إياكم و المهادنة
للأستاذ محمود محمد شاكر
(ما هكذا تورد يا سعد الإبل!)
إنما حملت أمانة هذا القلم لأصدع بالحق جهاراً في غير جمجمة و لا إدهان، و لو عرفت أن أعجز عن حمل هذه الأمانة بحقها لقذفت به إلى حيث يذل العزيز و يمتهن الكريم.
و قد قصرت نفسي إلى هذا اليوم على مجلة (الرسالة) لأنها ملاذ الأقلام الحرة التي لا تثنيها عن الحق رهبة، و لا تصدها عن البيان مخافة. و قد جاء اليوم الذي لم يعد يحل فيه لامرئ حر أن يكتم قومه شيئاً يعلم أنه الهدى، فمن كتمه في قلبه فقد طوى جوانحه على جذوة من نار جهنم، تعذبه في الدنيا و يلقى بها في الآخرة أشد العذاب.
و أنا جندي من جنود هذه العربية، و لو عرفت أني سوف أحمل سيفاً أو سلاحاً أمضى من هذا القلم لكان مكاني اليوم في ساحة الوغى في فلسطين، و لكني نذرت على هذا القلم أن لا يكف عن القتال في سبيل العرب ما استطعت أن أحمله بين أناملي، و ما أتيح لي أن أجد مكاناً أقول فيه الحق و أدعو إليه، لا ينهاني عن الصراحة فيه شيء مما ينتهي الناس أو يخدعهم أو يغرر بهم أو يغريهم بباطل من باطل هذه الحياة.
و الأمر بيننا و بين يهود سافر كإشراق الصباح لا يغطيه شيء، و لا تعمى عن جلائه عين، فهو الحرب الضارية التي لا ترحم. فمن شك في هذا فإنما يشك عن دخل و فساد لا عن يقين خطأ يتلمس فيه العذر. و الحرب معنى معروف للبشر منذ كانوا على هذه الأرض، و لها أساليب لا يجهلها خبير بها و لا غير خبير، و من جهل هذه الأساليب أو تجاهلها أو دعا قومه إلى اطراحها و الإغماض عنها فإنما يدعوهم إلى الهلكة و الفناء و الخزي و ذل العصور و الآباد.
فكل كلمة تقال منذ اليوم في أمر هذه الحرب فهي إما تحريض على القتال، أو تثبيط عنه. و كل امرئ منا محاسب بما يقول علا شأنه أو سفل، فالحرب لا تعرف شريفاً ليس لسانه بشريف، و لا تتنكر لمغمور يضيء عنه بيانه أو عمله.
و قد قرأت في هذه الأيام الأخيرة و سمعت كلمات لا يرفعها أو يشفع لها أن يكون قائلها فلان أو فلان. فإن قيادة هذه الحرب لن تكون لمن يهادن في الحق الأبلج، أو يجامل في المحنة المهلكة. فمن ذلك أني سمعت الأئمة على منابر المسلمين تذكر الناس بأمر فلسطين و ما حل بها و ما يراد فيها، ثم تعقب على ذلك بتذكير الناس بأن في بلادهم مواطنين من يهود - هم كما يقولون - أهل ذمة، لهم ما لأهل الذمة و المعاهدين من الأحكام في ديننا و دين نبينا.
و قرأت أيضاً بياناً من (هيئة وادي النيل) أذاعه رئيسها سعادة محمد علي علوية باشا يقول لنا فيه: (إن لكم مواطنين من اليهود في مصر، لهم ما لكم و عليهم ما عليكم. و قد شاعت حولهم شائعات السوء فقيل إنهم يمدون الصهيونية بالمال، و أنهم يضنون بما لهم فلا يساهمون معكم في رد عدوان الباغين. و نحن على يقين من أن إخواننا اليهود في مصر – و هم أصحاب الملايين - سيبذلون من مالهم للعروبة في محنتها كما تبذلون، و سيسارعون إلى تكذيب هذه الشائعات ببذلهم و عطائهم لا بأقوالهم و تصريحاتهم).
