حروف ممنوعة _ هشام حسن
(( القضبان ))
اليوم يوم الحرية .... عشرون عاما قد تصرمت بالتمام .... اليوم أخرج من سجنى ..... ربما يفسحون مجالا للقادمين الجدد .
تم إخبارى بموعد الخروج قبل يومين فقط ... كنت قد توقفت عن السؤال عن موعد خروجى ... فقد حكم على بالسجن خمسة عشر عاما .... نعم فأنا مسجون سياسى لا يفرج عنى إلا حين يريد البغاة .... فى بلادى إذا تصادف وحكموا على قواد أو تاجر مخدرات أو سارق لقوت الشعب فإنهم يمنحونه إفراجا بعد نصف المدة لحسن السير والسلوك أو قبل ذلك حين تشملهم قرارات عفو الزعيم فى أعياد الوطن .... ناهيك عن تمتعهم بأفضل ظروف السجن حتى ليتمنى ثلاثة أرباع الشعب أن يسجن بمثل ظروفهم .
إدارات السجون تعامل هؤلاء معاملة الأسياد ... فيوما سيخرج القواد فيرد جميلهم بليال حمراء .... وسيوفر لهم تاجر المخدرات أفخر أنواع المزاج ... وسيعينهم سارق قوت الشعب فى وظيفة مدراء أمن فى مجموعة شركاته.
أخرج اليوم وقد فقدت الكثير .... ذهب شعرى وضعف نظرى وأعتل صدرى وتهالكت مفاصل الجسد .... ما أبعدنى عن يوم دخولى شابا يافعا فى العشرين من عمرى .
تتسائلون عن جريمتى ؟ .... لقد كنت ألحن قصيدة ! .... نعم فقد كنت أحب قراءة الشعر وإذا أعجبتنى قصيدة أضع لها لحنا أعزفه على عودى .
كنت فى ذلك الوقت طالبا بالسنة الثالثة بكلية الهندسة وضمن طلبة أسرة حرية وطن بالجامعة ... كانت لنا أفكار تخالف أأفكار النظام .... هذه بالتحديد أخطر الجرائم فى بلادى ... أن يكون لك فكر مخالف .... فى بلادى لا يخاف النظام شيئا مثل خوفه من أولئك الذين يفكرون .
كنا نعد لحفل نقيمة فى الجامعة بعنوان يوم الحرية ... سيتم عرض مشهد تمثيلى عن قيمة الحرية وستلقى كلمات وتعقد ورشة عمل لتبادل الأراء حول قضايا وطنية وسألقى قصيدة على أنغام عودى .
ذات فجر إقتحم حماة الوطن بيتنا واخذونى ومعى عودى وأوراقى .... لقد وشى بنا طالب عينه مدير الكلية جاسوسا على الطلبه مثلما عين رئيس الجامعة مدير الكلية جاسوسا على أساتذة كليته لكونه هو نفسه جاسوسا على كل مدراء كليات الحامعة .... نعم أيها الأصدقاء فنحن فى بلد حريات ديموقراطى يقوم على هرم من الجواسيس الذين يعلمون أن مناخ الخوف والتجسس والوشاية هو الطريق الوحيد لبقاء النظام الفاشل المذعور وبالتالى إستمرارهم أيضا بكل فشلهم فى مناصبهم الرفيعة !
أيام مرت قبل أن يصدر الحكم على بتهمة الإنتماء لتنظيم يعمل على إسقاط الوطن والتحريض على القتل والشروع فيه والإتصال بجهات إجنبية وترويع المواطنين وتكفيرهم .. وتحول الحرز من أوراق وعود إلى سبع قنابل ومدفع وأربع دانات وثلاث رشاشات .
لا تتعجبوا ... فلدى النظام رجاله من الذين يجيدون تلفيق كل تهم العالم لكل من يريد النظام إنهاء وجوده ... هؤلاء تعتمد ترقياتهم و ومكافآتهم على عدد من يزجون بهم فى السجون ... هناك مقنن من الأنفس التى ينبغى أن تفقد حياتها ومستقبلها لينعموا هم وأولادهم بكل المميزات ... صدقونى لو توقف شعب دولتى عن الحركة والكلام ونام آناء الليل وأطراف النهار فسيقبضون على العدد المطلوب لتلفيق قضايا توجب لهم الترقية المنتظرة بتهمة ممارسة الأحلام أثناء النوم .
مالنا ولكل هذا ... المهم أننى خرجت ... وهنا تبدأ المشكلة ... من الذى يريد أن يعرف سجينا سياسيا سابقا أو يتعامل معه ؟ .... لا أحد ... الشخصان الوحيدان اللذان كان من الممكن أن يتقبلا وجودى رحلا ... ماتت أمى بعد شهور من صدور الحكم ولحق بها أبى بعد عام واحد .
بعت الشقة التى تركها لى أبى بثمن بخس لحاجتى للمال ورحلت إلى قرية ساحلية صغيرة شديدة الفقر واستأجرت غرفة على سطح بيت أكل الدهر عليه وشرب ولكن ميزته الوحيدة قربه من البحر الذى كنت أشتاق له فى سجنى .
المبلغ الذى قبضته ثمنا للشقة يكفينى وقتا لا بأس به ... ليس لدى إحتياجات أكثر من لقيمات صغيرة تعودت عليها خلال سجنى الطويل ودواء لمرض صدرى .
كل يوم أخذ كرسيا خشبيا متداعيا إلى الشاطئ المهجور ومعى ديوان شعر والعود العتيق ... أقرأ وألحن .... بين المسجد المتداعى والشاطئ المهجور والغرفة المنهارة أعيش حياتى .
فى ليالى الخميس أذهب إلى قهوة يرتادها الصيادون لأحتسى كوبا من الشاى وسط الناس لأحس أننى ما زلت على قيد الحياة .
ذات خميس قال لى أحدهم على القهوة ... لماذا لا تعزف لنا شيئا .... رفضت ولكنهم أصروا ... أحسست بأنهم يستحقون أن يسمعوا شيئا يروح عنهم .... دندنت بقصيدة صفقوا لها وإن كنت أشك أنهم قد فهموا معانيها !
فجر ذلك اليوم هجم حماة الوطن على غرفتى وأخذونى ... مرة أخرى أنا فى ذلك المبنى الكئيب الذى تم التحقيق معى فيه قبل عشرين عاما ... كل شئ كما هو ... الجدران القذرة ... الوجوه الكالحة ... الأسئلة الغبية ... لا شئ تغير أبدا .
قال المحقق
.... إذا لم تردعك سنوات السجن ، مرة أخرى تعمل على إسقاط النظام
.... أنا كنت أدندن قصيدة وسط الصيادين
.... القصيدة كلها ضد النظام وأنت تستغل فقر هؤلاء وتتاجر به
أنفجرت ضاحكا
.... أى نظام ؟ هذه قصيدة كتبت قبل ثلاثين عاما وكاتبها من بلد آخر ، أكلما لعن أحد الظلم والظالمين ظننتم أنه إنما يقصدكم ، يكاد المريب يقول خذونى
إحمر وجه المحقق وصرخ
.... تضحك وتسخر ، السجن لن يجدى معك ، أمثالك لابد أن يختفوا ، لن يطلع عليك النهار ، ستنتحر الليلة ونتخلص منك إلى الأبد
سحبنى السجانون إلى غرفة ضيقة بها نافذة عالية ذات قضبان حديدية وأغلقوا الباب .... ساعات ويقتلوننى ..... شببت على أطراف أصابعى ... وقربت وجهى من النافذة لأستنشق آخر النسمات ... كانت نسمات باردة تبشر بإقتراب فجر ... الفجر سيأتى .... أدركه أو لا أدركه .... هو آت لا ريب آت
سمعت أصوات فتح أبواب الغرف بجوار غرفة حجزى ... كانوا يخرجون المحجوزين لأماكن أخرى .... أعرف هذا الإجراء ... يخلون المكان حتى لا يسمع لجريمتهم صوت أو يحس أحد بحركة مريبة ... إنها النهاية
أريد ان اعزف لحنا ... وجدت طبقا به ملعقة صدئة .... أخذت الملعقة وشببت على أطراف أصابعى لأعزف على قضبان نافذتى بدلا من أوتار عودى ... لن أصمت ... لن أصمت أبدا
كانت الخطوات تقترب بينما أرفع صوتى بكلمات القصيدة التى كنت ألحنها قبل عشرين عاما
بـــلادي مـــن يــدي طــاغ إلــى أطـغـى إلـى أجـفى
ومــن سـجـن إلـى سـجن ومــن مـنـفى إلـى مـنفى
ومـــــن مـسـتـعـمـر بــــاد إلـــى مـسـتـعمر أخــفـى
ومـن وحـش إلـى وحشين وهــــي الــنّـاقـة الـعـجـفـا
بـلادي فـي كـهوف الـموت لا تــفــنــى ولا تــشــفـى
تـنـقّر فــي الـقبور الـخرس عـــن مـيـلادهـا الأصــفـى
وعــــــن وعـــــد ربــيــعـيٍ وراء عــيــونــهـا أغـــفـــى
عــن الـحـلم الــذي يـأتـي عن الطيف الذي استخفى
فـتمضي مـن دجـى ضـاف إلـى أدجى … إلى أضفى
بـــلادي فـــي ديــار الـغـير أو فــــي دارهــــا لــهـفـى
وحــتــى فــــي أراضــيـهـا تـقـاسـي غـربـة الـمـنفى !!