كتب محمد الدخاخني:
طه عبد الرحمن، السياسة والترجمة: أي معنى للإبداع؟
لعلّ الفائدة الكبرى للمغربي طه عبد الرحمن تتمثّل في قدرة كتاباته على اجتذاب جانبٍ لا بأس به من الجسم الإسلامي، ما نتج عنه تغذية هذا الجسم بمادة جديدة هي الفلسفة، وقد ظلّ الإسلاميون من قبل حبيسي الأدبيات التراثية أو الحركية.
ولم يقرّ الواقع لأحد بهذا المنجز مثلما أقر لعبد الرحمان (كما يكتبها المغاربة). فأبو يعرب المرزوقي، مثلًا، بقِيَ تأثيره محدودًا في تونس والمغرب، وعلى وجه الخصوص عند النُخب الإسلامية المثقفة فيهما، كما أسهمت مناوشاته الإعلامية وسلاطة لسانه في زيادة شعبيته السياسية أو الحركية، لكن على حساب رصيدِه الفلسفي والفكري. في الوقت الذي اكتسب فيه عبد الرحمن احترامًا وتقديرًا من شتى المثقفين، وقد تسبّب في منحه هذه المكانة عوامل كثيرة من بينها عزوفه عن الإعلام وعدم تعليقه على الأحداث السياسية وأخلاقه الرفيعة في الحوار[1]، ولم يقلّل موقفه الفكري من الثورة (فهو يرفض الثورة كأداة للتغيير[2]) من إعجاب شباب الإسلاميين به واحتفائهم بمؤلفاته.
على الرغم من اختلاف التقييمات حول مشروعه، وهو الاختلاف الذي يصلُ إلى جواز إطلاق عبارة “مشروع فلسفي” على كتاباته من عدمه، يظلّ عبد الرحمن أهمّ كاتب مسلم سنيّ، في العصر الحديث، يسهم في نزع الذنب عن الفسلفة، وفي تغذية الإسلاميين بالدرس الفلسفيّ.
فالكتابة الفلسفية في العالم العربي ظلت محصورة طوال القرن المنصرم عند العلمانيين، كما أن جمهور هؤلاء بقي علمانيًّا في مجمله، حتّى هؤلاء الذين تناولوا موضوعات التراث، لم يكن الجمهور الإسلامي من بين متابعيهم أو قرّائهم. وفي العالم الإسلامي، كان لمتفلسفةِ الشيعة المعاصرين، مثل مرتضى مطهري ومحمد باقر الصدر وسيد حسين نصر وعبد الجبار الرفاعي، الإسهام الأكبر. للأمر أسباب كثيرة يطول شرحُها، لكن أردت فقط أن أشير إلى الموقع الذي يتميّز به طه عبد الرحمن عن غيره.
من هنا يكتسب هذا الكاتب أهميته، وأهمية متابعة أعماله وتأثيرها على النُخب الإسلاميّة عمومًا والشابة منها -في المغرب العربي والخليج ومصر- على وجه الخصوص.
لكن، هل هذا “التهافت الإسلامي” على كتابات عبد الرحمن، يعني أن الرجل يُذكي الروح النرجسية في الإسلاميين، كما هو حال معظم الكتاب ذوي النزعة الإسلامية في العالم العربي؟
من الجيد البداية بهذا السؤال. على العكس تمامًا، يعدّ هذا الفيلسوف المغربي واحدًا من أكثر نقاد الفكر الإسلامي المعاصر والحركات الإسلامية جذرية، بل لا نبالغ حين ندعي أن “أجندته الفكرية” تستهدف، ضمن ما تستهدف، الإسلام السياسي وتفكيره في التراث والواقع.
فـ”روح الدين” (2011)، أحد أهم أعماله، يشتغل بالأساس على فكّ عُرى الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، السني منه والشيعي، عن طريق نقد مقولات المودودي وسيد قطب والخميني والقرضاوي، بل ويمتد الأمر إلى بعض “التقدميين” كالسيد حسين فضل الله، ومن خلال تفكيك ما هو معتاد حول مفاهيم الدولة الإسلامية والحاكمية وولاية الفقيه وشعار “الإسلام دين ودولة”[3] المعتمد من قِبل الإسلاميين.
ونستطيع أن نعدّ كتابه المذكور أعلاه بمثابة فلسفته السياسية، وهو يقوم على الإعلاء من قيمة التزكية، وهي مفهوم مركزي في الإسلام تناولته جميع الفرق الإسلامية بالبحث وعلى رأسها الفرق الصوفية، ومن خلال مفهوم التزكية وتزويده بحمولة أخلاقية كبيرة[4]، يقدم عبد الرحمن أطروحة في العمل السياسي والمقاومة السياسية.
