ويحكم هبوا!
للأستاذ محمود محمد شاكر
أيتها العرب! أيها المسلمون!
إنكم لا تغلبون اليوم عن قلة، و لأن كتب الله عليكم أن تغلبوا فإنما تغلبون بإثم ما اقترفت نفوسكم، و ما اجترحت أيديكم، و ما فرطت عقولكم، و ما نسيت قلوبكم، و ما أضعتم من حق تؤدونه لأنفسكم و أسلافكم و ذريتكم، و والله ما أراكم تغلبون عن جهالة فقد وهبكم الله عقولاً راجحة، و نفوساً حرة، و عزائم قد أذلت لكم أعناق الأمم منذ كان لكم في الأرض شأن يذكر.
و أن الله مبتليكم بمحنة لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة، بل هي محنة لعامتكم و خاصتكم في نواحي الأرض، فإن أحكمتم الرأي و صدقتم العزم، و عرفتم عدوكم من صديقكم – و لا أرى لكم في هذه الدنيا صديقاً - فقد آن لكم أن تنهجوا للبشرية منهجاً مستقيماً و صراطاً سوياً. فلا تقولوا إنما نحن ضعفاء، فالضعيف من ظن في نفسه الضعف و إن كان أقوى الأقوياء، و لا تقولوا إنما نحن جهلاء، فالجاهل من استهزأ بالعلم و تهاون في طلبه و أن كان أعلم العلماء، و لا تقولوا إنما نحن فقراء، فالفقير من جهل أن الله قد آتاه العزم و الجلد و العقل، و إن كان أغنى الأغنياء. فاصدقوا أنفسكم و ثقوا بالله الذي امتحنكم بهذه المحنة، فإنه ناصركم على عدوكم، و مخرج لكم من خبء أنفسكم خيراً كثيراً قد غاب عنكم و عن الناس دهراً طويلاً. و إياكم و الخوف فأنه الآفة الملتهمة، و ما استشعر الخوف عزيز إلا ذل، و لا قوي إلا خار، و لا أبي إلا تضرع لكل خسف يراد به.
انظروا! فهذه فلسطين قد اجتمعت الأمم على أن تمكن فيها لأنذال يهود مكاناً يتبوأه طغاة المال و طواغيت الفجور و أبالسة الشر، و قد اخذوا يمدونهم بالمال و السلاح ليقهروكم و تكون لهم الكبرياء في هذه الأرض.
و انظروا! فهذه دولة الباكستان قد اجتمعت فيها كلمة المسلمين على أن يكونوا أمة عدتها مئة مليون، فإذا عباد البد (بوذا) قد دمروا عليهم من كل مكان يذبحونهم و يقتلونهم و يفتكون بالنساء و الأطفال، و يهتكون أعراض الحرائر، و يدخلون على المصلين في مساجدهم فيضعون السيوف على رقبهم و الخناجر في ظهورهم، و يغتالون الآلاف من الآمنين، و الدنيا كلها تسمع و تبصر، فلا تجد فيهم منكراً و لا مستبشعاً و لا معترضاً على ضراوة عباد البد.
و انظروا! فهذه إندونيسيا تجمع هيئة الأمم متحدة على تركها فريسة للطغاة البغاة من شر ذمة الخلق الذين يسمون بالهولنديين. و يزعمون لكم أن مجلس الأمن قد أمر بوقف القتال، فإذا هولندا تضرب صفحاً عن حكم هذا المجلس، و توغل في تقتيل هؤلاء المساكين بالنذالة المعهودة في المستعمرين الذين لا يفرقون شيئاً بين هؤلاء البشر و حيوان الغاب، بل لعلهم بحيوان الغاب أرحم، و عليه أحرص، إبقاء على جلده أو فروه مما يرتفقون به في صناعة أو تجارة.
و انظروا! هذه بلاد المغرب من حدود مصر إلى أطراف المغرب الأقصى قد ضربت عليها فرنسا بالأسداد، و حمت عنها كل بارقة من خير، و سامت أهلها عذاب التقتيل و الاضطهاد، و سلبتهم كل قوة تتيح لهؤلاء الأبطال الصناديد أن يعيشوا في بلادهم عيشة الكفاف، و شردت كل من دعا قومه إلى المطالبة بالحق المغصوب، و أراغت أن تجعل هذه البلاد الشريفة ذيلاً ملحقاً بالجمهورية الفرنسية.
و انظروا! فهذه مصر و السودان قد فغر لها الوحش البريطاني يريد أن يقضم السودان قضمة واحدة ليجعله قطعة من أوغندة و جنوب إفريقية، و يدع مصر ترعه إن شاء منع عنها الماء حتى يقتل أهلها جوعاً و ظمأ، و قد قضى في ديارنا أكثر من خمس و ستين سنة حتى هدم كيانها. و سلط عليها لصوص الأجانب و اليهود، حتى ما تكاد تجد مصر حيلة في سن القوانين التي تحمي بلادها من استبداد اللص الطارئ بصاحب البلد المقيم.
انظروا لكل بلد تنطق فيه العربية، أو يذكر فيها أسم الله مقروناً باسم محمد صلى الله عليه و سلم، تروا حرباً تشن على أهل العربية و الإسلام بلا هوادة، و بأوقح الأساليب و أخفاها:
أيتها العرب! أيها المسلمون!
أنها الحرب. أنها المذابح! أنها الحالقة التي أجمعت أمم أوربة و أمريكا أن تستأصل بها قوتكم و تجعلكم عبيداً أذلاء في أرض الله. أنها الفتن المظلمة التي أطبقت عليكم من كل مكان، فجعلت إخوانهم، جهلاً و عناداً و تقليداً و سوء رأي. . .
أنه لم يبتل قوم في تأريخ هذه الدنيا بمثل ما ابتليتم به، فقد مضت القرون و أنتم في غفلة عن عدو قد استفحل أمره و استوت قوته و استمر مريرة، فدخل عليكم بلادكم فاستعبدكم فيها و حاربكم بعلمه و جهلكم، و قوته و ضعفكم، و اجتماع كلمته و تخاذلكم، فلما أفقتم من الغفوات الطويلة لم تجدوا في أيديكم مالاً و لا سلاحاً و لا علماً، فليس لكم منذ اليوم إلا الشيء الذي هو أقوى من المال و السلاح و العلم: الإيمان بحقكم، و الصبر على لأواء هذه الحرب الضروس. فآمنوا و اصبروا، فأن قوة الإيمان وحدها تدمر حصون البغي، و تدفعكم إلى طلب المال و السلاح و العلم، و تطهر قلوبكم من كل ضعف، و لا تأسوا على قتيل في هذه الحرب، فأن كل دم يراق من دمائكم إنما هو غيث تغاثون به يغسل عنكم أدرانكم، و يسقي ثرى جف، فينبت لكم أبطال الوغى و صناديد القتال في كل ميدان من ميادين هذه الحرب.
أيتها العرب! أيها المسلمون!
اطلبوا المال من وجوهه، و دبروا أمركم في حياتكم، فأن المال قوة غاشمة تضارع أقوى قوى الطبيعة التي لا يقف دونها شيء. اطلبوا السلاح من حيث استطعتم، فأن السلاح ناصر من لا ناصر له إلا قوته، فأنشئوا المصانع و المعامل و أخفوا أمركم حتى لا يطلع عليه العدو الذي يعيش بين ظهرانيكم من الأجانب و اليهود. و اطلبوا العلم حيث استطعتم، فالعلم حياة أبن آدم، لا حياة له بدونه، و هو عون المال و السلاح و الحافظ عليهما و القائم بأمرهما. و كل طالب علم فهو مجاهد في سبيل الله و في سبيل أهله و بلاده، فلا تفتروا عن طلبه. و ليعلم كل طالب علم أو مال أو سلاح أنه إنما يفعل ذلك لأمرين: أولهما تحقيق معنى الكرامة الإنسانية، و الآخر تحقيق الحرية لبلاده و أمته.
أيتها العرب! أيها المسلمون!
لست أكتب لكم لتقرأوا، و لكني أنذر قومي في ساعة لا ينبغي للمرء فيها إلا أن يصدق أهله. أنذركم بعداوة الأمم لكم و لمجدكم و تاريخكم، فرببوا لهم أضغانكم و غذوها و حوطوها، و نشئوا صغاركم على بغض هذه الأمم التي حشدت لكم عصبية الجاهلية، و عصبية الصليبية، و عصبية الاستعمار، و عصبية الألوان. أرضعوا كل مولود لبان الأضغان و الأحقاد على هؤلاء الطغاة، و أمروهم أن يعيشوا في هذه الأرض لشيء واحد هو أن يقاتلوا أهل البغي و العصبية حتى تستأصلوا هذه الشأفة الخبيثة من أرض الله التي أورثهم إياها قائمين بالقسط و العدل و الرحمة و إيتاء كل ذي حق حقه. و إنه لا ينجيكم من هذه البلية إلا أن تتمرسوا بصدق العداوة، فهي التي توقظ فيكم كل عزيمة غافلة، و تهديكم إلى مواطن الضعف في نفسه كان خليقاً أن يصاب منها، و من عمى عن مكامن الغدر في نفس عدوه كان قميناً أن يرتكس في مهاويها. لقد فضح الصبح أعداءكم و أضاء لكم عن خبايا قلوبهم، فلا يكن أمركم عليكم غمة، فأنتم بين اثنتين: إما المكاشفة بالعداوة السافرة في غير مداورة أو سياسة، و إما أن ترضوا لأنفسكم أن تصيروا طعمة لهذه الأمم الباغية على الشر ذمة اللئيمة من إسرائيل. و ما أظنكم ترتضون الثانية، فليس لكم إلا الأولى.
