هل حان الوقت لكي نفهم ؟
محمد يوسف عدس
الإنقلابيون بعقليتهم وأساليبهم القمعية الفاشية -فى السياسة و الحكم- هم أسوأ ظاهرة أبتليت بها مصر فى كل تاريخها الحديث .. دعْ عنك أكاذيبهم فهم من أكبر الكذّابين، و دع عنك وعودهم الوردية لمصر و المصريين، و موَّال العواطف الزائفة: " مصر أم الدنيا.. و أدّ الدنيا .. و بكره هتشوفوا مصر..." فتلك بعض عدّة النصب التى يجيد اصطناعها البعض من الذين يتمتعون بقدرات خاصة على التظاهر بالعواطف و اللعب بكلمات الحب ؛ و لكنهم لا يشعرون بذرة من الحب، و لا أي عاطفة أخرى سوى الكراهية و الرغبة فى الانتقام و التدمير من العدو الوهمي الذى صنعوه فى مخيّلتهم و سمّوهُ "الإرهاب" ..
و لقد علمتنا تجارب الدنيا أن الذى يكثر من الحَلِفِ بالله و يحنث فى حلفه لا يُنتظر منه أن يصدق فى كلامه أو يحقق وعوده أو يلتزم بعهوده .. و هذا ما شاهدناه و تحققنا منه .. كذلك ينبغى أن نصرف النظر عن من يفخر بالانتساب إلى مؤسسة الجيش و أنها مؤسسة كبيرة (مش عارفين أد إيه..!) و أنها لا بد أن تنجح ؛ و ذلك لأسباب ثلاثة على الأقل:
أولها- أنه لم يقل لنا لابد أن تنجح (فى ماذا)..؟. و ظن الجُهال و السذج من الناس أنه يقصد النجاح فى إصلاح حال مصر.. و لكنه كان يضمر شيئا آخر.
ثانيها- أنه و بطانته قد انحرفوا بالجيش عن مهمته الصحيحة فى الدفاع عن حدود مصر و شعبها، و اتخذوه أداة لقمع الشعب و ترويعه و ذبح أبنائه؛ لقد نجحوا فى توريط الجيش فى قتل المواطنين السلميين و تعذيبهم .. و فى تدمير سيناء و قصف منازلها و تهجير أبنائها تهجيرًا قسريًّا .. لا لمصلحة مصر كما يزعم لهم الإعلام الفاجر، و إنما لحماية أمن إسرائيل، و تنفيذ مخططها فى إخلاء سيناء من السكان، تمهيدا لتحقيق أملها فى إقامة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.. و ما يقوم به الجيش فى سيناء هو الذى شجع إسرائيل لتسارع فى خطاها نحو الاستيلاء على المسجد الأقصى كخطوة لهدمه، و بناء الهيكل المزعوم على أنقاضه..
ثالثها- أنهم استخدموا اسم الجيش و الأمن القومي ذريعة للاستيلاء على أراضى الدولة فى مناطق شاسعة بسيناء و منطقة السويس و مناطق أخرى .. و حتى الاستيلاء على الطرق السريعة و الموانئ لجباية أموالها و تحويلها إلى خزائن مجهولة لا سلطان لمؤسسات الدولة الرقابية عليها .. و حرمان الشعب من ممتلكاته العامة لصالح جمهورية الضباط المستقلة ..
و لكن الرجل فى لحظات اندفاع و هو يواجه الواقع الكارثي الذى لم يحسب حسابه قط؛ حيث تفاقمت مشكلات الشعب الحياتية، و تزايدت الشكوى و ارتفعت صيحات المطالب من حوله .. أفلتت منه عبارة كاشفة أطاحت بقناع إمبراطرية الدجل.. ضرب كفًّا بكفّ و قال: أجيب منين...؟ مفيش .. معنديش..!! و قال: مصر محتاجة مئة مليار جنيه ..!! و أنه لن يعطي و لكنه سيأخذ و لازم هتدفعوا يعنى هتدفعوا...!
و من لحظتها انطلقت مشروعات جباية الأموال على أوسع نطاق باسم التبرع من أجل مصر...!.
و لا أحد يعرف أين تذهب هذه الأموال التى لا تُجمع إلا من الفقراء و من الطبقة المتوسطة فقط .. أما الأغنياء السوبر فقد أُعفوا من هذه التبرعات القسرية .. بل أُعفوا من تسديد مستحقات الضرائب التى تهربوا من دفعها عبر عقود مبارك كلها و هي تبلغ عشرات المليارات.. و أحد هذه الأمثلة ساويرس و أسرته ..