و لست أدري ما الذي يحمل هؤلاء القوم على ركوب هذا المركب في تغطية عيون الناس عن أفاعيل يهود منذ كان لهم على هذه الأرض مكان يسرحون فيه؟ فإذا كانوا يريدون أن لا تقع الفتنة بين يهود مصر و بيننا، فكفاهم أن يذكروا أن العرب و المسلمين منذ كانوا لم يضطهدوا هذا الجنس من خلق الله إلا عقاباً لشيء جنته أيديهم؛ ثم يتركونهم وادعين لا يمسهم شر و لا عنت تحت ظل هذه الدول العربية و الإسلامية. و إذا كانوا يريدون أن يفتوا الناس بأن يهود هم أهل ذمة لهم ما لأهل الذمة في أحكام الإسلام، فقد أخطئوا. و لا يستطيع متأول أن يتأول على دين الله أن هؤلاء اليهود أهل ذمة أو معاهدون كما توجب أحكام الإسلام لمن يوصف بهذه الصفة.
و كان حسب هؤلاء أن يأمروا الناس بالتطوع للقتال و التبرع بالمال، و أن يصفوا لهم هذه الحرب الملعونة التي تشنها علينا العصبية الصليبية من أوربة و أمريكا، و أن ينفضوا قلوب الناس حتى يبتدروا مراكزهم في صفوف المقاتلين، فإن الحرب كما يقولون جدها جد و هزلها جد. فإذا كان هذا العبث مقبولاً يوماً ما، فإنه اليوم فت في عضد الأمة المسكينة التي أحاطت بها الأمم لتأكلها (أكل الضروس حلت له أكلاؤه). فليقلع هؤلاء الواعظون عن عظة فيها الهلاك لأقوامهم، و الذل لأبنائهم، و العبودية لبلادهم.
أما النداء الذي أذاعه علوية باشا فقد أفزع كل حريص على خير أمته و بلاده. و كيف لا يفزع امرؤ يقرأ نداء موجهاً إلى عامة الشعوب العربية ثم شعب مصر خاصة و فيه هذه الثقة المطلقة بأن اليهود براء من كل فادحة تفدح في إخلاصهم للقضية العربية!! و فيه هذا اليقين الذي لا يتزلزل بأنهم سوف يجودون بأموالهم و أنفسهم في سبيل فلسطين العربية!! و يأتي هذا البيان من رجل معروف الاسم، مشتغل بالقضايا السياسية و الوطنية و العربية، ينظر إليه الشباب نظرة التوقير و الإجلال لما يقول.
و نحن لا ندري هل وقف على شيء غاب عن الناس جميعاً و عرفه هو، فاستيقن أن ظاهر أمر يهود مصر غير باطنهم، و أنهم إنما يرسلون الأموال إلى الصهيونية ذراً للرماد في عيون الناس، و أنهم يتولون تهريب الأسلحة إلى الصهيونية رحمة بالعرب و دفاعاً عن قضيتهم، و أنهم يجمعون الشبان اليهود ليبثوا فيهم الدعوة إلى الهجرة إلى أرض الميعاد، ليدخلوا فلسطين و يكونوا عوناً للعرب على إخوانهم من اليهود الصهيونيين!! حسبكم أيها السادة القدماء! لئن ظننتم أنكم بأمثال هذه الكلام تستطيعون أن تلينوا الصخر من قلوب يهود مصر حتى ينحازوا إليكم، و يكونوا لكم أعواناً على أبناء جلدتهم، فقد خاب ظنكم و خاض بكم الأباطيل المركومة.
إنه ما من يهودي على ظهر هذه البسيطة إلا و هو صهيوني متعصب يخفي تحت ذلته و مسكنته غوائل الغدر و الفتك. إن يهود العالم على قلب رجل واحد: يريدون أن يلتهموا هذا الشرق العربي كله، و يكونوا سادته و كبراءه و الحاكمين بأمرهم في كل ثنية من ثنايا أرضه.
لا نقول لكم اقرءوا كتب الصهيونية لتعلموا، بل اقرءوا كتابهم الذي يدينون به، و استرقوا السمع فيما يجري على ألسنتهم و هم يتخافتون بينهم، و ادخلوا بيعهم، و انظروا في وجوههم، و تفرسوا في سمتهم و شمائلهم و حركاتهم، فيومئذ تعلمون أن تحت هذه الصفحة البريئة المتلألئة أخطبوطاً سفاحاً قد قتله الظمأ إلى دمائكم و لوعه الشوق إلى فرائس أموالكم و بلادكم. و ليس بسياسي من لم يعرف عدوه معرفته بنفسه التي بين جنبيه. و ليس بسياسي من كتم هذه المعرفة عن قومه في ساعة القتال و الحرب. و لا تظنوا أن يهود تنخدع لكم عن أنفسها حتى تنالوا منها شيئاً تعلم أنه خذلان لدينها و عقائدها و أهوائها و مطامعها منذ كان لهم في هذه الأرض مجال يتحركون فيه.
إن الذين نشروا هذا النداء إنما يخادعون أنفسهم و أهليهم عن حقائق ما يجري على أعينهم و بمنظر منهم و مسمع؛ و هذه صحف تنشر كل يوم من خبائث يهود في ارض مصر ما يفزع، و نضع أيديكم على الجريمة و هي تنشأ في قلب بلادكم، فكيف يتاح لكم أن توفقوا
بين ثقتكم بغيب مكنون في قلب اليهود، و ظاهر يأتيكم من أفعالهم علانية غير مستور أو محجوب؟ نحن لا نريدكم أن تحرضوا الناس على الفتك باليهود، فالعربي أنبل نفساً من أن يفتك و يغدر. بل نريدكم أن تدعوا هذه العظات و السياسات المتعفنة جانباً، و أن تلقوا إلى قومكم بالحقائق مجردة من كل مهادنة أو مراوغة، حتى يعلم شباب العرب أن في قلب بلادهم قوى يخشى أن تغلب عليهم و تنتزع منهم أمرهم، و نفت في محصدات عزائمهم، و لنستولي على الأمد قبل أن نطيق نحن صدقاً أو عدلاً فيما كتب علينا من هذا القتال المر.
أيريد أن يعلم من كتب هذا النداء أشياء قد غابت عنه؟ فليعلم أن يهود مصر يبذلون اليوم آلافاً مؤلفة من الأموال لشراء قطع متجاورات من الأرض في مشارف مصر، يدفعون فيها من المال ثلاثة أضعاف ثمنها أو أكثر. و ليعلم هؤلاء أن يهود مصر قد فرغوا منذ عشر سنوات من الاستيلاء على تجارة الجملة كلها في أرض مصر. و ليعلم هؤلاء أن هذه الفئة القليلة من يهود قد استطاعت في زمن الحرب أن تتغلغل في نواح من أعمال لم يكن ليهود مصر بها عهد. و ما من شيء من هذا كله إلا و هم يأتونه على هدى و بصيرة و تدبير محكم، ناظرين إلى شيء واحد، هو أن الدولة اليهودية سوف تكون في فلسطين، و أنهم يومئذ مطالبون بأشياء يؤدونها لدولتهم، و هي أشياء مفهومة معروفة، الغرض منها أن تخفق راية يهود على هذه البقعة من الأرض ممتدة من شواطئ الفرات إلى ضفاف النيل.
أيها الناس لا تستهينوا بأمر يهود انظروا ماذا كان من أمرهم منذ عشرين سنة، ثم انظروا إلى خبرهم اليوم، من كان يظن أن لليهود شأناً أو خطراً في هذه الدنيا منذ عشرين سنة، إلا من هدى الله؟ ثم انظروا اليوم إلى هذه الفئة القليلة من سكان هذه الأرض كيف استطاعت أن تغلب على عقول الأمم و الساسة، و أن تغطي على الحق و هو مشرق كمين للشمس، و أن تدفع أكبر دولة في الأرض و هي أمريكا إلى ارتكاب أبشع جريمة في تاريخ الإنسانية، و أن تشتري بأموالها القلوب و الأمم و الناس و الأفراد. انظروا إلى هذا كله قبل أن تتكلموا، و اتقوا غضب الله قبل أن تزل ألسنتكم بالوعظ المهلك لأنفسكم و أهليكم.
