حروف ممنوعة _ هشام حسن
(( ليلة التاسع من نوفمبر ))
...........
قصة خيالية لوطن متخيل
أخيرا سيكون لدى فرصة ... فقد عقد مدير شبكة القنوات التى التحقت بها كمعد للمواد الإعلامية إجتماعا ليعلن لنا أن صاحب الشبكة قد قرر أن تتبنى شبكتنا إعلاما يهم جماهير الشعب ويتحدث عن كل ما يهمها
بعد المقدمات المعتادة أوضح المدير لنا المهمة المطلوبة وهى إعداد تقارير عن الأوضاع فى الوطن ليتم مناقشتها خلال حلقات السهرة من ليلة التاسع من نوفمبر فى برامج التوك شو فى جميع قنوات الشبكة
قلب هذا الإجتماع حياتى رأسا على عقب فقد كنت على وشك الهجرة خلال أيام وكان كل شئ معدا للسفر ، لكننى الآن أحس آملا دافقا يغمر كيانى ، سأعبر عن آلام المسحوقين وأتبنى قضاياهم ، الإعلام الصالح المعبر عن الأوضاع ركن هام للتنوير والتغيير ، فليتأجل السفر الآن ولألبى نداء الوطن
لم يكن أمامنا سوى شهر واحد قبل الليلة الكبيرة ولذا علينا أن نعمل بجد ، فسنقدم المواد لفرق المونتاج والتقديم والإخراج قبلها بأسبوع لإختيار المواد التى سيتم عرضها
بدأت جولات مكوكية مع فريق التصوير لنستعرض أوضاع الوطن
صورنا عشرات اللقاءات مع ذوى من قضوا فى حوادث الطرق المروعة التى أصبحت خبرا ثابتا فى كل الصحف والتى تجاوزت أعدادهم عدد من فقدناهم فى الحروب حتى أصبح الخارج من بيته مفقود والعائد إليه مولود
صورنا فى أماكن معيشة من ينتحرون وتكشفت لنا مآس مروعة من الفقر والقهر والبؤس دفعتهم لإرتكاب فاجعة قتل أنفسهم
تتبعنا مأساة أطفال الشوارع التى تجلل هام الوطن بالعار وشملنا الإكتئاب ونحن نرى تلك الزهور تذوى بالأمراض والمخدرات والإغتصاب والقتل
قابلنا المئات ممن تعرضوا للسرقة بالإكراه فى الشوارع العامة وفى وضح النهار وكشفنا وجود مافيا مرعبة لسرقة السيارات متصلة بمن مسئوليتهم ضبط السارقين ولنهم تحولوا لسماسرة ووسطاء لإعادة السيارات مقابل عمولات لهم ومبالغ للسارقين
جلنا بعشرات المدارس المتهالكة التى سقطت أبوابها على الأطفال فقتلتهم أو إنهار بها سلمها فحطم عظامهم أو سقطت عليهم ألواح زجاجها فتركت فى أجسادهم جروحا غائرة لا تنمحى آثارها
تفقدنا المستشفيات التى تحولت إلى محاضن للموت وصورنا المرضى الملقون فى دهاليز تلك المبانى التى ترتع فيها الأمراض وهم يصارعون الموت دون أن يستطيع لهم الأطباء شيئا لإنعدام الأجهزة والأدوية
فى كل مكان كنت أبشر المسحوقين والمكلومين بأننا سنكشف كل الأوضاع ليلة التاسع من نوفمبر وستكون حملة ضخمة تكشف الحقائق وتدفع نحو التغيير للأفضل ، كنت أقول لهم
((لا تيأسوا أبدا ، سنكشف كل شئ ، ستكون تلك الليلة بداية لأمل سينمو ويزدهر ، لن نتخلى عنكم ، لن نتخلى عن الوطن ، إنتظرونا ليلة التاسع من نوفمبر))
عكفنا ليال على العمل على تنسيق المواد التى سنقدمها للمحطة ورتبنا مادة كل قضية بالشكل المهنى المطلوب وتقدمنا للمحطة بكل شئ فى الموعد المحدد
قامت الشبكة بالتمهيد لتلك الليلة بإعلانات فى كل قنواتنا بالإضافة إلى إعلانات على كل الطرق والكبارى
كان الإعلان عبارة عن لوحة مكتوب عليها جملة واحدة
الأوضاع... ليلة التاسع من نوفمبر
أخيرا جاءت الليلة الحاسمة ... جلست وسط أصدقائى وفريق عملى لنشاهد نتاج جهدنا وأنا أتخيل حجم جماهير الوطن التى تتابع البرنامج
ظهرت المذيعة اللامعة قائلة
.... السيدات والسادة المشاهدين ، نناقش اليوم المسكوت عنه ، نناقش ما يحاول الجميع أن يخفيه رغم خطورته ، نناقش ما أحيط دوما بالغموض والأكاذيب وما لم يجرؤ على مناقشته أحد ، سوف نناقش ((الأوضاع)) مع ضيفتنا الدكتورة ( ......... ) خبيرة العلاقات الزوجية الشهيرة
إتسعت عيناى ذهولا ، أنا أعرف هذه الدكتورة التى تناقش مسائل حساسة جدا على الشاشات المفتوحة ليل نهار وتتلقى إتصالات تتحدث فى أمور تسقط لحم وجه الفاجر خجلا لو سمع معشارها
بدأت المذيعة توجيه الحديث للدكتورة قائلة
... إحنا عايزينك يا دكتورة من خبرتك تشرحى لنا ((الأوضاع)) بدقة وحنفتح التليفونات للجمهور لكل الأسئلة بدون خجل لأن الناس محتاجة تتكلم عن ((الأوضاع)) جدا
أمسكت بالريموت بيد مرتعشة وأخذت أقلب القنوات ، على كل قناة كان هناك مجموعة من ((أوضاع )) يناقشون ((الأوضاع))
أحسست بالغثيان وأغلقت التلفاز وقضيت ليلتى ذاهلا مقهورا
صباح اليوم التالى كنت فى المحطة ووجدت الجميع يهنئ مديرنا على النجاح الساحق الذى حققته ليلة التاسع من نوفمبر وعلى ذكائه حين جاءت الأوامر من جهة سيادية بعدم عرض أى شئ مما صورناه وكيف خرج من ذلك المأزق!
لم أنبس بكلمة ، غادرت المحطة وعدت إلى أماكن التصوير لأعرف رد فعل أولئك المسحوقين على ما حدث
المذهل انهم لم يبدوا أى رد فعل ، لا حزن ، لا غضب ، لا ثورة ..... حالة من التبلد والهوان المقيت وكأنهم عجماوات تقف فى طابور للذبح بعيون غائبة
إتخذت قرارى وبعد يومين كنت أودع أهلى واستقل الطائرة .... أخذت أنظر من نافذة الطائرة المغادرة إلى المبانى والشوارع والأشجار الذائبة للمرة الأخيرة
أخرجت مفكرتى لأسطر آخر ما سأكتبه قبل أن أغادر سماء الوطن للأبد
كتبت
ورحت أرحل لا قلبى بمرتعش ....... عند الوداع ولا كفى على كبدى
ولكننى والمدى أضحى يجرجرنى .... إلى المنافى حزينا واهن العضد
أدركت أن وجودى ضاع من بدنى .... وأنه لم يعد فى الأرض من أحد!