ليس هذا فقط و لكن تعاون الانقلاب مع القضاء الفاسد على إغلاق الباب نهائيا على فرصة استعادة أموال مصر المنهوبة و المهربة إلى الخارج، بضربة واحدة .. غفل الناس عن مغزاها و تداعياتها؛ فلم يلتفتوا إليها إلا من ناحية ضياع العدالة و حقوق الشهداء و ذويهم؛ و أنا أقصد تبرئة مبارك و جميع رجاله من التهم التى وُجهت إليهم فى المحاكم و منها سوء استخدام المال العام .. و الترَبُّح من أموال الدولة و تهريبها إلى الخارج.
تسأل : و ما علاقة هذا بالموضوع..؟ و أقول لك: الدول و البنوك.. حتى التى اعترفت بأن هناك أموالا لديها مودعة بأسماء هؤلاء .. و قامت بالفعل بتجميدها .. كان شرط استردادها هو ثبوت تهمة السرقة و سوء استخدام المال العام على أولئك الذين نعتبرهم لصوصًا .. و أن تكون الأحكام فى محاكم محترمة و بأدلة دامغة.. و هذا كله نسفته أحكام البراءة .. لا عن غفلة و جهل و لكن عن قصد و تدبير..
و كانت لجنة تقصِّى الحقائق التى أقامها محمد مرسى قد وصلت فى بحثها إلى أدلة على جرائم مبارك و رجال نظامه .. بهدف إعادة محاكمتهم و إثبات جريمة السرقة ونهب المال العام و سوء استغلال النفوذ فى التربّح و تهريب الأموال خارج مصر..
و لكن الانقلاب أهال التراب على اللجنة و على الحقائق التى توصلت إليها و نسف كل ما جاء به محمد مرسى و ما اعتزمه و قدمته للمحاكمة هو و رجاله..
أخلص من هذا كله إلى أن الانقلاب العسكري لم يفاجأ بشيء و لكنه جاء لتنفيذ مخطط معين ليس فيه على الإطلاق مشروعات إصلاح و لا تنمية و لا تحقيق عدل و لا عدالة اجتماعية .. و لا يعبأ بأي خرافة من هذه الخرافات التى تعشش فى عقول السذج و المغفلين من الشعب الذى فوضه و صفق له .. و تآمر معه إما عن جهل و إما عن خسة و نذالة..
كان السيسى صادقًا كل الصدق عنما أطلق عبارته: "مفيش ما عنديش .." فقد كان يبشّر بسياسة جديدة .. و يكشف لنا –ربما بغير قصد- عن مهمة منظومته الانقلابية ؛ فلا يستطيع عاقل أن يتجاهل حقيقة أن مصر فيها ثروات و خيرات و إمكانات كبرى يمكن استثمارها و تنميتها .. بعد أن تتمكن الحكومة الشرعية المنتخبة – كما كنا نأمل- من تحقيق أهداف الثورة و التنمية ..
على غرار ما حدث فى تركيا أربكان و أردوغان من بعده ؛ فقد استطاعت تركيا، و تستطيع مصر النهوض من كبوتها و تحقيق ازدهارها بإمكانياتها و مواردها الخاصة، و ذلك بإغلاق أبواب النهب و الاحتكار و اللصوصية .. و إنهاء الاستحواذ على الأراضى بغير وجه حق.
و قد شاركت إمبراطورية قيادات الانقلاب العسكري فى جميع هذه العمليات على أوسع نطاق؛ فهي قائمة على نفس الأسس التى قام عليها رأس المال المحتكر و على الأموال و الأراضى المنهوبة .. بقوانين و قرارات سيادية فى غيبة كاملة من البرلمان و من الرقابة التى يمثلها نواب الشعب و مؤسساته الرقابية..
لا بد أن نعترف بأن الثورة المضادة قد انتصرت مرحليًّا .. و أن هناك من يقف ضد تغيير أي شيء فى مصر لصالح الطبقات الفقيرة، و المحافظة على حقوقها و تمكينها خلال المؤسسات الديمقراطية من الوقوف بحزم ضد عمليات النهب و التى كانت جارية فى مصر عبر عقود طويلة من الفساد فى ظل أنظمة استبدادية قمعية.. استباحت كل شيء فى مصر ..
هناك من يقف ضد أي بادرة أمل فى أن تتحقق العدالة و العدل الاجتماعي و الكرامة الإنسانية و الحرية لهذا الشعب التعيس .
و قد حان الوقت لنعترف أن الانقلاب العسكري يساعد فى تنفيذ هذه المهمة و الحفاظ على مصر و الوطن العربي كله فى قبضة التبعية للأجنبي .. و تسخير جيشها و قواها لخدمة المشروع الصهيوني-الأمريكي فى المنطقة .. و من لا يستطيع أن يستوعب هذه الحقيقة فلن يفهم السناريو التخريبي الذى يجري فى سيناء بصفة خاصة، بل لن يفهم شيئًا مما يجرى فى مصر كلها على الإطلاق .
أما أن ينجح هذا المخطط أو لا ينجح فتلك قضية أخرى تماما...!!
myades34@gmail.com