الحضارة الإسلامية تعمير و تنوير (2) من (4)
الأستاذ الدكتور جابر قميحة | أستاذ الأدب العربي
ونحن نرى أن رفض اصطلاح “صراع الحضارات“ رفض في غير محله؛ لأن مشكلة هذا الاصطلاح ليست مشكلة ذاتية، ولكنها مشكلة تفسيرية ـ سلوكية، فالذين تناولوا هذا المصطلح بالنقد اعتبروه مرادفًا ـ أو على الأقل مقاربًا ـ للعدوانية، كما أن السلوك الغربي، والأمريكي بخاصة يكاد يكون تطبيقًا عمليًّا لهذا التفسير.
أما الكلمة في ذاتها ـ بصرف النظر عن المستجدات في المواصفات العالمية أخيرًا ـ فتعد تمثيلاً للواقع على مدار التاريخ، فالحضارات تتقابل، وتتصارع، وليس من اللازم توظيف الحرب والسلاح كآلية دائمة من آليات هذا الصراع.
ولكن صراع الحضارات في مجالاته العقيدة، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، يتم غالبًا في صورة عفوية على مدى طويل ، إعمالاً لقاعدة “البقاء للأصلح” إذ ينهزم “العمْد” الذي يملك القوة أمام “العفوي” الذي يملك الصلاحية والتفوق المعنوي، فرأينا كيف ذابت حضارات البلاد المفتوحة في الحضارة الإسلامية، وكيف انصهر التتار في بوتقة الإسلام.
وفي هذه السياقة نذكر أن السيطرة العثمانية هيمنت على الشرق العربي إلى القرن التاسع عشر، فكانت اللغة التركية هي اللغة الرسمية: لغة الإدارة والدواوين والوظائف، وكانت هي المادة الأساسية في المدارس حتى بعد دخول الإنجليز مصر واحتلالها سنة 1882م، هذا يعني أن اللغة التركية كانت هي المعبر الوحيد للمناصب، وتحصيل الرزق، وتحصيل المكانة والثراء ومع ذلك انتصرت العربية، وانتصر معها الوجدان العربي والهوية المصرية .. وكذلك كانت الحال في سائر البلدان العربية، ومن أوضح الشواهد ـ في هذا المقام ـ محاولات فرنسا بكل ما تملك من إمكانات، وعلى مدى سبعين عامًا لفرنسة الجزائر عقيدة، ولغة، وعادات وتقاليد، ولكن جهودها باءت بالإخفاق الذريع.
فالصراع بين الحضارات قائم أردنا أو لم نرد. والانتصار يكون للحضارة التي تملك قوة البقاء والأفضلية والحيوية، بشرط تجنب الظلم والقهر والعدوانية، مصداقًا لقوله تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) (الرعد: 17) وهذا الصراع لا يلغي الحوار، والتنافس ومحاولات إثبات الوجود، والتفاعل أخذًا وإعطاءً، تأثرًا وتأثيرًا.
وليس من الضروري أن ينتهي الصراع بالإحلال، أو الحلول الكامل.. حلول الفاضل محل المفضول بإطلاق، فقد يكون الحلول جزئيًا، بأن يكون في المفضول ما ينتفع به الفاضل ويستأنس لهذا بقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. “الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق الناس بها”. و “الضالة ـ لغة ـ هي الشيء الذي يكون للإنسان فيفقده، فيظل يبحث عنه حتى يجده، فهذا المجاز أبلغ ما عرف من نوعه في بيان ضرورة الحكمة للإنسان، وأبدع ما أثر عن البلغاء من عبارات الحث على تطلبها، فإذا كانت الحكمة ضالة كل مؤمن، فكيف يغفل عن البحث عنها في جميع مظانها من بطون الكتب، أو من أساطير الأولين، أو على ألسنة الناس كافة، فإذا وجدها وجب عليه أن يأخذها دون تردد”.
ولنا في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسوة حسنة، فقد حفر الخندق حول المدينة لحمايتها من كفار مكة والأحزاب سنة 5هـ، أخذًا بمشورة سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ وكان حفر الخنادق نظامًا فارسيًا لحماية المدن، وعنهم أخذ الخليفة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ نظام الدواوين.
والمجال لا يتسع لأن نعرض بتفصيل ـ أبعاد الحضارة الإسلامية وطوابعها، والأسس التي قامت عليها، ومدى تفاعلها مع الحضارات الأخرى تأثرًا وتأثيرًا، ومكانها بين الحضارات الأخرى، وبطلان ما اتهمها به أعداؤها. ولكننا نقدم ـ قدر الطاقة ـ فيما يأتي ـ ما يبين ـ إلى حد معقول ـ عن الأمور التي أشرنا إليها آنفًا.
وأنبه إلى أنني لست من الذين يحرصون على الهرولة إلى آراء الغربييين ليدعموا بها الرؤية الإسلامية، وكأنهم عثروا على بيضة الديك، ولكني أراني هذه المرة مخالفًا وجهتي.. مستشهدًا بآراء بعض عدول الغربيين، بل رأيت أن ذلك ضرورة في هذا المقام لأسباب ثلاثة:
الأول: أنهم ـ أو أغلبهم على الأقل ـ أكثر علمًا، وأوسع معرفة من هؤلاء الذين هاجموا الحضارة الإسلامية.
والثاني: أنهم أيدوا أحكامهم بأحداث ووقائع وإحصائيات من الواقع التاريخي لا يستطيع أحد إنكارها.
والثالث: أننا ـ وأعداء الإسلام ـ في ميدان مواجهة، وضربهم بآراء أبناء جنسهم يكون أوقع، وأقوى تأثيرًا.
ومن هؤلاء هربرت جورج ويلز، ففي مقام حديثه عن الفكر العربي، والحضارة الإسلامية، وامتداد تأثيرها على نطاق واسع يقول بأسلوبه الأخاذ: ” لقد قذفت المقادير بالذكاء العربي في طول العالم، وعرضه بصورة أسرع، وأروع مما فعلت بالعقل اليوناني قبل ذلك بألف سنة خلت. لذلك عظمت إلى أقصى حد الاستثارة الفكرية التي أحدثها وجودهم للعالم أجمع غربي بلاد الصين، كما اشتد تمزيق الأفكار القديمة، وتطور أخرى جديدة.
كان العلم يثب على قدميه وثبًا في كل موضع وطئته قدم الفاتح العربي، فلم يحل القرن الثامن الميلادي حتى كانت للدولة منظمات تعليمية تنتشر في كل أرجاء العالم المستعرب، وحين وافى القرن التاسع إذا بالعلماء في مدارس قرطبة بالأندلس، يتراسلون مع إخوانهم علماء القاهرة وبغداد وبخارى سمرقند” .
ويقدم “ويلز” شواهد لتفوق هذه الحضارة، وكيف حقق العرب في حقول العلوم الرياضية والطبية، والطبيعية ضروبًا كثيرة من التقدم، فنبذت الأرقام الرومانية القبيحة، وحلت محلها الأرقام العربية التي نستعملها إلى يومنا هذا، واستعملت علامة الصفر لأول مرة.
ويتحدث “أليكس جورافسكي“ عن امتداد تأثير هذه الحضارة إلى مناخ وميادين كثيرة في أوروبا، فعم بدرجة كبيرة، أو صغيرة مستويات الحياة الأوروبية جميعًا، ونال أكثر المجالات والبنى اختلافًا وتباعدًا، بما في ذلك النواحي المعيشية والتجارية والاقتصادية، والتقنية، والسياسية، والآداب، والعلوم، والفلسفة والدين.
ولم يتوقف العطاء الإسلامي لأوروبا عند المعارف الجديدة، بل أثر جوهريًا ـ كما يقول جورافسكي ـ في نمو العمليات الثقافية وتطورها، وساعد ـ في كثير من الحالات ـ على تشكل الوعي الذاتي الأوروبي، حتى مفهوم “أوروبا المسيحية” ، بل قل التصور العام عن أوروبا كوحدة جغرافية وثقافية تكون في أذهان الأوروبيين فقط في مسيرة “الاستعادة” و “التحرير”Recon Quista “ريكونكيستا” والحروب الصليبية، حيث إن تلك التصورات الجغرافية ـ السياسية “الجيوسياسية” الثقافية ظهرت عندئذ، ووضعت نفسها كنقيض مضاد للعالم الإسلامي.
