بقلم : مهندس / محمود صقر
24/06/2015
نعمة الخيال .
كان لي زميل ، كلما دخلت عليه وهو منفرد بنفسه ، أراه عابس الوجه مقطب الجبين ، يُصدر أصوات غضب مكتوم خشية أن يسمعه أحد ، يلوح بيديه في الهواء كأنه يحارب الأشباح والشياطين .
أسأله: ما بك يافلان.؟؟!!
يجيب: أبداً، مشاكل وخناقات في رأسي، مرة مع مراتي ومرة مع مديرنا فلان....!!!
أما العبد لله ، فكان منذ الصغر حين يختلي بنفسه حتى وإن كان يسير في الطريق وسط الزحام ، يكون سارحاً في أفكاره وخياله ، ويظهر على وجهه ابتسامة كثيراً ما تقترب إلى الضحك . فكان إخوته في البيت يتعجبون حين يرونه على هذه الحال، ويهرولون نحو الوالدة يقولون لها : الحقي ابنك اتجنن.. بيضحك لوحده.!!
وكان صديق الطفولة ورفيق عمري "مجدي" يراني وأنا أسير وحدي في الشارع على تلك الحال ، فيستوقفني بخفة ظله ولطفه ويقول لي : " محمود" : انت ماشي بتضحك لوحدك في الشارع!! الناس ستقول عنك مجنون، إياك أن تسير وحدك في الشارع.!!!"
الخيال: هو انعكاس لبياض القلب وسواده، ويقظة الحس وبلادته، ونشاط القريحة وكسلها.
بالخيال تستطيع أن تنتقل إلى عالمك الخاص وتترفع عن واقعك أياً كان هذا الواقع .
بالخيال تعيش في النار، وأنت في قصرك المنيف وحدائقك الغناء .
وبالخيال تعيش في الجنة، وأنت في كوخ صغير وكسرة خبز .
أيّها الشاكي الليالي إنَّما الغبطةُ فِكْرَهْ
ربَّما اسْتوطَنَتِ الكوخَ وما في الكوخِ كِسْرَهْ
وخَلَتْ منها القصورُ العالياتُ المُشْمَخِرَّهْ
تلمسُ الغصنَ المُعَرَّى فإذا في الغصنِ نُضْرَهْ
وإذا رفَّتْ على القَفْرِ استوى ماءً وخُضْرَهْ
وإذا مَسَّتْ حصاةً صَقَلَتْها فهيَ دُرَّهْ
لَكَ ، ما دامتْ لكَ ، الأرضُ وما فوق المَجَرَّهْ
فإذا ضَيَّعْتَها فالكونُ لا يَعْدِلُ ذَرَّهْ
الخيال: هو ابن التفكر والتدبر والخلوة .
وهو الأب للفن والإبداع والاختراع والكشف .
وهو ملكة تربيها مناهج التربية في البيت والمدرسة ومؤسسات الدولة الثقافية.
في زياراتي للمعارض والمتاحف الفنية خارج العالم العربي كنت أشاهد تلاميذ المدارس وهم بصحبة مدرسيهم يعلمونهم كيف يقرأون اللوحات الفنية ويكتشفون مكنون خيال الفنان.
وأتذكر ماكانت عليه مدارسنا في السابق من اهتمام بحصص التربية الفنية والموسيقي وحصص تجويد الخط العربي، والتي اندرست معالمها في مدارس اليوم.
وأتذكر عالم الخيال الذي كنت أسبح فيه وأنا أستمع من الجدة إلي حدوتة الشاطر حسن، والبساط السحري ...
بل إن المذياع كان يثير فينا خيال الأشكال التي نسمع أصواتها، والأحداث التي نسمع حكاياتها.
أما إنسان العصر المسكين، فقد حاصرته مطالب العيش كداً وكدحاً ثم أسلمته في وقت فراغه إلي حصار التكنولوجيا الحديثة.
يجلس في وقت فراغه أمام التلفاز، محاصر من جهاته الأربع بالصوت والصورة، ويترك أولاده نهباً لهذا الجهاز يقتل فيهم الخيال ويربي فيهم الكسل الفكري.
ولذلك تنظر حولك تتساءل: أين الفنانون والشعراء والمفكرون والفلاسفة ؟
وكأن التربة التي كانت تنبتهم قد أجدبت .
أترحم وأنا أكتب هذا المقال على أساتذة لنا على درب الخير، كانوا يأخذوننا في وقت الغروب ووقت الشروق على شواطيء البحر أو في الصحراء، ويتيحون لنا ساعات للتأمل والتفكر والنظر في ملكوت الله وهم يحفزوننا بقوله تعالي:
(أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ .)