مصطفى البياتي
إنّ العقلَ يَحكم بقبْحِ أنْ يَترِك اللهُ الناسَ سدى بدون هادٍ وإمام، كما أنّ العقلَ يَجزمُ بأنّ الله تعالى عادل ويأمر بالعدل والإحسان قال -جلَ وعلا-:
((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) (90) النحل , كما أنّ الله تعالى لايظلم البشر((مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ))(15)،الإسراء،
وعليه فإنّ تعذيب الناس بسبب أوزارهم وفسادهم في الأرض بدون حجة عليهم يُعتبر من العَبَثيات وهذا محال على الله أنْ يُعذِّبَ عباده بدون إقامة الحجة عليهم،
ومن هنا جاء القرآن الكريم لينظِّم حياة الناس، ومخاطبًا العقول بأنّ الأرض لاتخلو مِن شاهدٍ ومبشِّرٍ ونذيرٍ وداعٍ إلى الله وسراجٍ منيرٍ.
قال -جلَ وعلا-: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46)وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا( 47 ) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا(48 )) الأحزاب.
تَمعَن أيها القارئ بأنّ هناك إشارة إلى أنّه بعد الشاهد تأتي البشرى، ومن ثُم الإنذا،ر ومن ثُم الدعوة إلى الله، وأخيرًا سراجًا منيرًا، فمن هو السراجُ المنير ؟!
مِن المعلوم أن المقصودَ بالسراج بالمصطَلَح اللغوي: هو الضياء، أي: (النورالذي يهتدي به الإنسان في الظلام) وبهذا يصح أنْ نقول: أنّ السراجَ المنير هو الضياء أو النور الذي يهتدي به الناس بعد النبي، فمَن ليس لديه نور يصيبه التيه ويصبح أعمى، ثم تأتي البشارة والفضل الكبير للمؤمنين بعد الهداية.
إذًا: نفهم من قوله تعالى أنّ هناك بشارتان الأولى عامة وهي بمجيء النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والثانية هي بعد الهداية وهي خاصة بالمؤمنين وأنّهم في فضل كبير بعد تلك الهداية ثم يكمل قوله تعالى: {ولاتطعْ الكافرين والمنافقين...} أي: (كلُّ مَن لم يكنْ مع المؤمنين في ذلك السراج فهو كافرٌ أو منافق .
قال تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۗ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) الرعد.
فليخبرنا الجاحدون والمغالِطون والمعاندون ومَن لم يستنيروا بذلك الضياء، مَن هو الهادي المقصود بهذ الآية؟! وهل هذا الهادي مقتصرٌ في زمان دون آخر أم لكل زمان هادٍ وهدى؟! وسنُثبت لكم أيها الأفّآكون أنّ لِكلِّ زمانٍ هادٍ وهداية ومِن القرآن الذي تُفسرونه حسب أهوائكم .
يقول الله تعالى في كتابه الكريم:(وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) المائدة.
إذن: هناك هدى في الإنجيل الذي سبق القرآن فلماذا أنزل الله القرآن وفيه هدى أيضًا؟!
وهذا يُثبت أنّ لِكلِّ زمانٍ هادٍ وهدى يهتدي به الناس .
قال الله تعالى:{{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ...}} سورة القدر.
فعلى مَن تنزل الملائكة في هذا الزمان ؟!
إذًا: لابد مِن نُزولِها على خليفة لله في أرضه، وهو ماأشرنا إليه بالسراج المنير الذي يتحقَّق على يده النصر والفتح ونشر راية الهدى في أنحاء الأرض
قال الله تعالى:(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا...)(73) الأنبياء.
في هذه الآية نصٌ صريح على ضرورة وجود أئمةٍ هادين في كل زمان فلو كانت تخص الماضين فما فائدة ذكرها في المقام
قال الله تعالى ((وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) القصص.
ولابد هنا أنْ نستفاد مِن تفسير واستدلال المحقِّق الصرخي بخصوص الآيَتين أعلاه، حيثُ قال: المعنى واضح في التمكين في المستضعفين وإمام المستضعفين -عليه الصلاة والتسليم-، فمتى يحصل هذا التمكين وعلى يد من؟! ولا يخفى عليكم أن فرعون وهامان وجنودهما قد ماتوا قبل التمكين، بل حتى قبل التمكين المحدود الذي حصل لاحقًا وحَكَمَ فيه أنبياء وملوك بني إسرائيل، فمتى سيرى ويشهد فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون منه من نصر الله للمستضعفين وتمكينهم في الأرض؟! لا يوجد جواب إلّا بالقول برجعة فرعون وهامان وجنود فرعون وهامان حتى يشهدوا التمكين، حتى يشهدوا النصر والفتح القريب، حتى يشهدوا ما كانوا يحذرون!!!