حروف ممنوعة _ هشام حسن
(( التكعيبى))
........
.....
أصعد سلم العمارة متثاقلا …..عائدا من عملى فى يوم شديد الحرارة …. سيارتى القديمة كادت تعلن الاستسلام فى الطريق و لكن الله سلم
فجأة وجدته أمامى هتف قائلا
……أين أنت يا رجل
….. أهلا أهلا (رباه دائما انسى اسمه)
…. أنا لا أستطيع أن اعبر لك عن شكرى ... تامر يقول انك افضل من يدرس اللغة الانجليزيه
ابتسمت بتواضع فأنا ادرس ابنه مجانا بحكم الجيرة و يحضر إلى منزلنا العامر يوميا
….. أبدا أبدا هذا شئ بسيط و أنت جارنا و هذا واجب
…. و الله لا ادرى كيف أرد لك الجميل
..... يا سيدى لا داعى نحن جيران
..... أرجوك اقبل دعوتى غدا لحضور الحفل الختامى لمهرجان المسرح التكعيبى تفضل هذه هى الدعوة
أسقط فى يدى فليس لى أى علاقة بما يسمونه الفن ناهيك عن ان يكون تكعيبيا
..... اعذرنى لدى بعض الارتباطات
.... لا يمكن .. لا بد أن تحضر الحفل سيحضره اكبر ناس فى البلد كل الوزراء _ و غمز بعينه_ بما فيهم وزير التعليم
(ما اشد غباء البعض و هل حضورى لحفل يحضره وزير التعليم سوف يؤدى الى تعيينى مديرا للمدرسة مثلا)
..... حسنا سأحاول
..... أنا مخرج المسرحية التى سوف تمثل بلدنا فى المهرجان و سوف تعرض غدا أيضا دعواتك لنا بالفوز بالجائزة الأولى مسرحيتى اسمها ( صراخ فى الفناشير) لا بد أن تشاهدها و الحفل منقول على الهواء مباشرة إلى 99 دوله
...... أحاول إن شاء الله
..... مع السلامة
.... مع السلامة
على الغذاء رويت لزوجتى القصة ساخرا من تفاهة الرجل و مسرحيته و مهرجانه
صرخت زوجتى
.... لا بد أن تذهب
.... لماذا !!!!
..... فرصه أن تظهر إلى جوار الوزراء و ربما تظهر صورك معهم بالصحف
..... و ماذا سوف يحدث إذا ظهرت صورى معهم فى الصحف!!
.... هذا سيجعلهم يعملون لك ألف حساب فى المدرسة و لن يعطيك المدير جدول 36 حصة بينما يعطى الآخرين 20 حصة كما سوف يخاف منك و يعجل بالترقية المتأخرة منذ 4 سنوات لا بد أن يعرفوا انك مسنود من الناس الكبار
..... ما هذا التخريف أنا افعل هذا !!!!!!! لا يمكن أبدا ... إنسى هذا الموضوع نهائيا .... لن أذهب مهما حاولتى
فى اليوم التالى كنت متوجها إلى الحفل مرتديا بذلتى الجديدة ذات الخمسة عشر ربيعا و التى اقتضى لبسها القيام بحركات بهلوانية عنيفة حيث زاد وزنى 12 كيلو منذ أخر مره لبستها فى زفاف ابنة أخى
وصلت إلى منطقة المسرح و فوجئت بالجمال و النظافة الرائعة للمكان أوقفنى ظابط بإشارة من يده و قال لى
..... ممنوع يا أستاذ
..... أنا من المدعوين
نظر الى سيارتى باشمئزاز واضح (له حق)
..... ممكن ارى الدعوة
... تفضل
..... حسنا تفضل بالمرور
أفسح جيش الجنود_ المدججين بسلاح يكفى لتحرير فلسطين و كشمير و الكنغو_ الطريق لسيارتى
أوقفت السيارة فى ابعد نقطه عن المدخل و توجهت الى مدخل المبنى بخطوات بطيئة واثقة _ بفعل ضيق البنطلون _ حتى ولجت من البوابة و سرت على سجاد لا بد انه من شيراز او اصفهان و تمنيت لو تتاح لى الفرصة للاستلقاء عليه و التمرغ فوقه
قادنى أحد المنظمين إلى مكانى
يا للهول ما هذه الفخامة
رجال و نساء فى افخر أنواع الثياب و مجوهرات النساء تلمع تحت الأضواء و مباريات فى المساحات المكشوفة لكل فستان
جلست على مقعدى و هو بالصف الأول مباشرة و يبعد عشر كراسى فقط عن كرسى وزير التعليم شخصيا و الى جواره (لفيف من الوزراء و المثقفين و الفنانين)
و الى جوارى جلس جارى المخرج و الذى شد على يدى و شكرنى لوجودى إلى جانبه فى أهم لحظات حياته
أظلمت القاعة و تركزت الإضاءة على خشبة المسرح و ظهرت مقدمة الحفل _ بفستان أثار همهمات النساء و تأوهات الرجال_ و أعلنت عن ان المسرحية من 3 فصول
مسرحية (صراخ فى الفناشير)
الفصل الأول
أزيح الستار و كان الديكور عبارة عن كرسيين خشبيين متهالكين و بينهما مجسم لشجره ليس بها سوى فروع جرداء
دخلت عجوز تتوكأ على عصاها و جلست على أحد الكرسيين و وضعت يدها تحت ذقنها وأخذت تحملق فى الشجرة بدون أن تأتى بأى حركه
مرت دقيقه.. دقيقتين ..خمس دقائق و لا حركه ..... مرت ربع ساعة و لا جديد
ما هذا؟ ماذا يحدث؟ هل فقدت الإحساس بالزمن؟ هل غبت عن الوعى؟ هل أنا نائم؟
هل الجميع مشترك فى مسرحيه عبثية مجنونة؟
بعد نصف ساعة اغلق الستار على نفس المشهد و أضيئت أنوار القاعة و صفق الحضور بحماس منقطع النظير
مال على صاحبى و قال لى
…. ما رأيك
كدت أن اخلع حذائى لانهال عليه ضربا …. و لكن قلت
….. الحقيقة الفكرة جديده لكن لن تتضح و تتكامل إلا فى النهاية
….. طبعا طبعا
نظرت حولى لأرى انطباع المحيطين بى و ذهلت إن الجميع منهمك فى مناقشة المسرحية ……........ هل أنا أحلم؟ ماذا يناقش هؤلاء الأغبياء ؟
مرة أخرى أطفأت الأنوار
الفصل الثانى
أزيح الستار....
هذه المرة حدث تغيير جوهرى انتقلت الشجرة إلى يمين الكرسيين بدلا من أن تكون بينهما
و دخلت نفس العجوز تتوكأ على عصاها و جلست على أحد الكرسيين و وضعت يدها تحت ذقنها و أخذت تحملق فى الشجرة بدون ان تأتى بأى حركه
الوقت يمضى و أعصابى تكاد تحترق ، أوشك أن أقفز صارخا و لاعنا المخرج و الحضور و المهرجان
فكرت ان انطلق الى الخارج بأقصى قوه فأنا أكاد اختنق و لكن خشيت العواقب
ربما اعتبر هذا عملا ظلاميا متخلفا او حربا على الفن التكعيبى
تماسكت و مرت نفس النصف ساعة و اغلق الستار و أضيئت الأنوار
دوى التصفيق فى القاعة و أحسست أننى على وشك الجنون
انه شئ ضد العقل على ماذا يصفق هؤلاء المختلون هل يرون شيئا غير الذى أراه
انه شئ لا يصدق
مال على صاحبى مرة أخرى
....... ما رأيك (قالها بسعادة و حماس من رزق مولوده الاول بعد عقم سنوات)
أجبته بصوت أشبه بالنحيب
...... بصراحة واضح ان الفكرة ليس من السهل فهمها
قهقه ضاحكا
..... طبعا المسرح التكعيبى يخاطب المثقفين ثقافة رفيعة
... طبعا أكيد هذا واضح
(لعنة الله عليك أنت و جميع مدعى الثقافة)
بدأت أفكر بطريقه للهرب قبل أن أصاب بالجنون و لكن أطفأت الأنوار مره أخرى
الفصل الثالث
أزيح الستار
انتقلت الشجرة الى يسار الكرسيين و دخلت نفس العجوز تتوكأ على عصاها و جلست على أحد الكرسيين و وضعت يدها تحت ذقنها و أخذت تحملق فى الشجرة بدون ان تأتى بأى حركه
لا يمكن ان أتحمل نصف ساعة أخرى
سأنفجر فيهم بالحقيقة و اخبرهم انهم مختلون عقليا و انهم جميعا بحاجة إلى علاج
لا بد أن يخبرهم أحد بالحقيقة ..... لا يوجد فيما يرونه غير الفراغ و اللا معقول
و لكن و بدون مقدمات انطفأت الأنوار تماما على المسرح و فى القاعة و ساد الظلام الدامس
فجأة شق الصمت صرخة مروعه
صرخة متشنجة باليأس.. بالألم.... بالرعب
قفزت من مكانى لأنجو مما أظنه محاولة اغتيال و عدوت الى الأمام لاصطدم بجسم ضخم فاندفعت زاحفا مصطدما بعدة أشياء و انغرزت فى جسدى أطراف حادة
و بقيت ملقى بلا حراك فى الظلام الدامس
و هنا اضيئت الأنوار لاجد نفسى مستلقيا على خشبة المسرح يحيط بى حطام الشجرة و الكرسيين بينما العجوز متكومة الى جانبى
أسرعت بالوقوف لمواصلة الهرب و لكن لم استطع .... هناك شئ يمنع قدمى من الانطلاق
نظرت الى قدمى يا للكارثة..! لقد تمزق بنطالى تماما و استقر مستسلما على الأرض