أيتها العرب! أيها المسلمون!
لقد انقضت دهور و أنتم تساقون إلى قدر لا يعلم غيبه إلا الله، فاستبد بكم قوة أولى ضرار و بأس شديد، فأفسدوا قلوب جمهرة من أبنائكم و ذراريكم، فنشأت تحت ظلال هؤلاء الطغاة ناشئة من أنفسكم تعاظم أمرها، و صار لها فيكم مكانة تتبوأها، و كل ذي مكانة أو سلطان أو ثروة فهل ملئ بأن يخدع الجماهير، و هم أسرع إلى طاعته و متابعته فيما يخدعهم به، فاحرصوا على ألا تتبعوا الرجال على أسمائها بل اتبعوا الهدى و إن جاءكم على يد المحتاج الراغب، و تبينوا المدلس عليكم من الناصح لكم. و لا تقولوا هؤلاء سادتنا و كبراؤنا، فما أضل البشر إلا سادتهم و كبراؤهم. و لا تترددوا إن رأيتم معوجاً تقوموه مهما بلغ من الشأن، فأن تقويمكم إياه أبقى له و أجدى عليه. و لا تخرجوا على آراء السادة و الكبراء صماً و عمياناً، بل أسمعوا نبضات القلوب، قرب لسان ينطق بالخير و هو ينبض بما فيه فسادكم و فساد أمر بلادكم. و أبصروا و تبصروا، فإن لا يعطي المقادة إلا السائمة التي تقودها عصا الراعي لا العقل و الإدراك. احملوا سادتكم و كبراءكم على وضح الصراط، فكل ضال منهم سوف يضل خلقاً منكم كثيراً و يورده موارد الهلاك.
أيتها العرب! أيها المسلمون!
إنها ساعة في تاريخكم ليس يعدها إلا النصر أو الهزيمة، و كل امرئ منكم يحمل تبعة لا يسقطها عنه عذر، و لا يعذره أداء حقها شيء. و انتم أربعمئة مليون نسمة لا عصابة قليلة في الأرض، فإن كنتم صفاً واحداً و بنياناً مرصوصاً، فاعلموا أنه لن يغلبكم شيء، و لن تهد هذا البنيان قوة مهما بلغت على ظهر هذه ا {ض، فتماسكوا و تقاربوا و تعاونوا، و لا تدعوا ثغرة يدخل منها عليكم عدوكم لينقض هذا البنيان الذي بناه آباؤكم و أسلافكم في آلاف السنين، و أنتم الأعلون إن شاء الله، و ليهود الذلة و المسكنة مضروبة عليهم إلى أن يرث الله الأرض و من عليها.
أيتها العرب! أيها المسلمون!
لا تهابوا أهل العصبية في أمريكا و أوربة، و لا تثقوا بأحد منهم، و لا تهادنوهم في حقكم، و لا تناصروهم كما ناصرتموهم من قبل فغدوا بكم و تألبوا عليكم و امتهنوكم و قابلوا حقكم بالازدراء و التحقير في هيئة الأمم المتحدة، و أنكروا كل يد أسديتموها إليهم، و مزقوا أوطانكم، و أن ينشئوا لجراثيم اليهود وكراً خبيثاً في الأرض المقدسة في سرارة بلادكم , فإن فعلتم فيومئذ يعلم هؤلاء الأخباث و الأشرار أن العرب و أهل الإسلام و أهل دين المسيح في الشرق، كلهم على قلب رجل واحد يريدون أن يقيموا في هذه الأرض شريعة الإنسان العادل لا شريعة الوحش الضاري في ظلمات الأدغال و الغابات.
ياساسة العرب!
إياكم و خداع الناس، و لا تخادعوا ربكم الرقيب عليكم، فيوشك أن يحل عليكم غضب من ربكم ثم غضب الناس عليكم، و لا تبيعوا تاريخكم و تأريخ آبائكم و ذريتكم بعرض زائل و مجد مزيف، و اعلموا أن قومكم قد ثاروا من مضاجعهم ليطلبوا حقهم بحد السيف، فلا تكونوا مخذلين و لا واعظين و لا متهاونين. و اعلموا أنها الحرب! شذاذ الأمم و صعاليك اليهود بين ظهرانيكم، و البغاة الطغاة عن أيمانكم و عن شمائلكم يلتمسون الفرصة ليمحقوا العرب و المسلمين و يطحنوهم طحناً.
فهبوا جميعاً إلى الجهاد فمن نجا فقد فاز بالنصر و برضوان الله عليه، و من قتل فقد فاز بالشهادة و جنة المخلد و الذكر الذي لا يفنى.
(كل نفس ذائقة الموت، و إنما توفون أجوركم يوم القيامة، فمن زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز، و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور).
محمود محمد شاكر
من مجلة الرسالة العدد 757 - بتاريخ: 05 - 01 - 1948