حروف ممنوعة _ هشام حسن
((مسوخ أرض عاميس))
ترتد ذاكرته إلى أيام الصبا المبكرة ، الحديقة الغناء بفراشاتها الملونة ومطاردتها متعة صباه
تغيم كثير من صور هذه المرحلة عن وعيه وتبقى ناعمة رقراقة خلف ستائر النسيان الشفيف
صدمته حقيقة اليتم يوما ... ولكن سرعان ما تأسى عنها فلم يعانق إحساس البنوة ليفتقده
نشأ فى قصر كبير مترف تحيطه رعاية جد كهل ، وتقوم على خدمته عجوز بشوش يأنس إليها وإلى حكاياتها الجميلة
ذات مساء استدعاه الجد إلى مجلسه .... وقف أمامه وبداخله رهبة .... أغلق الجد كتابا يلازمه دوما ومد يده إلى الفتى يدنيه من مجلسه
….. بنى غدا تبدأ فى تلقى العلم
لم يحر الفتى جوابا وظل بصره معلقا بالكهل
….. سيأخذك الحوذى صباحا إلى مجلس الشيخ الجعفراوى ، أريدك أن تجتهد فالعلم سلاح الحياة
أشار الكهل بيده للعجوز فسحبت الصبى إلى مخدعه وخياله سارح فى مغامرة الصباح القريب
بخروجه انفجرت الصور متلاحقة إلى وعيه المحدود بالحديقة والقصر
فى طريق الذهاب والعودة عانق صور الحياة من مجلسه بالعربة الفخمة ذات الفرس الجميل
لم يستوعب عقله رؤية من يقاربونه سنا يسيرون حفاة على الأديم تحيط أجسادهم أسمال بالية.
تمر العربة بسوق المدينة فيصك أذنيه صياح الباعة ويبهر عينيه الزحام العجيب ، زحام تتمازج فيه الأجساد والروائح والألوان
لكن أكثر ما أقتحم عالمه صورة كائنات عجيبة لها هيكل إنسان ورأس شاذ غريب تشمئز منه النفوس يسيرون بين الناس
عند عودته سأل مربيته عنهم فقالت بانقباض وخوف
…. هم مسوخ من أرض غير أرضنا ، لا تتحدث عنهم مع أحد
درج فى حلقات مجلس الشيخ الجعفراوى ، بدأ مع أقران فى مثل سنه يُدرسهم شاب يافع يعلمهم القراءة والكتابة وكلما أنجز الفتى مرحلة انتقل إلى حلقة أخرى يستزيد فيها من العلم والأدب ، ويزداد شوقا إلى ذلك اليوم الذى يصل فيه إلى حلقة الشيخ الكبير
خالط رفاق الحِلق وتوطدت أواصر صداقته بهم فقد كان متواضعا لينا ، لا يداخله بنفسه عجب أو إستعلاء
سمع الكثير عما يعانونه من شظف العيش وندرة القوت ، وتناهت إلى سمعه تعليقات آبائهم عن ظلم المسوخ و جبروتهم
ذات يوم أستأذن للدخول على جده فأذن له ، كان الشيخ متربعا على أريكته ويده تناجى مسبحته
أطلق الفتى السؤال الحبيس فى صدره
. جدى ما قصة هؤلاء المسوخ ؟
تغير وجه الجد وتجهم
. ... بنى دعك من هذا الحديث
…. جدى لقد أصبحت شابا وأسمع عنهم الكثير من الهمهمات والشائعات فلا تترك سفينة عقلى بلا مرفأ
…. تلك يا ولدى قصة تستعصى على الخيال
...... إنى مصغ بعقلى وقلبى
…. قبل ثلاثين عاما كانت أرضنا أرض خير ووفرة ورخاء ،وكان لأرضنا سلطان عادل حكيم
عاشت بلادنا فى عهده فى رغد وطمأنينة وسلام
. .... فماذا حدث وكيف تغيرت الأحوال ؟
. .... إنها الشهوة والطمع ، كان للسلطان أخ أصغر أسود القلب أعماه الحقد والحسد ، سافر ذات يوم إلى أرض خلف البحر تسمى أرض عاميس وعقد إتفاقا مع ملكهم ، دفع له الذهب و الأموال فأمده بالمسوخ والسلاح ، عاد الأخ الحاقد بسفينته وأرساها بالشاطئ وأخفى عددا من المسوخ بها وترك باقى السفن المحملة بهم بعيدا عن مرمى العيون ، أرسل إلى السلطان رسولا يخبره أن أخاه بالسفينة يعانى سكرات الموت ، هلع قلب السلطان الرحيم وهب إلى سفينة أخيه على غير حذر فى نفر قليل من حرسه ، دخلوا السفينة فأحاط بهم الحاقد ومسوخه واغتالوهم
هتف الفتى
.... يا للبشاعة و الخسة و ماذا حدث بعد ذلك
....عاد الحاقد إلى قصر أخيه مشيعا أن حراس الملك قتلوه بتدبير من كبار رجال الدولة وألقى القبض عليهم وأعدمهم فدان له الأمر تماما ، أخذ يستزيد من المسوخ ويغدق عليهم حتى أصبحوا القوة الحقيقية و مضوا يعيثون فى الأرض فسادا فعربد الشر وتجهمت الحياة وتقوض البناء.
غادر الفتى جده الى مضجعه ، لم يغمض له جفن تلك الليلة ، تبدل كل شئ داخله ، كان كمن يبعث بعثا جديدا من وسط أتون متقد بنيران الثورة فى سبيل الحرية
أتخذ قراره غير مبال بما ينتظره فقد أصبح هدفه إنعتاق وطنه من جبروت المسوخ
بدأ الدعوة الى النضال بين من يثق بهم من أصدقائه وإخوانه ، كان قوى المنطق يتحدث عن إيمان راسخ بقضيته فتسرى النيران المضطرمة من قلبه الى قلوب المخلصين .
أخذت الخلايا الصغيرة تتشكل فى صبر وأناة ، ومضت تتدرب على أساليب النضال وتوجيه الضربات للمسوخ
أبلى الشباب أعظم البلاء وسقط الكثيرون على درب الحرية والإباء ومضت حكاياهم تروى كالأساطير
إستبد الجنون بالمسوخ من عنف المقاومين واستهانتهم بالحياة فزادوا من الظلم والتعسف والجبروت آملين أن يستيأس المقاومون وتخمد لظى الكفاح
اختلى الشاب يوما بشيخه الجعفراوى و قال
.... سيدى لقد حانت الساعة
.... ما أنت فاعل يا بنى ؟
.... سنهاجم حصن المسوخ الرئيسى
.... إنه حصن شديد المنعة فوق الجبل يحرسه الآلاف منهم بكامل العدة والسلاح ويقيم به سلطانهم الأكبر نفسه
.... نحن نعلم هذا ونريدها ضربة قاضيه لا تبقى ولا تذر
.... ولكن هل لكم بهم قوه ؟
.... بقلوبنا قوة تمحق الجبال
.... يا بنى انتم الأمل الباقى فكن حذرا
.... أوصنى يا شيخ
.... أجعلوا الله فى قلوبكم وهبوا له العمل ينصركم ويجعل كلمته هى العليا
.... نعم الوصية والدعاء وأستودعك الله
جاءت الليلة الموعودة ، كانت ليلة عيد فى دين المسوخ ، يريقون فيها الخمر ويقضونها فى عربدة واسترخاء
تجمعت الخلايا من كل حدب وصوب حتى تكامل نسيج الطهارة والنقاء ، هجم الليوث على المسوخ على حين غرة يزأرون زئير الجياع الى الشهادة والفداء
ذهل المسوخ وقاموا الى أسلحتهم يخورون خيران الثيران الذبيحة وهم يترنحون تحت هول العذاب
هوت السواعد المتوضئة بالسيوف عطشى ترتوى بالدماء فتهاوى المسوخ تحت صادق الضربات
تقدمت الجحافل الطاهرة حتى وصلوا الى الكهف بأعلى الجبل
كان الباقى من المسوخ قد أصطفوا امام الكهف للدفاع عنه وخلفهم وقف الخائن يطالع كوكبة الإيمان بوجه يقطر يأسا كالموت
نظم الشاب الصفوف وتواجه الفريقان
أطلق الشاب صيحة مزلزلة فهجم الليوث هجمتهم الأخيرة ... هاتفة ألسنتهم بأسماء االله ... مستوثقة قلوبهم من الوعد بالنصر.!