الزندقة عبارة عن مصطلح عام يطلق على حالات عديدة، يعتقد أنها أطلقت تأريخياً لأول مرة من قبل المسلمين لوصف أتباع الديانات المانوية أو الوثنية والدجالين ومدعو النبوة ولكن المصطلح بدأ يطلق تدريجياً على الملحدين وأصحاب البدع ويطلق بعضهم على كل من يحيا ما إعتبره المسلمون حياة المجون من الشعراء والكتاب واستعمل البعض تسمية زنديق لكل من خالف مبادئ الإسلام الأساسية, ويعتبر ظهور حركة الزندقة في الإسلام من المواضيع الغامضة التي لم يسلط عليها اهتمام يذكر من قبل المؤرخين مع وجود كتب تأريخية تتحدث بصورة سطحية عن أشهر الزنادقة والمحاربة الشديدة التي تعرضوا لها ومن هذه الكتب كتاب الفهرست وكتاب الأغاني وكتاب مروج الذهب. إلا أن الزنديق الأكبر الذي لم تتعرض له تلك الكتب ولو بسطحية هو ابن تيمية, وليس أنا من يقول ذلك بل الإمام " شمس الدين الذهبي " وهو ممن عاصر ابن تيمية وتتلمذ على يديه, وهو كما يصفه التيمية أنفسهم بأنه " محدث وإمام حافظ, جمع بين ميزتين لم يجتمعا إلا للأفذاذ القلائل في تأريخنا، فهو يجمع إلى جانب الإحاطة الواسعة بالتأريخ الإسلامي حوادث ورجالاً، المعرفة الواسعة بقواعد الجرح والتعديل للرجال، فكان وحده مدرسة قائمة بذاتها, والإمام الذهبي من العلماء الذين دخلوا ميدان التأريخ من باب الحديث النبوي وعلومه، وظهر ذلك في عنايته الفائقة بالتراجم التي صارت أساس كثير من كتبه ومحور تفكيره التأريخي ، وقيل أنه سُمي الإمام الذهبي بالذهبي لأنه كان يزن الرجال كما يزن الجوهرجي الذهب, وكان شديد الميل إلى رأي الحنابلة، وله تصانيف في الحديث، وأسماء الرجال؛ قرأ القرآن، وأقرأه بالروايات، وقد بلغت مؤلفاته التأريخية وحدها نحو مئتي كتابًا، بعضها مجلدات ضخمة" .... هذا هو الإمام الذهبي فهو وكما يقال عنه يزن الرجال كما يزن الجوهرجي - أي صاحب الجواهر والذهب – الذهب فقد وزن ابن تيمية وأتباعه بطريقة لم يزنه احد من قبله ولا من بعده , حيث وصف ابن تيمية وأتباعه بالزندقة وذلك في رسالة وجهها الذهبي - بعد أن تاب في آخر حياته – لابن تيمية قال له فيها (( ... يا خيبة من اتبعك فإنه معرض للزندقة والانحلال لا سيما إذا كان قليل العلم والدين باطولياً شهوانياً لكنه ينفعك ويجاهد عندك بيده ولسانه وفي الباطن عدو لك بحاله وقلبه فهل معظم أتباعك إلا قعيد مربوط خفيف العقل أو عامي كذاب بليد الذهن أو غريب واجم قوي المكر أو ناشف صالح عديم الفهم ، فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل ... )) المصدر الذي أخذ منه نص الرسالة هو السيف الصقيل رد ابن زفيل- السبكي (756 ) - مكتبة زهران - ومعه تكملة الرد على نونية ابن القيم بقلم : محمد زاهد بن الحسن الكوثري - تقديم : لجنة من علماء الأزهر - ص 211- 218.... علماً أن الرسالة طويلة جداً وأخذنا منها هذا المقطع بما يناسب الطرح ... السؤال هنا لماذا وصف الذهبي ابن تيمية وأتباعه بالزندقة وبخفة العقل وقلة العلم والدين والكذب ؟ الجواب نجده في نفس نص الرسالة في الفقرة التي تسبق التي ذكرناها وهي (( والله قد صرنا ضحكة في الوجود فإلى كم تنبش دقائق الكفريات الفلسفية لنرد بعقولنا ، يا رجل قد بلعت سموم الفلاسفة وتصنيفاتهم مرات, وكثرة استعمال السموم يدمن عليه الجسم وتكمن والله في البدن ..... وجدوا في ذكر بدع كنا نعدها من أساس الضلال قد صارت هي محض السنة وأساس التوحيد ومن لم يعرفها فهو كافر أو حمار ، ومن لم يكفر فهو أكثر من فرعون وتعد النصارى مثلنا ، والله في القلوب شكوك إن سلم لك إيمانك بالشهادتين فأنت سعيد))... ومن هذا الجواب نذهب لسؤال آخر وهو لماذا يشكك الذهبي في إسلام ابن تيمية ؟ وما هي البدع والضلالات التي جعلت التيمية أضحوكة في الوجود ؟ الجواب على ذلك هو التوحيد الأسطوري المجسم الوثني الذي أسس له ابن تيمية حيث التجسيم والتشبيه والتصوير للذات الإلهية المقدسة حيث يقول ابن تيمية في (بيان تلبيس الجهمية: [1/ 325-328])... {{فالإنسان قد يرى ربّه في المنام ويخاطبه... ولكن لابد أن تكون الصورة التي رآه فيها مناسبة ومشابهة لاعتقاده في ربّه، فإن كان إيمانه واعتقاده مطابقًاً، أتي مِن الصور، وسمع مِن الكلام، ما يناسب ذلك}}. وقال أيضًا: {{وليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب يتعلق به (سبحانه وتعالى)؛ وإنما ذلك بحسب حال الرائي، وصحّة إيمانه، وفساده، واستقامة حاله، وانحرافه، وقول مَن يقول ما خطر بالبال، أو دار في الخيال، فالله بخلافه، ونحو ذلك، إذا حمل على مثل هذا، كان مَحملًا صحيحًا؛ فلا نعتقد أنّ ما تخيله الإنسان في منامه أو يقظته مِن الصور أنّ الله في نفسه مثل ذلك، فإنّه ليس هو في نفسه مثل ذلك، بل نفس الجن والملائكة لا يتصوَّرها الإنسان ويتخيّلها على حقيقتها، بل هي على خلاف ما يتخيّله ويتصوَّره في منامه ويقظته، وإن كان ما رآه مناسبًا مشابهًا لها، فالله (تعالى) أجلّ وأعظم}}. ولمن لم تتضح لديه الصورة على هذا المورد نذكر له تعليق السيد الأستاذ الصرخي الحسني على هذه الفقرة في المحاضرة الرابعة من بحث ( وقفات مع.... توحيد ابن تيمية الجسمي الأسطوري ) حيث قال ((هذا إقرار مِن ابن تيمية بصحّة اعتقادات المشركين، وتعدّد آلهتهم، وصحّة عباداتهم، فكل منهم يرى ربّه بالصورة المناسبة لاعتقاده في ربّه، فمَن يعتقد في ربّه الصنمية الوثنية، فيراه بما يناسب هذا، ويخاطبه ربّه، وهو على هذه الصورة، التي رآه فيها، ويأخذ تعاليمه وأحكامه الدينية مِن هذا الربّ الذي رآه بالصورة المناسبة لمعتقده، فتصح عبادة الأصنام، لأنّ الله (تعالى) قد أمر بها، لأنّه أتى للعبد الوثني بصورة هذا الصنم أو ذاك، فهذا هو أمر الله، وعلى العبد الإطاعة، وهكذا تصحّ عبادة مَن يعبد الملائكة، والجن، وعيسى وعزير(عليهما السلام)، وباقي الأشخاص مِن بني الإنسان, وتصحّ عبادة الصلبان، والشمس، والقمر، والكواكب، والسماء، والهواء، والأرض، والطيور، والبقر، والفيل، والثعابين، والفئران، وغيرها مِن آلهة منتشرة في كل بقاع وأصقاع الأرض، فإنّ الله قد أتى بصور وتجليات مختلفة حسب مستويات إيمان الناس .)).... فابن تيمية يدعو لعبادة الأوثان من خلال تجسيد وتجسيم الذات الإلهية وإمكانية رؤيتها بصور وأشكال مختلفة ومتعددة ويُكفر من يقول خلاف ذلك أي من يقول بعدم إمكانية رؤية الله في المنام وفي اليقظة وألف الكتب بهذا الخصوص منها كتاب " بيان تلبيس الجهمية " ومن يريد التثبت عليه المراجعة, وكان ذلك من أبرز الأسباب التي دفعت بالذهبي بأن يتوب ويصف ابن تيمية وأتباعه بالزندقة والإنحلال. المحاضرة الرابعة من بحث (وقفات مع....توحيد ابن تيمية الجسمي الأسطوري)