وهو إذ يرى أزمة التفلسف العربي في انعدام الإبداع؛ فـ”ليس في الأسئلة عن الفلسفة الإسلامية العربية سؤال يشغل البال ويستحق الجواب مثلما هو السؤال عن قدرتها على التجديد وقدْرها من الإبداع”[5]، يرى أيضًا أزمة الفكر السياسي الإسلامي والعربي متمثّلة في انعدم الإبداع، يقول: “فأمام فقدان القدرة على الإبداع من الداخل ووجود الضغوطات والإملاءات بالاتباع من الخارج، ما كان ليخطر على بال القائمين على الدولة المشتبِهة[6] إمكان إدارة هذا التنافس في الدين، فضلًا عن اختراع مثل هذه الآليات، بَلْهَ تطبيقها وترويجها في الساحة العامة”[7]. والدلالة التي يمكن أن نستخلصها من ذلك أن جوهر المنظور الذي ينطلق منه عبد الرحمن هو الإبداع أو الابتكار، وليس الأصالة أو التراث أو المعاصرة أو التقدم. لكن، الإبداع بأيّ معنى؟
في أطروحته “فقه الفلسفة”، وهي من جزأين: الفلسفة والترجمة (1996)؛ والقول الفلسفي (1999)، يقعّد عبد الرحمن لعلمٍ جديدٍ هو فقه الفلسفة، وهو علم يتخذ من الفلسفة والظواهر الفلسفية موضوعًا له، ويساعد المتفلسف على الإبداع الفلسفي، وهو ليس فلسفة الفلسفة ولا ما بعد الفلسفة ولا يمتّ بصلة للهرمنيوطيقا أو لحفريات فوكو وتفكيكيات دريدا[8]. وبأخذ ما سبق في الاعتبار، تناول المؤلِّف العلاقة بين الترجمة والفلسفة من منظور فقه الفلسفة في الجزء الأول من أطروحته.
في البداية، يستعرض عبد الرحمن التمييز بين الفلسفة والترجمة، ويرى أنّ الأخيرة تخضع للتحيزات الأيديولوجية واعتبارات الخصوصية وأولوية اللفظ على المعنى، على عكس الأولى التي تتبنى العقلانية والشمولية والمعنوية، ويدلّل على ذلك بالتأثيرات الدينية المسيحية التي لحقت بعمليات ترجمة الفسلفة، ومن بينها قصة برج بابل في التوراة التي تفيد التشظي الدلالي وعملية ترجمة الإنجيل التي كرّست مفهوم الوساطة، ما نتج عنه وقوع المترجمين في قبضة الأبعاد الأيديولوجية؛ وهو ما أثّر على نقلة الفلسفة من العرب، هؤلاء الذين نقلوها عن السريان المسيحيين[9].
ومن ثَمّ، يظهر أن مشكلة الفلسفة، واستقلالها وإبداعها، في المجال العربي هي مشكلة ترجمة بالأساس[10]. لكنه، فيما بعدُ، يعمل على الوصل بينهما، بين الفلسفة والترجمة، فينتهي إلى كون الترجمة تتصف بالخصوصية واللفظية والفِكرانية (الأيديولوجية) والاستقلالية؛ وكون الفلسفة تتصف بالنموذجية والقصدية والاتساعية والاتصالية.
وفي حال بقي التعارض بين الفلسفة والترجمة على تمامه، سميت “الترجمة التحصيلية” أو “الترجمة المضيّقة”، وفي حال ارتفع بعضه سميت “الترجمة التوصيلية” أو “الترجمة المجرّدة”، وفي حال ارتفع كله سميت “الترجمة التأصيلية” أو “الترجمة الحية”، وهذه الأخيرة هي ما يدعو وينظّر له المؤلف[11].
وفي اختصاره لتعريفها يقول: “الترجمة التأصيلية […] تشتغل في نقل ما تثبت لديها موافقته لضوابط المجال التداولي المنقول إليه: اللغوية والعقدية والمعرفية”، ويقول: “وعلى هذا، فإننا مطالبون بأن نقوم بترجمة تأصيلية… تمكننا من النهوض بالتفلسف… على أتم وجه، ولا يشترط أبدًا في هذا التفلسف أن يكون مطابقًا […]، ولا محاكيًا لما أتى به النقاد […]؛ فالفلسفة، كما هو معروف، ليست جملة ملعومات محددة ينبغي أن نحفظها عن الغير […]، وإنما هي طريقة يتحقق بها الارتياض في الفكر والاتساع في العقل؛ وما لم نحصل بغيتنا من هذا الارتياض الفكري والاتساع العقلي فيما ننقل عن الغير؛ فإن ضرر المنقول على الفلسفة يكون أكثر من نفعه […] والشاهد على ذلك ما نحن فيه من حال التخبط الفكري والضيق العقلي، التي لا نحسد عليها ولا نعرف الخروج منها؛ لذلك، ينبغي أن لا يقوَّم التفلسف بما نحصله من المنقول تحصيلًا، ولكن بما نحوله منه تحويلًا”[12].
