بدون اللجوء إلى طرح التعاريف الفلسفية والفكرية الإسلامية لمعنى العقل وماهية العقل فالجميع يعرف إن العقل هو ما يُرشد الإنسان نحو كل ما هو صحيح وفيه منفعة, ولذلك نجد إن الله سبحانه وتعالى عندما خاطب البشرية من خلال الأنبياء والرسل كان خطابه موجها نحو عقولهم, وحتى المعجزات التي حصلت على يد الأنبياء والرسل كانت هي تُخاطب عقول البشر بشكل عام, فعندما -على سبيل المثال– يُشق البحر لموسى "عليه السلام" بضربة عصا فهذا فيه خطاب مباشر للعقول مفاده، إن أي إنسان لا يستطيع أن يفعل هذا الفعل إن لم يكن يملك قوة جبّارة تُمكّنه من هذا الفعل, وصاحب هذه القوة يقول بأنها من الله سبحانه وتعالى وليست سحرا أو غيره، فمن يُحكّم عقله يهتدي ومن يُصادره يظلّ ويهوي.
ولنا مثال آخر في الأميين –لا يقرأون ولا يكتبون- من المسلمين الأوائل كيف إعتقدوا بصحة الإسلام وبنبوة النبي محمد "صلى الله عليه وآله وسلم" وهو أميّون؟ فبحكم العقل وبتحكيمهم العقل وجدوا إن عجز المشركين عن الإتيان بآيات أو بكلام مثل القرآن هو حجّة تامة على إثبات أحقية القرآن ونبوّة النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" ولهذا نجد الخطاب القرآني يركز على العقل, فبالعقل يمكن معرفة الحقائق والمعلومات حتى وإن كان الإنسان غير متعلم.
ومن المتعارف عليه عند الجميع إن الإسلام يدعو للعقل والتعقّل وتحكيم العقل في معرفة الحق وتشخيصه وإتباعه وتشخيص الباطل وإجتنابه لكننا نجد هناك بين من يدّعون الإسلام لا يقولون بالعقل ولا بتحكيم العقل, ومن أبرز هؤلاء هو إبن تيمية الذي تميزّت كل مؤلفاته بالإعتماد على النص "قرآن وسنة" وترجيحها على العقل!! ولا نعرف كيف يكون ذلك عند إبن تيمية؟ فإذا كان الإنسان غير عاقل كيف تكون النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة حجّة عليه؟ وحتى مؤلفات إبن تيمية نفسها وكل ما كتبه كيف تثبت عند القاريء والمطّلع عليها إنها حق أو باطل أو إن الآراء التي فيها صحيحة أو ليست كذلك إن لم يكن لدى هذا المطّلع عقل يرجّح من خلاله ويميز الصح من الخطأ والصواب من الغلط ؟!.
لكن ما يدفع إبن تيمية لهذا الأمر هو سعيه الحثيث من أجل إثبات آرائه وأفكاره على باقي آراء العلماء كي يروج لفكره التكفيري المريض، ومن أجل التمجيد وحصر الخلافة بأئمته الأمويين والمروانيين, واللطيف بالأمر إنه حتى في سعي إبن تيمية هذا فإنه يعتمد بالمباشر على العقل قبل كل شيء ولذلك نجده يستخدم المغالطات والتمويه والإلتفاف في كل رأي يطرحه ويستخدم بعد ذلك الأحاديث والروايات والنصوص القرآنية أو يقدمها في طرحه من أجل أن يؤثر في (عقل) القارئ.
ومع ذلك نعرج قليلاً على ما ذكره المرجع الديني العراقي السيد الصرخي الحسني في المحاضرة الخامسة عشرة من بحث (الدولة المارقة في عصر الظهور منذ عهد الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم ") والتي بيّن فيها إن الآيات القرآنية أشارت إلى حكم العقل والتدبر والتبين والتفكر والعلم في نقاش لما ورد في تفسير القرطبي لمعاني الآيات القرآنية: {{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}} البقرة: 30، وقد طرح المرجع الصرخي تسائلا ً جوهريا إلى المارقة التيمية أصحاب منهج التكفير وعدم التفكر والإدراك,حيث قال:
{{... سؤال2 : لماذا لا يترك الله (تعالى) العباد في خلاف، وصراع، ونزاع، وحروب، وقتل، وقتال، وظلم، وقبح، وفساد، فلا يجعل لهم إمامًا؟!! فلا يخلق الله إمامًا، ولا يجعل إمامًا، ولا يوجب تنصيب إمام!!!, هذا هو العقل، وهذه هي مدرَكات العقل التي اعتمدها الله (تعالى) في تبليغ الإنسان وباقي المخلوقات، فكرَّر (سبحانه وتعالى) في كتابه المجيد معاني العقل، والعقلاء، وذوي الألباب، والنُّهى، والفكر، والتفكّر، والنظر، والتدبّر، والتبيّن، والتبيين، والبيان، والتفقّه، والعلم، والعلماء...
قال الله الخالق العليم الحكيم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} طه:54/طه:128.
{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} البقرة:269/ آل عمران:7.
{وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} الزمر:18،
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} الرعْد:4/النحل:12/ الروم:24.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} الحج:46.
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} النساء:82.
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} محمد:24.
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} فصلت:53.
{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الأعراف:176،
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الرعد:3/الروم:21/الزُمَر:42/الجاثية:13.
{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} النساء:78.
{انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} الأنعام:65.
{قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} الأنعام:98.
{وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} المنافقون:7.
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} البقرة:230.
{قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الأنعام:97.
{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الأعراف:32.
{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ... قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} البقرة:118.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} الزمر:9 ...}}.
بقلم: احمد الملا