث نبينا ثلاثا وعشرين سنة يتعهد العرب بالقرآن الكريم حتى محا بداوتهم وجهالتهم وتخففهم العلمى والحضارى، وأمسوا أهلا لصدارة العالم وقيادته. إن القرآن نقلهم نقلة فسيحة: ثقافيا وسياسيا وعقليا وخلقيا، فلما اشتبكوا مع أعداء الله رجحت كفتهم عن جدارة، واستحقوا التمكين فى الأرض.
وتلمح هذه المعانى فى قوله تعالى: " وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد" .
إن الأمم المغلوبة على أمرها، المحجوبة بخواصها عن السيادة والصدارة لا تبلغ القمة، وهى واهنة الإرادة مختلطة القصد! لابد أن يغير الإيمان أحوالها ويزودها بطاقات جديدة من اليقين والتجرد والجراءة، حتى تستطيع أن تقهر خصومها، وتضع على الأرض طابعا جديدا من العبودية لله، والازدراء لشهوات الدنيا. عندئذ يحكم الله بزوال دول وإقامة أخرى " واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد" . فلتفقه هذا الدرس أمتنا الإسلامية التى لا تريد أن تغير نفسها!!.
ومن قديم والمجتمع البشرى طبقات أو درجات! هناك السادة والعبيد، أو الرؤساء والأتباع، أو القادة والجماهير، أو أصحاب المواهب المادية والأدبية والمعجبون بهم، المقلدون لهم السائرون وراءهم.
وبين الفريقين قاسم مشترك أو هدف واحد، والذين يحبون كاتبا من الكتاب يغلب أن تكون فى نفوسهم الأفكار التى يترجم المؤلف عنها.. الفارق أنها مستخفية فى ضمائرهم، وأن الكاتب أحسن صياغتها. ويطرد هذا الشبه فى ميادين شتى بين الرؤساء والأتباع، أو القادة والمعجبين.
وقد لاحظت أنه فى موقعة " بدر " أحاط المشركون بأبى جهل زعيم الكفر وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه!! فكان بينهم كأنه فى غابة من الرماح، ولكن أشبال الصحابة أجهزوا عليه .
والغريب أن الكفار سوف يلجأون إلى هذه الرابطة فى الدار الآخرة، ولكنها لا تغنى عنهم شيئا " وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص "! وقد شرح الله هذه الحقائق للناس فى يومهم القريب، حتى لا ينخدع رئيس بتابع، ولا تابع برئيس، ومع ذلك فإن نفرا من الرؤساء المغرورين خدعوا الجماهير، واستغلوا ثقتهم فجروهم إلى الهلاك "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار". إن المصير واحد للأئمة الذين يدعون إلى النار والأغرار الذين يستجيبون لهم..! وتشبه سورة إبراهيم سورة الرعد فى شرحها لطبيعة الحق! فإن الحق ينفع الناس إلى جانب صدقه العقلى، أما الباطل فمجلبة للمتاعب والآلام!. فى سورة الرعد يقول ـ جل شأنه ـ: " كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال " .
وفى سورة إبراهيم يقول ـ جل شأنه ـ: " ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن... " وتتفاوت الأمم بجملة الحقائق التى تستند إليها وتحيا بها، فإن هناك حقائق عقائدية وأخلاقية وعمرانية وحضارية.
والمفروض أن كلمة التوحيد جذر شجرة كثيرة الفروع، طيبة الثمر، غزيرته! وأنها تثمر حضارة يانعة لمن عرفها، واستنار بها، واستظل بأفنانها الكثيرة. أما الباطل ـ فلأنه لا أصل له ـ
لا ينتج إلا القوارح والهزائم " ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار" .
فهل نتفيأ ظلال الحق؟ أم نجنح إلى غيره فلا نفيد إلا السراب؟!. وتتحدث سورة إبراهيم عن ناحيتين يجب أن تتوفرا للأمة المؤمنة: الأولى: انشغال الأمة بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة أكثر من انشغال الأمم القومية بشئونها الخاصة، فالأمة صاحبة الرسالة الإلهية تستغل تمكينها فى الأرض لإعلاء كلمة الله، ومواصلة ذكره وتمجيده: " قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال" .
وتاريخ النبوات كلها يشير إلى أن الدول التى يقيمونها تهتف لله لا لبشر، وتجعل صلتها بالسماء أساس نشاطها الدءوب. ومع شحوب التعاليم السماوية أو غروبها ترى الأمم مستغرقة فى الطعام والتمتع والمكاثرة والمفاخرة، فإذا بكت على شىء فعلى هبوط مستواها الاقتصادى، وقلة المواد التى تستهلكها فى ملذاتها. والعالم اليوم محتاج إلى أمة تضرب المثل من نفسها فى عبادة الله، والحديث عن أمجاده ووصاياه، وتلك هى الأمة الإسلامية..
على أن هذه الأمة المسبحة بحمد الله يجب أن تكون مالكة لزمان الأرض، سيدة على مرافق الحياة المختلفة. وهنا تجىء الناحية الثانية، وهى ناحية توضح أن أهل الإيمان ملاّك لا عالة، وأن بأيديهم قياد الدنيا يصرفونه كيف شاءوا. ويتضح هذا من الآيات الثلاث الآتية، والتى تكررت فيها كلمة ( لكم) خمس مرات!! " الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها... ".
إن هناك مؤمنين شردوا عن الصراط المستقيم، وتجمدت مواهبهم، وعاشوا غرباء فوق أرض سخرت لهم، فسخروا فيها، وبدل أن ينصروا الله بما آتاهم ارتعشت أصابعهم، ونكصت أعقابهم، فتقدم أعداء الله إلى الزمام الخالى فامتلكوه، وسخروا الدنيا لكفرهم، وأحرجوا الإيمان فى مواطنه فما يكاد يبين.
والجهاد فى عصرنا: سيادة فى البر والبحر والجو، وعلم بالكون يرتفق الأرض والسماء وما بينهما. فما هو حظ المسلمين من ذلك كله؟. إن الأسى يقهرنى عندما أجد أننا لم نصنع طيارة تخترق الفضاء، ولا غواصة تمخر العباب، ولا دبابات يتحرك بها الحديد على الأرض، ليدعم الحق وينصر المظلومين.
على حين مهر اليهود فى هذه الفنون، وانطلقوا هنا وهناك وكأنهم جن سليمان!. والفارق أن جن سليمان كانوا فى قبضة رجل مؤمن يسخر قوته لله، أما يهود اليوم فإنهم جاءوا لخلع جذور العروبة والإسلام، وبناء سلطان للطغيان والتمرد على الله... ما أوسع التفاوت بين ذرية إبراهيم، فيهم من ذهب بنفسه وتبع هواه وكفر بعيسى ومحمد جميعا، وهؤلاء الآن معهم القوة!. ومنهم من ورث الوحى ولم يحسن الوصاية عليه، فعاش خاملا مسيئا وهم عرب هذه الأيام العجاف!. كان إبراهيم صالح مصلحا، جاب الآفاق داعيا إلى التوحيد، ومعلنا حربا شعواء على الأوثان.
ثم جاء إلى الحجاز وهو يدعو: " ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون".
وهذا الفرع من ذرية إبراهيم هو إسماعيل من زوجته هاجر. أما الفرع الآخر فهو إسحاق أبو إسرائيل من زوجته سارة، وقد رزق إبراهيم بهما على الكبر، ولذلك يقول: " الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء * رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء" . والغريب أن اليهود يرون أنفسهم أبناء السيدة الحرة، أما العرب فهم دونهم، لأنهم أبناء أمة! وهذا فكر هابط، فبنو آدم سواء، لا يختلفون إلا بالتقوى، وإذا كان لإبراهيم ميراث فهو لولده جميعا، ورب العالمين أعز وأجل من أن يقطع أبناء يعقوب أرضا يتوارثونها إلى قيام الساعة "إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " وفى المعركة الأزلية بين الحق والباطل سيشعر بالضيم مستضعفون ومهزومون، وسيقولون لقاهريهم : "... ولنصبرن على ما آذيتمونا " والظلم مرتعه وخيم. وقد يعجل الله بعقوبته فى الدنيا، ومهما تخفف الجزاء فالقصاص حق : "ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار " .
وقد تبين لنا من استقراء التاريخ أن كيد الكافرين شديد، وأن مكرهم سيئ، وأن الخطط التى يرسمونها لضرب الحق خبيثة ماهرة!! على أن ذلك كله لن يغير النتائج المقدورة: " وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال * فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام".
لقد بدأت سورة إبراهيم ببلاغ للناس أن الله أنزل الكتاب على نبيه الخاتم ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وها هى ذى السورة تختم ببلاغ مؤكد حاسم " هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب ". على أولى الألباب أن يحترموا عقولهم فلا يعبدوا الأوهام ويسجدوا للأصنام، وعليهم أن يتدبروا الوحى الإلهى، ويتشبثوا بالحق الذى يضىء لهم الطريق، ويوضح الغاية، ويهدى إلى الرشد.
رحم الله سيدنا الكريم وشيخنا الجليل العلامة فضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله