ماذا ترتب على قتل قابيل لأخيه هابيل؟
منذ ذلك اليوم الكالح، ترسب في ضمير البشر ، قويهم وضعيفهم، أن القوة تصنع الحق، وان المادة هي كل شئ... منذ ذلك اليوم ترسب في ضمير الأقوياء منا، أن القتل يجعلك تستولي على مال أخيك، وأنت مستيقن أن الموتى كلهم مثل هابيل لن يعودوا أبدا، ليستعيدوا حقوقهم السليبة.
منذ ذلك اليوم الكالح، ترسب في ضمير البشر، أن وشائج القربى أمر لايأبه له، وإنما يؤبه لما نظنه مصلحتنا والفائدة التي تعود إلينا، تحقيقا لرغائب نفوسنا،ولذلك فإنه يجوز للإنسان القوي أن يقتل أخاه الضعيف ... وبالمثل فقد ترسب في ضمير الضعفاء منا ، أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، فالمادة هي كل شئ... هكذا ترسب في عقول الأقوياء والضعفاء الخوف وأبناؤه الشرعيون الطمع والحسد والحقد والضغينة والمكر والخديعة، وما يستتبع ذلك من بطش وفتك، وقتل ذريع.
منذ ذلك اليوم الكالح، اختار الإنسان طريق الكفر والحجاب، وأدار وجهه لطريق الشكر والصواب : " إنا هديناه السبيل ، إما شاكرا وإما كفورا" ويستثنى من ذلك الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ماهم... إنهم القلة القليلة، من بني آدم، التي عصم الله عقلها، فيممت وجها شطر قلبها، وجعلت بيوتها قبلة الشكر: " وقليل من عبادي الشكور".
إن العارفين المحققين لا يزالون يذكرون ذلك اليوم الرهيب، فهم ما زالوا يذكرون تفاصيله الموجعة، مثلما تذكر أنت تفاصيل الأمس القريب، بل أشد ذكرا، فهو محفور في حواشي القلوب، في واد مجدب يباب، لاتجري في شعابه إلا دماء هابيل ودماء من لحقه من أبنائه بأيدي إخوتهم !!
دماء عجز عن غسل ادرانها من وجه البسيطة، تدفق طوفان نوح العظيم ... لست أدري هل نتأمل في كل ذلك!!
الربانيون منا لم ينسوا ذلك اليوم الرهيب: " وما كان ربك نسيا"... فكل أخبار القرون الأولى، وبالذات قصة قتل النفس التي حرم الله، ما زالت مسطورة ومقروءة : " قال فما بال القرون الأولى* قال : علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى" وكل من قرأ كتاب الوجود، بقراءة الربانيين، لم ينس أيضا: " سنقرئك فلا تنسى" ... الآن أريد أن أتلو عليك نبا أبني آدم بالحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال!! فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ، ثم إنا علينا بيانه.
لست أدري إلى أي مدى يتذكر قراؤنا الكرام ذلك اليوم الرهيب، يوم كان جدنا هابيل، يمد يده السمحاء البيضاء ، لجدنا قابيل، متوسلا إليه برحم أمهما حواء قائلا : " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك"
لقد كان هابيل عارفا، يدرك علاقة الأخوة التي تربطه بأخيه، وكان يريد لأبنائه من بعده أن يدركوا هذه العلاقة، و يسيروا في طريق التقوى، فتودد إلى أخيه بقول الله الذي أجراه على لسانه: " إنما يتقبل الله من المتقين" .
كل ذلك لم يوقظ شيئا في عقل قابيل، فلم يتذكر ولم يخش... فطوعت له نفسه قتل أخيه، فقتله فأصبح من الخاسرين، ومنذ ذلك اليوم فارق الناس طريق التقوى وسلكوا طريق الفجور، الذي قاد الناس إلى جحيم الحرب، التي ما غابواعنها في يوم من أيام دين الله، منذ ذلك اليوم الرهيب: " وإن الفجار لفي جحيم * يصلونها يوم الدين* وما هم عنها بغائبين"
لقد تركت آثار أقدام سير الإنسان في طريق الفجور آثارا مدمرة ، على ضمير الإنسان المغيب ، ووجدانه المحجب، أغلالا وقيودا وأحقادا، ورثناها صاغرا عن كابر، وقد تجلت مظاهر هذه الأغلال في الإقتصاد والسياسة والإجتماع وفي العقائد الدينية، واختفت بطائنها في عقد نفسية مربكة مضطربة ومتناقضة ، إختلط فيها الحابل بالنابل!! إختلط فيها حبنا بكراهيتنا، ورحمتنا بقسوتنا، وقوتنا بضعفنا، وكرمنا بلؤمنا، وتسامحنا بحقدنا، وصلاحنا بفسادنا وحسناتنا بسيئاتنا وخيرنا بشرنا.
من أحشاء ضميرنا الخرب، نشأت فكرة الحرب المنظمة، التي لا يزال أوارها مشتعلا... لقد ترتب على الحرب المنظمة ، وما فيها من فتك وسلب، شرور وبيلة ، وأهوال مريعة، فرقت الإخوة في الإنسانية أيدي سبأ... منذ ذلك التاريخ الموغل في القدم، إختل النسيج الإجتماعي، وتم قهر الفرد البشري وإستغلاله ، قهرا أليما، و إستغلالا شنيعا، حتى صارالفرد مجرد أداة من أدوات الحرب، يسحق ويقتل ولا يبقى إلا الأيتام والأرامل، ونصب الجندي المجهول.
منذ فجر التاريخ البشري، مارس البشر جريمة الحرب، دون أن يخجلوا، أو يرمش لهم جفن، لأنهم لم يشعروا أن الحرب هي عين الفساد: " الا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون" ... وفي ذات الوقت، كانت القوى الملائكية، الكامنة في خبايا قلوبنا، تردد قول الله القديم، الذي يجريه على لسانها في كل حين: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"
ولكن الناس كانوا ولا يزالون يعتبرون سفك الدماء في الحروب، شرفا ودفاعا عن الأوطان، وزودا عن حياض العقيدة، وإصلاحا للناس... سبحان الله!! الحرب التي هي إفساد في الأرض يسميها عقلاؤنا إصلاحا: " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ، قالوا إنما نحن مصلحون"
من بذرة قتل قابيل لإخيه هابيل، نمت شجرة الحرب، الشجرة الملعونة في القرآن، والتي خوفنا الله منها، ولكننا لم نزد إلا طغيانا وسيرا في طريق الحرب: " والشجرة الملعونة في القرآن، ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا"
من أغصان هذه الشجرة الخبيثة، ظهرت الطبقات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية، من أقوياء وضعفاء، وأغنياء وفقراء، وسادة وعبيد، وملوك ومملوكين، وساسة ماكرة وشعوب غافلة !!
لم تسلم أدياننا من هذه الطبقية المذلة لكرامة الإنسان، فقد عرفتها جميع الأديان !! فما من دين من الأديان إلا وفيه الوسطاء الذين يقفلون باب الرب الواسع، وبذلك صار إيمان الأكثرية من البشر، ضربا من ضروب الشرك، بل هو الشرك ذاته: " وما يؤمن أكثرهم بالله، إلا وهم مشركون"