هشاشة التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية
كتب حسن أبو هنيّة:
لا جدال بان التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية ينطوي على هشاشة بنيوية عميقة، وقصور عملياتي ظاهر، فبعد مرور قرابة ثلاثة أشهر على بدء هجمات التحالف الدولي الجوية ضد تنظيم الدولة الإسلامية، لا يزال التنظيم متماسكا وقويا ويحقق اختراقات هامة، ويتقدم في جبهات عديدة في العراق وسوريا، فالضربات الجوية وحدها لم تحقق أهدافا استراتيجية ميدانية كبرى منذ سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل في 10 حزيران/ يونيو 2014، واقتصرت انجازاته على محاولة صد التنظيم واحتوائه ومنع سقوط إقليم كردستان ومدينة بغداد ومدينة عين العرب ــ كوباني بيده، فقد سارعت القوات الجوية الأمريكية وحلفائها بقصف مواقع وقوات تنظيم الدّولة في العراق لمنعه من التقدم وصد هجماته واحتواء طموحاته، بإسناد قوات البيشمركة الكردية، والقوات العراقية ومليشيات الحشد الشعبي، وفي سوريا لا تتمتع قوات التحالف الجوية بإسناد حقيقي على الأرض باستثناء قوات حماية الشعب الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وقوات النظام السوري، التي انضمت طائرات التحالف إلى قوات الأسد الجوية.
لقد بدأ تنظيم الدولة يتكيّف مع الضربات الجوية لقوات التحالف، وهو يتقدم في مناطق عديدة على الجبهة العراقية والسورية، حيث بدأت سيطرته المكانية أمرا واقعا في نينوى وصلاح الدين والأنبار، ونهجه بتطهير مناطق سيطرته في الرقة ودير الزور من بقايا فرق وألوية ومطارات النظام السوري أصبحت مؤكدة، كما أن مهاجمة المناطق الكردية السورية في عين العرب ــ كوباني يهدف إلى لخلق واقع جديد يحرم الولايات المتحدة من حليف كردي محتمل، وخلق فضاء جيوسياسي جديد.
تدرك الولايات المتحدة وحلفائها هشاشة التحالف، وقوة تنظيم الدولة الإسلامية، وهي تقر بصعوبة تحقيق نصر عسكري حاسم بالاعتماد على الضربات الجوية وحدها، فلا تزال الولايات المتحدة لا تمتلك استراتيجية فعالة للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، وتعتمد على ديمومة الضربات الجوية، وتقديم مساعدات عسكرية للحلفاء المحليين على الأرض، لكن معضلة الولايات المتحدة تتمثل بمعرفتها بتعقيدات الوضع السياسي في العراق وسوريا واختلاف الاجندة الدولية والإقليمية، فهي تعتمد ميدانيا على القوات العراقية وقوات البيشمركة الكردية من خلال غرفتان للعمليات والقيادة في بغداد واربيل.
تتعامل الولايات المتحدة بصورة براغماتية فجة مع خطر تنظيم الدولة الإسلامية، فهي تصر على تبني المقاربة العسكرية في حربها على "الإرهاب"، دون الالتفات إلى الأسباب الموضوعية التي أدت إلى تناميه وانتشاره، فلا زالت العملية السياسية في العراق بيد المكون الشيعي، كما أنها تصر على أولوية القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة في سوريا دون الحديث عن مصير نظام الأسد، الأمر الذي تشدد عليه المقاربة التركية كشرط للدخول بفعالية في التحالف الدولي، أما إيران فعلى الرغم من عدم ضمها عمليا إلى التحالف إلا أن الولايات المتحدة تعتبرها حليفا موضوعيا.
