اخر الاخبار

الإثنين , 15 ديسمبر , 2014


ويْلٌ للمطفٍّفِين
بقلم: محمد يوسف عدس


توقفت اليوم طويلا عند سورة المطفّفين .. و هي من السور المكية القصيرة و معروف أن السور المكية تنفرد بخصائص تميّزها عن السور التى نزلت فى المدينة بعد ذلك..
تبدأ السورة بلطمةٍ مروعة تخطف الُّلب قبل البصر "ويل للمطفِّفين..!" و نعرف من أول لحظة أن المطففين هم "الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ، و إذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون" و نفهم من هذا التعبير أنهم فى موقفيْ الأخذ و العطاء ؛ لا يلتزمون بميزان العدالة ، فإذا أخذوا أخذوا أكثر من حقوقهم الشرعية ، و إذا أعطوا الآخرين أعطوهم أقل من الحقوق الواجبة .. علاقة اجتماعية ظالمة آثمة فيها عدوان و انتقاص دائم لحقوق الآخرين المستضعفين..

فطالما كان ميزان الحقوق فى قبضة المستبدّ صاحب السلطة و المال فإنه لا أمل فى استقامة ميزان العدالة على الأرض .. و لا أمل فى إصلاح المجتمعات الإنسانية ..! فهؤلاء هم الذين وقفوا دائما حجر عثرة فى طريق الجماهير الغافلة للحيلولة بينهم و بين الاستماع إلى صوت الوحي الإلهي و الحق و الإصلاح .. كما جاء على ألسنة الرسل و الأنبياء و المصلحين فى كل العصور...!

و لكن إبرازَ قضية جزئية بهذا الأسلوب ، و في سورة مكية أمر مثير للنظر ؛ فالسورة المكية كما عهدناها توجه اهتمامها إلى أصول العقيدة الكلية : كتقرير وحدانية الله .. و طلاقة مشيئته .. و هيمنته على الكون و الناس .. و يجرى فى هذا السياق: إبراز حقيقة الوحي و النبوة . . و حقيقة الآخرة و الحساب والجزاء .. مع العناية بتكوين الحاسة الأخلاقية في عمومها ، و ربطها بأصول العقيدة ..
أما التصدي لقضية بذاتها من قضايا الأخلاق الاجتماعية مثل " التطفيف في الكيل والميزان " و المعاملات بصفة عامة .. فأمر جاء متأخرا في السُّوَرِ المدنية ، عندما ظهرت الحاجة لتنظيم حياة المجتمع في ظل الدولة الإسلامية الناشئة..
أرسل القرآن هذه الصيحة المدوية بالحرب و الويل على المطففين .. و هم يومئذ سادة مكة و أصحاب السلطان فيها ؛ على كل شيء، بما فى ذلك شئون اللاقتصاد و التجارة و المعاش .

فكان القرآن بهذه الصيحة المبكرة موقظا للجماهير المستغَلَّة .. فى وقت كان الإسلام لا يزال محاصَرًا في مكة .. و من ثم ندرك طرفا من الأسباب الحقيقية التي جعلت سادة قريش يقفون في وجه الدعوة الإسلامية هذه الوقفة العنيدة . فهم كانوا يدركون أن هذا الأمر الجديد الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه و سلم ليس مجرد عقيدة تستكن فى الضمائر ، و لا تتطلب منهم إلا شهادة منطوقة ؛ بأن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله .. أوصلاة يقيمونها لله بلا أصنام و لا أوثان .. فقد تعايش العرب مع أديان سابقة دون صدام يُذكر ، باستثناء غزوة أصحاب الفيل الحبشية ؛ حيث عُرِف من العرب نصارى و يهود و صابئة ، فى قلب الجزيرة العربية و على أطرافها الشرقية و الشمالية..

لقد أدرك سادة العرب أن الإسلام عقيدة غير مألوفة لهم .. تتميز بمنهج من شأنه أن يحطم الأساس الجاهلي الذى تقوم عليه أوضاعهم و مصالحهم و مراكزهم .. و من ثم شنُّوا عليها تلك الحرب التي لم تضع أوزارها لا قبل الهجرة و لا بعدها ..