ألا تخافون أن تكون هذه القوة المدمرة التي ذكرتموها في ندائكم - قوة أصحاب الملايين - وسيلة لتسلط يهود يوماً ما على ساستكم و رجالكم و حكوماتكم، و أن تكون تهديداً لكم و لأممكم بالمجاعات و الاضطرابات الاقتصادية و السياسية، و أن تكون أسلوباً من أساليب تأليب الأمم عليكم في هذه المحنة حتى تعطوا المقادة ليهود و أنتم صاغرون؟ أيها السادة لا تستهينوا، فمن استهان بعدوه فقد فرط، و من استهان بعدوه فقد مكنه من مقاتله، و من استهان بعدوه فقد منحه فرصة للفتك به.
و اعلموا أنها الحرب بيننا و بين يهود. و الحرب لا تلهو. و هذه الفئات التي تقيم في أوطان العرب من اليهود سوف تكون يوماً ما (طابوراً خامساً)، بل هي اليوم كذلك. و اعلموا أن اليهود قد مرنوا على أساليب التجسس و تحسس الأخبار في هذه الحرب، و أنهم كانوا أعواناً للأمم المقاتلة في حرب الأعصاب، و أنهم قوم مردوا على النفاق منذ قديم الآزال، فكيف تأمنون جانبهم، و تطالبون قومكم أن يأمنوا جانبهم؟
ثم أراكم تدعون يهود للتبرع بأموالها في سبيل قضية العرب، بل أن يبذلوا أموالهم لتقاتلوا بها أهلهم و عشيرتهم، فبئس الشيء تطلبون. إن أول ما في هذا الجهل بالطبيعة البشرية، ثم غاية الجهل بطبيعة هذه الفئة من يهود التي ظلت أكثر من ألفي سنة تنطوي على نفسها، و تحافظ على روابطها، و تجعل دينها هو قوميتها و وطنها، لا وطن لها و لا قومية إلا اليهودية صرفاً خالصة لا تشوبها شائبة من محبة وطن له أرض و سماء، إلا أرض الميعاد - إلا فلسطين - إلا أرض إسرائيل من شاطئ الفرات إلى ضفاف النيل.
ثم ألا تخافون أن يتبرع لكم هؤلاء اليهود بآلاف من أموالهم أو أموالنا على الأصح، يخادعونكم بها ثم يهربون إلى قومهم الملايين، يعينون بها عليكم، و يكسبون بها غفلتكم عنهم و عن حركاتهم و أعمالهم و دسائسهم في قلب بلادكم؟
أيها الساسة اطلبوا سياسة أخرى غير هذه تكفيكم شر يهود. إننا لا نريد منهم مالاً، و لا نريد منهم حباً للأوطان التي أظلتهم و حمتهم، و لا نريد منهم رجالاً يقاتلون في صفوفنا، وغن ديننا لينهانا عن أن نقبل منهم شيئاً. اطلبوا أيها الناس سياسة أخرى تضمن لكم أن تعرفوا خبء يهود، و أن تصطنعوا من الأسباب ما يكفل لكم قطع أيديهم و ألسنتهم عن التدسس و التجسس و المكيدة و الغدر. لا تأمروا الناس بالفتك بهم، بل نحن العرب نحمي الذمار حتى عدونا نحمي ذماره، و لكن دبروا أمركم و سنوا من القوانين ما ينهى يهود الأوطان العربية عن الغدر بهذه الأوطان التي حمتهم و هم مشردون مضطهدون قد مزقهم الناس كل ممزق.
إن العالم العربي اليوم قد استيقظ من غفوة طالت، و هو اليوم لا يسمع للساسة إلا كما يستمع المقاتل البطل إلى صيحات الجبان المذعور، فليعلم هؤلاء أنه أولى بهم أن يمنحوا الشباب من حكمتهم و تجاربهم و عقلهم ما يهديهم و يقويهم، لا أن يعظوهم بالمواعظ التي تحفر تحت أقدامهم هوة مظلمة بعيدة القعر ليس يسمع في أرجائها إلا هماهم الموت و هو يدب والغاً في دم أو منشباً مخالبه في فريسة. ارحموا الناس و ارحموا أنفسكم أيها الرجال.
محمود محمد شاكر
من مجلة الرسالة العدد 756 - بتاريخ: 29 - 12 - 1947