ويرجع “غوستاف لوبون“ عظمة الإسلام إلى سهولته ووضوحه؛ وذلك لأنه يعتمد على عقيدة “التوحيد المحض” ومن ثم كان الإسلام خاليًّا مما تراه في الأديان الأخرى، ويأباه الذوق السليم ـ غالبًا ـ من المتناقضات والغوامض، ولا شيء أكثر وضوحًا، وأقل غموضنا من أصول الإسلام القائلة بوجود إله واحد، وبمساواة جميع الناس أمام الله، وبيضعة فروض يدخل الجنة، ويدخل النار من يعرض عنها، وإنك إذا ما اجتمعت بأي مسلم من أية طبقة، رأيته يعرف ما يجب عليه أن يعتقد، ويسرد لك أصول الإسلام في بضع كلمات بسهولة، وهو بذلك عكس النصراني الذي لا يستطيع حديثًا عن التثليث والاستحالة، وما ماثلها من الغوامض من غير أن يكون من علماء اللاهوت الواقفين على دقائق الجدل.
وساعد على وضوح الإسلام البالغ ما أمر به من العدل، والإحسان كل المساعدة على انتشاره في العالم، وتفسر بهذه المزايا سبب اعتناق كثير من الشعوب النصرانية للإسلام، كالمصريين الذين كانوا نصارى أيام حكم قياصرة القسطنطينية، فأصبحوا مسلمين حين عرفوا أصول الإسلام، كما نفسر السبب في عدم تنصر أية أمة بعد أن رضيت بالإسلام دينًا، سواء أكانت هذه الأمة غالبة أم مغلوبة.
ويرفض غوستاف لوبون فرية انتشار الإسلام بالسيف؛ لأن الواقع التاريخي يقطع بأنه انتشر بالدعوة وحدها. وبالدعوة وحدها اعتنتقه الشعوب التي قهرت العرب مؤخرًات كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند ـ التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل ـ ما زاد معه عدد المسلمين على خمسين مليون نفس فيها، ويزيد عدد مسلمي الهند يومًا فيومًا، مع أن الإنجليز الذين هم سادة الهند في الوقت الحاضر يجهزون البعثات التبشيرية، ويرسلونها تباعًا إلى الهند لتنصير مسلميها على غير جدوى.
ويبرز لوبون ما للفتوح العربية من طابع خاص، لا تجد مثله لدى الفاتحين الذين جاءوا بعد العرب، وبيان ذلك أن البرابرة ـ الذين استولوا على العالم الروماني ـ والترك وغيرهم ـ وإن استطاعوا أن يقيموا دولاً عظيمة ـ لم يؤسسوا حضارة، وكانت غاية جهودهم أن يستفيدوا بمشقة من حضارة الأمم التي قهروها، وعكس ذلك أمر العرب الذين انشئوا بسرعة حضارة جديدة كثيرة الاختلاف عن الحضارات التي ظهرت قبلها . وقد ترك وجود العرب ـ حوالي 800 عام في شبه جزيرة أيبريا ـ علامات لا تمحى على الأرض الأيبرية، وعلى الفنون واللغات التي يتكلمها الناس هناك، كالقطلونية والقشتالية، والبرتغالية.
وبالرغم من أن فترة حكم العرب في صقلية وأجزاء من جنوب إيطاليا. كانت قصيرة، وأن استمرار التأثير الثقافي للعرب كان أقصر عمرًا، فإن هذا التأثير لم يكن في جملته أقل شدة مما كان عليه في شبه جزيرة أيبريا؛ لأن العرب لم يطردوا من صقلية بالقوة في أثناء الاحتلال النورماندي لها. ولم يتوقف الاتصال بين المسلمين والأوروبيين، حتى بعد أن اضطر المسلمون آخر الأمر إلى الجلاء عن المناطق الأوروبية في غرب البحر الأبيض المتوسط، واقتصرت سيادتهم على شمال أفريقيا.
وعرب الأندلس وحدهم هم الذين صانوا في القرن العاشر الميلادي العلوم والآداب التي أهملت في كل مكان حتى في القسطنطينية، ولم يكن في العالم ـ في ذلك الزمن ـ بلاد يمكن الدرس فيها غير الأندلس العربية ـ وذلك خلا الشرق طبعًا، وإلى بلاد الأندلس كان يذهب أولئك النصارى القليليون لطلب العلوم في الحقيقة، ومنهم “جربرت“ الذي صار بابًا في سنة 999م باسم “سفلتر الثاني” والذي أراد أن ينشر في أوروبا ما تعلمه، فعد الناس عمله من الخوارق، واتهموه بأنه باع روحه للشيطان، ولم يظهر في أوروبا قبل القرن الخامس عشر من الميلاد عالم لم يقتصر على استنساخ كتب العرب.
وعلى كتب العرب وحدها عول روجر بيكون، وليوناردو البيزي، وأرنود الفيلنوفي، وريمون لول، وسان توما، وألبرت الكبير، والأذفونش العاشر القشتالي… ألخ. قال مسيو رينان، ” إن ألبرت الكبير مدين لابن سينا في كل شيء، وإن سان توما مدين في جميع فلسفته لابن رشد “.
وظلت ترجمات كتب العرب ـ ولا سيما الكتب العلمية ـ مصدرًا وحيدًا تقريبًا للتدريس في جامعات أوروبا خمسة قرون أو ستة، بل دام إلى أيامنا، فقد شرحت كتب ابن سينا في مونبليه في أواخر القرن الماضي. ولما حاول لويس الحادي عشر تنظيم أمور التعليم في سنة 1473م أمر بتدريس مذهب ابن رشد، ومذهب أرسطو.
قال الشاعر الكبير بترارك: يا عجبًا استطاع شيشرون أن يكون خطيبًا بعد ديموستين، واستطاع فرجيل أن يكون شاعرًا بعد هوميروس، فهل قدر علينا ألا نؤلف بعد العرب؟ لقد تساوينا نحن والأغارقة، وجميع الشعوب غالبًا وسبقناها أحيانًا، خلا العرب، فيا للحماقة!! ويا للضلال!! ويالعبقرية إيطاليا الناعسة أو الخامدة “.
وفي كتابه “ظلال الكنيسة” يشيد الكاتب “بلا سكو أبانيز“ بمجد العرب الأندلسيين، فالفتوح العربية ـ كما يقول ـ كانت غزوة تمدين، ولم تكن غزوة فتح وتدوويخ. ولم يكن ـ في الواقع ـ فتحًا فرض فرضا على الناس برهبة السلاح، بل حضارة جديدة بسطت شعابها على جميع مرافق الحياة، ولم يتخل أبناء هذه الحضارة زمنًا عن فضيلة حرية الضمير. فقبلوا في المدن التي ملكوها كنائس النصارى، وبيع اليهود، ولم يخش المسجد معابد الأديان التي سبقته، فعرف لها حقها، واستقر إلى جانبها غيرها سد لها، ولا راغب في السيادة عليها. وتمت على هذا ـ ما بين القرن الثامن، والقرن الخامس عشر ـ أجمل الحضارات وأغناها في القرون الوسطى.
وفي الزمن الذي كانت أمم الشمال فريسة للفتن الدينية، والمعارك الهمجية يعيشون عيشة القبائل المستوحشة في بلادهم المتخلفة كان سكان أسبانيا يزدادون، فيزيدون على ثلاثين مليونًا تنسجم بينهم جميع العناصر البشرية والعقائد الدينية. فعاشت في الجزيرة الأندلسية طوائف من النصارى والمسلمين، وأهل الجزيرة والشام، وأهل مصر، والمغرب، ويهود أسبانيا والشرق، فكان منهم ذلك المزيج الذي تميز به المستعربون، والمدجنون، والمولدون، وعاشت ـ بفضل هذا التفاعل الحي بين العناصر والعروق ـ جميع الآراء والعادات، والكشوف العلمية، والمعارف والفنون، والصناعات، والمخترعات الحديثة والأنظمة القديمة، وانبثقت من تجاوب هذه القوى مواهب الإبداع والتجديد.
وتؤكد زيغريد هونكه هذه الحقائق ، ” فبواسطة العرب تعرفت أوروبا على أهم آثار القدامى، وبفضل ترجماتهم للمخطوطات اليونانية، وتعليقاتهم عليها، وبفضل آثارهم الفكرية الخاصة أدخلت إلى العالم الجرماني روح التفكير العلمي، والبحث العلمي.
إن أرقام العرب وآلاتهم التي بلغوا فيها حدًا قريبًا من الكمال، وحسابهم وجبرهم، وعلمهم في المثلثات الدائرية، ومصرياتهم الدقيقة، كل ذلك أفضال عربية على الغرب، وقد ارتفعت بأوروبا إلى مكانة مكنتها عن طريق اختراعاتها، واكتشافاتها الخاصة من أن تتزعم العالم في ميادن العلوم الطبيعية منذ ذلك التاريخ حتى أيامنا هذه “.