فالمليشيات الشيعية الموالية لإيران تقاتل إلى جانب الولايات المتحدة، فعندما وصل المئآت من عناصر الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران إلى قاعدة"عين الأسد" العسكرية غرب محافظة الأنبار، كان الرئيس الأميركي باراك أوباما يعلن عن إرسال 1500 مستشاراً عسكرياً أميركياً جديداً إلى العراق وتحديداً إلى الأنبار التي بات معظمها تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، وبهذا فإن عناصر هذه الميليشيات تعمل بالتنسيق مع عناصر الجيش الأميركي في قاعدة"عين الأسد"، وهي حاليا تتعرض لحصار شديد من قبل تنظيم الدولة الإسلامية، إذ يواصل مقاتلو تنظيم الدولة، التمدد في محافظة الأنبار، عقب السيطرة على مدينة هيت وبلدة كبيسة.
لم تتمكن الضربات الجوية للتحالف من إحراز نجاحات كبيرة بإضعاف هيكلية تنظيم الدولة الإسلامية، ولم تحقق انتصارات حقيقية باصطياد رؤوس التنظيم، فبعد أن ترددت إشاعات حول مقتل أو إصابة زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية"، أبو بكر البغدادي ظهر في تسجيل صوتي صادر عن مؤسسة الفرقان بعنوان "ولو كره الكافرون" في 13 تشرين ثاني/ نوفمبر 2014، يؤكد فيه على فشل ضربات التحالف الجوية، في الوقت الذي كان فيه الكونغرس الأمريكي يستمع لشهادة وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل ورئيس هيئة الأركان مارتن ديمبسي، إذ أكد هايغل أن ضربات "التحالف الدولي ضد التنظيم ستتصاعد مع تحسن أداء القوات البرية العراقية وكفاءتها"، قال رئيس هيئة الاركان الأميركية المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي إن العراق سيحتاج حوالي 80 ألف جندي ذوي كفاءة لاستعادة الارض التي استولى عليها تنظيم الدولة الاسلامية المتشدد واستعادة السيطرة على حدوده مع سوريا.
لقد أدت ضربات التحالف إلى توفير جاذبية إيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية وانضمام مقاتلين جدد من العراق وسوريا وغيرها من الدول العربية والإسلامية والأجنبية، كما أنها حملت جماعات جهادية وقبلية كانت تناهضها على التحالف معها أو وقوفها على الحياد بعد أن شملتها ضربات التحالف الجوية، فقد حسمت جبهة النصرة والحركات الإسلامية الجهادية في سوريا أمرها بالتعامل مع حلفاء أمريكا وشركائها المحليين باعتبارهم "عملاء"، ودخلت مؤخرا جبهة النصرة في صدام مسلح في ريف إدلب، واستولت على معاقل كل من "جبهة ثوار سوريا"، وحركة "حزم"، وباتت المنطقة تقع تحت سيطرتها التامة، الأمر الذي يعتبر خسارة فادحة للولايات المتحدة وحلفائها المفترضين في سوريا، ويكشف عن ضعف الاستراتيجية وعدم فعاليتها بتدريب قوى سورية معتدلة موالية للتحالف.
لم تقتصر عمليات دعم واسناد تنظيم الدولة الإسلامية على العراق وسوريا، بل تمدد التنظيم في بلدان عديدة وتوالت "البيعات" للبغدادي من جماعات ومجموعات وشخصيات إسلامية عديدة في مصر وليبيا واليمن والسعودية والصومال وباكستان ومعظم الدول التي تتواجد فيها الجماعات الجهادية، فالاستراتيجية الأمريكية وحلفائها في محاربة الإرهاب تتوافر على براغماتية هشة وضارة، فالاعتماد على قوى تمارس أعمالا إرهابية كالمليشيات الشيعية المتطرفة سوف يساهم في تنامي قوة هذه الميليشيات وسيطرتها على كافة أجهزة الدولة العراقية الهشة، وترسخ سياسات التهميش والإقصاء للمكون السني، كما أنها تساهم في مد النفوذ الإيراني وهيمنته المضاعفة على العراق، الأمر الذي يوفر لتنظيم الدولة الإسلامية جاذبية مؤكدة للتجنيد في صفوف السنة, ففي الوقت الذي تثبّت فيه المكونات الشيعية من سيطرتها ونفوذها في العراق وسوريا بالاستناد إلى الراعي الإيراني، ويوسع الكرد من مكانتهم واستقلالهم، فإن المكون السنّي في العراق وسوريا لا يتمتع بإسناد ودعم استراتيجي حاسم من الدول السنيّة وبهذا فإن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال تعتمد على ذات الأسس الهوياتية والسياسية الخاطئة التي تبنتها منذ احتلالها للعراق عام 2003، كما أنها لا تزال تصر على دعمها للأنظمة السلطوية في المنطقة تحت ذريعة عقيدة "الاستقرار".
لا شك بأن استراتيجية التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بالتحالف الموضوعي مع إبران والاعتماد على المليشيات الشيعية سوف يساهم بإضعاف تنظيم الدولة الإسلامية مؤقتا، والحد من بعض قدراته في المدى المنظور، إلا أن تنظيم الدولة الإسلامية قادر على ابتداع استراتيجيات جديدة للحفاظ على وجوده وإعادة هيكلته، كما حدث إبان حقبة الجنرال ديفيد بترايوس مع زيادة عدد القوات البرية وإنشاء الصحوات السنية، فالحاضنة الاجتماعية السنية قادرة على توفير شبكات دعم وحماية وإسناد للتنظيم، مالم تتم معالجة الأسباب والشروط والظروف الموضوعية التي أدت تنظيم الدولة الإسلامية وتطوّره وتمدده، وفي مقدمتها تهميش السنّة وديمومة الانتهاكات الطائفية في المدن السُنيَّة على يد الميليشيات الشيعية، كما حدث في سامراء حيث خُطِف ما يزيد عن 170 شاباً منذ حزيران/يونيو الماضي، وتنامي الخوف من ارتكاب الشيعة أعمالاً انتقامية ضد السكان السُنَّة، كما حدث في جرف الصخر حيث تم العثور في تشرين الأول/أكتوبر الماضي على مقبرة جماعية تضم 41 شخصاً قُتِلوا على أيدي الميليشيات الشيعية.
إن سياسات قوات التحالف المسندة من المليشيات الشيعية التي تواصل عمليات القتل وتمارس الانتهاكات الممنهجة ضد السنة تضع عموم السُنَّة أمام خيار تفضيل البقاء تحت سيطرة الدولة الإسلامية على عودة القوات الأمنية الشيعية إلى مدنهم ثانية، وتعصف بمحاولة بناء قوات الحرس الوطني، كما برهنت المعارك الأخيرة ضد تنظيم الدولة الإسلامية على فشل "الحشد الشعبي" وهو التسمية الجديدة للمليشيات الشيعية، والذي وصفه رئيس الوزراء حيدر العبادي بالعمود الفقري للجيش العراقي، بإلحاق الهزيمة بالدولة الإسلامية، وقد كشفتت الأحداث المتلاحقة عن حالة انعدام الثقة بين السكان السُنَّة والأجهزة الأمنية التي يسيطر عليها الشيعة، كما كشفت عن طوباوية وعقم جدوى تشكيل قوة سُنيَّة من 120 ألف إلى 200 ألف عنصر، بعد موافقة البرلمان، تحمل اسم قوات الحرس الوطني بالاعتماد على أبناء العشائر السُنيَّة بقيادة ضباط الجيش العراقي، فقد تمكن تنظيم الدولة الإسلامية من اختراق المكونات العشائرية القبلية، واعتمد استراتيجية فعالة تقوم على الرغيب والترهيب تجعل من عملية إعادة بعث تجربة "الصحوات" عملية عقيمة، وبهذا فإن استراتيجية التحالف معرضة للفشل ما دامت لا تلتفت بشكل جدي إلى الأسباب الحقيقية لبروز تنظيم الدولة وجبهة النصرة، وفي مقدمتها تهميش وإقصاء السنة وتنامي الطائفية وفشل العملية السياسية، وتكريس الأنظمة السلطوية.