المثالية ممكنة , و لكن الصلاح واجب
بقلم د./ إيمان مصطفى البُغَا
الحياة المثالية يمكن أن توجد و لكن من الصعب أن تكون دائماً , فقد أكون أحياناً مثاليّة و أحياناً أعجز , غير أن الذي لا بد أن يوجد هو الحياة الصالحة التي تتحقق بفعل الواجبات التي أمر الله بها , و ترك المحرمات التي نهى الله عنها , و عندما لا يفعل المرء يكون آثماً أو مقصراً .
أما الحياة المثالية فالذي يؤدي إليها هو فعل المندوبات و ترك المكروهات , ولما كان من الصعب الالتزام بهذا دائماً : لم تكن هذه التكليفات واجبة بل هي عبارة عن مندوبات : لا يعاقب تاركها , أو مكروهات لا يعاقب فاعلها , إلا أن على المرء أن يسعى ليقترب من المثالية , لذلك قال العلماء : لا يجوز للمرء المداومة على ترك المندوبات و فعل المكروهات , و هذا من أجل الترقي إلى المثالية من ناحية , و من ناحية أخرى حتى يجبر النقص الذي قد يقع في فعل الواجبات أو في عدم الانتهاء عن المحرمات ؛ لئلا ينزل المرء عن مرتبة الصلاح ..
و لو فتشنا في حياتنا العامة و الخاصة عن سبب أي مصيبة أو معضلة لوجدنا وراءها ترك واجب أو فعل محرم .. و هو ما عبر عنه القرآن الكريم بالفساد , فقال : { وَ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا } , و لو فتشنا عن سبب أي منغصة أو إزعاج في حياتنا لوجدناه وراء ترك مندوب أو فعل مكروه ..
و قد وقع أفلاطون و سقراط و غيرهما في الخطأ في حديثهما عن المجتمع المثالي , فمن الممكن وجود هذا المجتمع , و لكنه لا يمكن دائماً .. مجتمع المدينة المنورة زمن النبي صلى الله عليه و سلم كان أحياناً مثاليّاً , و لكنه كان دائماً صالحاً , و ما أتى الشرع إلا لتحقيق الحياة الصالحة مع محاولة الرقي بها إلى المثالية عند الإمكان من خلال أحكام الشرع .
و لأضرب على ذلك مثالاً : يكون المجتمع صالحاً إذا كان أفراده كرماء , فأمر الإسلام بالزكاة و صدقة الفطر و بالنفقة على الأقرباء إلزاماً للمرء على الكرم , ثم ندبه إلى الازدياد بالصدقات المتنوعة و بالتوسعة في النفقة عندما يستطيع ..
يكون المجتمع صالحاً عندما ينتفي الظلم , لذلك حرم الإسلام الربا و ألزم المقرض أن يأخذ ماله دون زيادة , و ندبه بعد هذا إلى أن يكون مثاليّاً فيؤجل المستدين عند الإعسار أو يحط عنه بعض دينه إذا أمكنه ذلك .
و الأمثلة كثيرة ...
و هذا معنى قوله تعالى : { قد جاءكم من الله نورٌ و كتابٌ مبينٌ * يهدي به الله من اتّبع رضوانه سبل السّلام } ، و طالما أن البشر تركوا الشرع و جهلوا به ( هذا النور ) و من ثم لم يطبقوه : فليتحملوا عفن حياة الضلال .. { وَ الْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ }
د./ إيمان مصطفى البُغَا