فمن خلال التأكيد على بُعد الأيديولوجيا (العقيدة)، وبعد الخصوصية (المعرفة)، وبعد اللفظ (اللغة)، ضمن بوتقة ما يسميه بـ”المجال التداولي”، توصّل عبد الرحمن إلى ما يراه ترجمة مستقلة ومبدعة (الترجمة التأصيلية). وانتهى إلى ترجمة الكوجيطو الديكارتي، “أنا أفكر، إذن، أنا موجود”، بـ”انظر تجد”.
فهل هي حقًّا كذلك؛ أي ترجمة مبدعة؟
نشير، أولًا، إلى أن التراث الإغريقي، من سقراط إلى أرسطو وأفلوطين، قد مثل تحديًا، ليس للمسلمين فحسب، ولكن من قبلهم المسيحيين واليهود، فهم أيضًا أرادوا التوفيق بين الفلسفة والنصّ، خاصة في مسألة الخلْق، ومعظم الفلسفات المسيحية الشهيرة أتت بعد الإسلام وليس قبله. وعلى العكس، تعدّ فلسفة توما ألاكويني في الكثير من جوانبها، خاصة مسألتي الخلْق والعقل لديه، من أصل سيناوي (نسبة إلى ابن سينا)، ونكاد نجد اتفاقًا على هذه النقطة بين المتخصصين في فكره، وتأثير ابن رشد في الفلسفة المسيحية معروف[13].
وإذا كانت الترجمة الغربية تظهر أحيانًا كعملية تصحيح أو تصويب أو استحواذ على عقائد الآخرين، بحيث تفقد المفاهيم مدلولاتها ومعانيها الأصلية، كما يشير إلى ذلك طلال أسد[14]؛ فإن محاولة طه عبد الرحمن لا تقلّ عن ذلك استحواذًا وتفتيشًا، فالتعامل بمشرط العقيدة ومقصّ اللّغة وإِبرة المعرفة مع المنقول الفلسفي يؤدي إلى مراقبة ومعاقبة للذهنية الفكرية وإلى استقالة من التفكير نحو “ثالث مرفوع” لا يستحوذ فيه الغربي ولا العربي، ولا يمارس أحد فيه محاكم تفتيشه على الآخر. وبالتالي، محاولة عبد الرحمن -في “فقه الفلسفة” وما تفرع عنها من “ترجمة تأصيلية”- لا تبدو مبدعة ولا مقاومة، بل ضرب من دعاوى موت الفلسفة، وهي الدعاوى التي لم تنقطع، فمرة الوضعية المنطقية، ومرة اللسانيات، ومرة الإنسانيات… وها هو عبد الرحمن يضيف إسهامًا جديدًا هو تشكيلة موتات للفلسفة، إلى أن تنتهي في صندوق “المجال التداولي”.
بهذا تبدو عبارة علي حرب “فقه الفلسفة: محو الفلسفة” شديدة التعبير عن واقع أطروحة عبد الرحمن، فما فعله في الكوجيطو ليس محض تغيير للحمولات، لكن تحريف وتصحيف وتمزيق له، من خلال تحميله بدلالات صوفية وعرفانية لا يحتملها بحال.
إن ترجمة عبد الرحمن للكوجيطو الديكارتي فيها الكثير من المصادرة على المطلوب الديكارتي، فليس الأمر متعلّق بلعبة لغوية ضمن مجال تداولي لثقافة معيّنة، بل الكوجيطو ليس سوى أفق تفكير افتتحه ديكارت ليدشّن براديغم الوعي؛ الأمر الذي سيمثّل حدثًا فلسفيًّا في أفق الفلسفة الأوروبيّة ولن يتم تجاوزه إلّا من خلال براديغم اللغة الذي استعاض تحليلية العالم من الوعي الإنساني بـ العالَم، للدخول في علاقة هرمنيوطيقية بين الإنسان والأشياء. أعني، أنّ ترجمة عبد الرحمن نقلت الكوجيطو من أفق الوعي لأفق صوفيّ يختلف جذريًّا، فنحن نعلم أنّ “انظر تجد” هي مقطع من بيتٍ صوفيّ لابن عجيبة يقول فيه: “يا تائهًا في مهمهٍ عن سرّه/ انظر تجد فيك الوجود بأسرِهِ”.
وكما بدا عبد الرحمن مثاليًا في أطروحاته الفلسفية حول الترجمة والمفهوم، بدا مثاليًا كذلك في فلسفته السياسية؛ فالرجل الذي يريد مجالًا تداوليًا يعمل كمصفاة لما هو منقول ووافد، هو نفسه الذي يشتغل على مفاهيم السلطة وعلاقاتها بمثالية شديدة. لكن من أين يستمد مثاليته؟ وهل هي ألمانية أم صوفية؟ هذا سؤال إجابته في قلب مشروع طه عبد الرحمن الفكري: الأخلاق.
الهوامش
[1] يأتي دليلًا على ذلك كلامُ اللبناني علي حرب في خضم حواره مع طه عبد الرحمن حول كتاب الأخير “فقه الفلسفة”. انظر/ي: علي حرب، الأختام الأصولية والشعائر التقدمية: مصائر المشروع الثقافي العربي، ط1 (الدار البيضاء؛ بيروت: المركز الثقافي العربي، 2001).
[2] يقول: “أما الثورة، ولو أن الجماهير قد تقودها فالغالب فيها سفك الدماء؛ إن لم يحصل هذا السفك، على نطاق واسع، في بدايتها، فإنه يتخلل، على فترات، مسارَها، اجتثاثًا لعناصر النظام القديم أو تصفية للمتنافسين […] فحتى لو افترضنا جدلًا أنها قد تتخذ أحيانًا شكلًا سلميًا، فإن قادتها يظنون أن التحويل الجذري للمجتمع الذي ينشدونه يمكن أن يقع دفعة واحدة بمجرد انتزاع مواقع السيادة من أصحابها”. انظر/ي: طه عبد الرحمن، روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية، ط2 (الدار البيضاء؛ بيروت: المركز الثقافي العربي، 2012)، صص 290-291. وهو يرفض الثورة عنيفة كانت أم سلمية والتمرد والانقلاب، ويدعو إلى المقاومة الوجدانية والتدرّج والسِّلم.
[3] بخصوص نقد طه عبد الرحمن لشعار “الإسلام دين ودولة” ومقارنة مع نقد عبد الله العروي للشعار نفسه، راجع/ي مقالي: “الإسلام دين ودولة”: في نقد الشعار. في:
http://www.noonpost.net/content/370. [4] تحتل الأخلاق المكانة الكبرى في كل أبحاث عبد الرحمن، وهو لا ينفك يؤكد عليها في كل أطروحاته، تمامًا كما ينفك يؤكد عن صلتها الوثيقة بالدين. راجع/ي كتابه: سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية (الدار البيضاء؛ بيروت: المركز الثقافي العربي). ومن المفيد قراءة مقال فهمي جدعان: الأسس الدينية والفلسفية للقيم الأخلاقية (مجلة ألباب: ع. 1، صص. 12-23).
[5] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: الفلسفة والترجمة، ط1 (الدار البيضاء؛ بيروت: المركز الثقافي العربي، 1996)، ص. 49.
[6] يُلقي عبد الرحمن استعارة “الدولة المشتَبِهة” على الدولة التي تجمع بين المقتضيات العلمانية للحداثة والمقتضيات الإيمانية للدين.
[7] طه عبد الرحمن، روح الدين، ص. 332.
[8] راجع/ي: طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: الفلسفة والترجمة، صص. 11-47.
[9] والشيء بالشيء يذكر، فعبد الرحمن يؤمن في سيطرة اليهود على الفكر الفلسفي المعاصر، ويقول كلامًا يوغل في التفكير التآمري. انظر/ي كتابه: الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، ط2 (الدار البيضاء؛ بيروت: المركز الثقافي العربي، 2006)، ص. 60 وما بعدها. وقد كتبه عام 2001 أي في أعقاب الانتفاضة الفلسطينية، ويبدو تأثيرها واضحًا على الكتاب.
[10] المصدر نفسه، صص. 59-102.
[11] المصدر نفسه، الباب الثاني.
[12] المصدر نفسه، صص. 467-468.
[13] راجع/ي مثلًا:
Etienne Gilson, the Spirit of Medieval Philosophy (USA: University of Notre Dame Press, 1991).
Anthony Kenny, Medieval Philosophy (USA: Oxford University Press, 2005).
[14] انظر/ي: قيس ماضي فرّو، المعرفة التاريخية في الغرب: مقاربات فلسفية وعلمية وأدبية، ط1 (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013)، صص. 215-221 (مشكلة “ترجمة” المفاهيم من ثقافة إلى أخرى).