تاركا اياى بالسروال الداخلى
رفعت عينى إلى جمهور المشاهدين مشدوها اننى بسروالى الداخلى على الهواء مباشرة و أمام مشاهدى 99 دوله
تصبب عرقى باردا و أوشكت على أن أغادر الوعى إلى غير رجعه
فجأة هب الحضور وقوفا و انفجرت القاعة بالتصفيق العنيف مع صيحات الاستحسان و الإعجاب برافوووووو ... برافووووووووو ........برافوووووووووووووو
ذهلت تماما نظرت الى صاحبى الذى كان لا يقل عنى ذهولا و ملقى على كرسيه و قد تدلى فكه السفلى غير مصدق لما يحدث
اندفعت شابه حسناء الى المسرح صارخة جميل جميل رائع رائع
حاولت الوصول إلى مكانى و لكن المنظمين انقضوا عليها و سحبوها بعيدا و هى تبكى و تصرخ
لم افهم هل تقصدنى أنا أم تقصد سروالى
انتبه المخرج الى ما حدث فقفز الى خشبة المسرح و امسك بيدى و رفعها مع يده الى الهواء محييا الجماهير ثم احتضننى بسعادة بالغة
اقفل الستار و هو منهمك فى تقبيل رأسى و يدى
قلت و أنا لا أستطيع التنفس
.... ماذا حدث
.... أنت وجه السعد لقد ظن الجمهور ان هذا جزء من المسرحية أنت نسجت اجمل نهاية لمسرحيتى ... لقد كانت الصرخة أخر مشهد و لكنك أضفت مشها إبداعيا
........ انا !!!!!!! انا كنت أحاول الهرب.... أنا فُضحت و ضاع مستقبلى الله يخرب بيتك أنت و المسرح التكعيبى
.... اسكت لا أريد ان يسمعك أحد انت دخلت المجد من أوسع أبوابه
... مجد !!!!!!!
.... نعم تعال خد بنطلون من ملابس الفرقة المسرحية ها هو
لبست البنطلون
جذبنى صاحبى و دخلنا القاعة من باب جانبى
مره اخرى صفق الحاضرون لرؤيتى و اندفع عدد منهم ليحصل على توقيعى على (الاوتجرافات)
طلب صديقى اسمى الثلاثى
.... سليمان عبد ربه مصيلحى
.... اسم فنى جميل
.... و ماذا تريد من اسمى
.... المنظمين طلبوه لانهم اعتقدوا إننى نسيت كتابة اسمك ضمن الممثلين
ظهرت مقدمة الحفل طالبه من أعضاء اللجنة المنظمة الصعود الى المسرح لاعلان الفائزين بالجوائز
كما دعت السادة الوزراء للصعود لتهنئة الفائزين
جائزة افضل عمل مسرحية (صراخ فى الفناشير ) تصفيق حاد و دموع من صديقى المخرج
جائزة افضل ديكور مسرحية ( غازات لزجه ) تصفيق حاد
جائزة احسن مخرج (زكى شعبان) عن مسرحية ( صراخ فى الفناشير ) انقض على صديقى محتضنا اياى و هاتفا و هو يجهش بالبكاء شكرا يا أستاذ سليمان شكرا .. و صعد إلى المسرح ليستلم جائزته
جائزة افضل ممثله (فشواكى ماشواسى) عن مسرحية ( ملحمة الصراصير) تصفيق حاد
جائزة افضل ممثل (سليمان عبد ربه مصلحي) عن مسرحية (صراخ فى الفناشير)
يا للمسخره !!!!
صعدت إلى المسرح صافحنى الوزراء و المنظمون و قدموا لى جائزة الشبشب الذهبى
بعد شهر واحد
لا زالت الصحف تبرز هذا الحدث الهام و الذى رفع اسم بلادنا عاليا و الذى وجه صفعة مدوية للإمبريالية و الشيوعية و الجماعات التكفيرية و كل من يحاول أن يمس الوطن بسوء
و يتبارى المحللون فى تحليل أدائى الإبداعى لهذا الدور التاريخى و عن الزوايا المختفية فى البؤر اللا حلقيه للشخصية و التى تعبر عن الانطلاق الواعى تجاه المغيبات المضمحلة
بعد ثلاثة شهور
تركت مهنة التدريس التافهة و أصبحت نجما مسرحيا و ناقدا فنيا لامعا و ضيفا على القنوات الفضائية لنقد جميع الأعمال الفنية التافهة و الوقحة و الخالية من أى معنى
بعد ستة أشهر
عينت وكيلا لوزارة الثقافة
بعد تسعة أشهر
عينت وزيرا للثقافة متعهدا لحكومتى بنشر الوعى الثقافى الحداثى الطليعى التنويرى
آآآآآآآآآه ما اجمل أن تكون تافها و فارغا من أى معنى فى زمن الجهل المطبق