و قد تنبّه سيد قطب فى ظلاله إلى أن الذين يحاربون سيطرة المنهج الإسلامي على حياة البشر في كل جيل و في كل أرض يدركون هذه الحقيقة .. و يعلمون أن أوضاعهم الباطلة .. و مصالحهم المغتصبة .. و كياناتهم الزائفة .. و سلوكهم المنحرف .. هذه كلها هي التي يهددها المنهج الإسلامي..!

" و أن الطغاة البغاة الظلمة المطففين - في أية صورة من صور التطفيف: في المال أو في سائر الحقوق و الواجبات - هم الذين يشفقون أكثر من غيرهم من سيطرة ذلك المنهج العادل ! الذي لا يقبل المساومة .. و لا المداهنة .. و لا أنصاف الحلول ..! و من ثم فإن التصدِّي لهذا الأمر بذاته في هذه السورة المكِّية أمر يستحق الانتباه "

و قد عالجها سيد قطب بسعة أفقه و عمق رِؤيته فى ظلال القرآن حيث قسّم السورة إلى أربعة مشاهد أساسية .. رأيتُ أن أركِّزَ –هنا- على المشهد الأخير ؛ لأنه يتحدث عن مشكلة آنيَّة يعانى منها الكثير من القُرَّاء فى علاقاتهم الاجتماعية - على اختلاف مستوياتهم الفكرية- فقد عبّر الجميع عن صدمته فى المعارف و الأصدقاء لانحيازهم الغبيّ للانقلاب العسكري الفاجر .. و تصديق خرافاته و أضاليله الإعلامية التى قسمت المجتمع بالفعل إلى شعبين متصادمين: "إحنا شعب و انتو شعب .. لينا رب و ليكم رب "..!

المشهد الرابع من سورة المطفّفين ، قائم فى الآخرة حيث انقلب الموقف تمامًا ؛ فقد استقر الأبرار المُستهزأُ بهم فى جنة الله و رضوانه .. و عرف الكفرة و الفُجار المستهزئون مكانهم فى جهنم..؟
يقول سيد قطب :
"المشاهد التي يرسمها القرآن لسخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا .. و سوء أدبهم معهم .. و تطاولهم عليهم .. و وصفهم بأنهم"ضالون".. [أو "إرهابيون" بلغة العصر] كلها مشاهد منتزعة من واقع البيئة في مكة . و لكنها متكررة في أجيال و في مواطن شتى . و كثير من المعاصرين شهدوها كأنما هذه الآيات قد نزلت في وصفها و تصويرها .. مما يدل على أن طبيعة الفُجَّار المجرمين واحدة متشابهة في موقفها من الأبرار في جميع البيئات و العصور "!!
إنهم كانوا يضحكون من الذين آمنوا استهزاءً بهم .. و سخريةً منهم ؛ إما لفقرهم و رثاثة حالهم ، و إما لضعفهم عن رد الأذى ، و إما لترفّعهم عن سفاهة السفهاء . . مما أثار ضحك الذين أجرموا؛ و هم يتخذون المؤمنين مادة لسخريتهم و يسلطون عليهم الأذى، بينما الذين آمنوا صابربن مترفعين متجمِّلين بأدب المؤمنين !
و إذا مروا بهم يتغامزون"أي .. يغمز بعضهم لبعض بعينه .. أو يشير بيده .., أو يأتي بحركة متعارفة بينهم للسخرية من المؤمنين ؛ و هي حركة تكشف عن سوء الأدب؛ بقصد إيقاع الانكسار في قلوب المؤمنين .. و إصابتهم بالخجل و الربكة .. و هؤلاء الأوغاد يتغامزون عليهم ساخرين !
و إذا انقلبوا إلى أهلهم، بعدما أشبعوا نفوسهم الصغيرة من السخرية بالمؤمنين و إيذائهم . . "انقلبوا فكهين". . راضين عن أنفسهم ..مبتهجين بما فعلوا مستمتعين بهذا الشر الحقير .. فلم يتلوَموا و لم يندموا .. و لم يشعروا بحقارة ما صنعوا و قذارة ما فعلوا .. و هذا منتهى ما تصل إليه نفس الفاجر من إسفاف و موت للضمير !
و لا يقف القرآن ليجادل عن الذين آمنوا .. و لا ليناقش طبيعة الفِرْية . فهي كلمة فاجرة لا تستحق المناقشة . و لكنه يُنهي بهذه السخرية حكاية ما كان من الذين أجرموا في الدنيا .. و يطوي هذا المشهد ليستعرض المشهد الغائب عن أعين البشر .. الحاضر حضور اليقين فى علم الله ؛ يوم القيامة .. حيث استقر الفُجَّارُ المنكرون فى جهنم و استقر المؤمنون فى الجنة.. يقول عالم الغيب :
{فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون .. على الأرائك ينظرون}.. و يقول للكفار و هم فى جهنم : {هذا الذي كنتم به تكذبون} ..
نعود إلى مشهد سخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا في الدنيا .. و لنرى ماذا يقول سيد قطب فيه : " لقد كانت القلة المسلمة في مكة تلاقي من عنت المشركين و أذاهم ما يفعل في النفس البشرية بعنف و عمق .. و لكن ربهم لا يتركهم بلا عوْن .. من تثبيته و تسريته و تأْسِيَتِه ؛ فربهم هو الذي يصف هذه المواجع .. هو الذى يراها .. و لا يهملها .. و هذا وحده يكفي قلب المؤمن و يمسح على آلامه و جراحه .. إن الله يرى كيف يسخر منهم الساخرون . و كيف يؤذيهم المجرمون .. و كيف يتفكه بآلامهم و مواجعهم المتفكهون .. و كيف لا يتلوم هؤلاء السفلة و لا يندمون ! إن ربهم يرى هذا كله .. و يصفه في تنزيله .. فهو إذن شيء في ميزانه . . و هذا يكفي .. نعم هذا يكفي حين تستشعره القلوب المؤمنة مهما كانت مجروحة موجوعة" ..
يلاحظ سيد قطب هنا ملاحظة بالغة الأهمية : أن هذه التسلية الإلهية للمؤمنين المعذبين المألومين من وسائل المجرمين الخسيسة - كان هذا وحده هو الذي وعد به النبي صلى الله عليه و سلم المبايعين له .. و هم يبذلون الأموال و النفوس ! أما النصر في الدنيا ، و الغلبة في الأرض .. فلم يكن أبدا يُذكر في القرآن المكي في معرض التسرية و التثبيت.. فما هو السر فى ذلك..؟!
يقول سيد قطب: "لقد كان القرآن ينشئ قلوبا يعدُّها لحمل الأمانة .. و هذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة و القوة و التجرد بحيث لا تتطلع - إلى شيء في هذه الأرض . و لا تنتظر إلا الآخرة . و لا ترجو إلا رضوان الله .. قلوبا مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نَصَبٍ و شقاء و حرمان و عذاب و تضحية و احتمال .. بلا جزاء في هذه الأرض قريب. "
"حتى إذا وُجِدَتْ هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل .. و أن تنتظر الآخرة وحدها موعدًا للجزاء .. و موعدا للفصل بين الحق و الباطل . . حتى إذا وُجِدَتْ هذه القلوب .. و علم الله منها صدق نيتها على ما بايعت و عاهدت .. آتاها النصر في الأرض .. و ائتمنها عليه .. لا لنفسها .. و لكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي و هي أهل لأداء الأمانة .. مذ كانت لم توعد بشيء من المغانم في الدنيا تتقاضاه ؛ و لم تَتَطَلَّع إلى شيء منه في الأرض تُعْطاه . و قد تجردت لله حقا يوم كانت لا تعلم لها جزاءً إلا رضاه .. ! "
و هكذا تلاحظ أن جميع الآيات التي ورد فيها ذكر للنصر في الدنيا جاءت في المدينة ... بعد أن جاء النصر ذاته .. لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية تقرره في صورة عملية محددة .. تراها الأجيال .. فلم يكن جزاءً على التعب و النصب و التضحية و الآلام .. إنما كان قدرا من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن.. ! و نحن لا نذهب بعيدا عن هذه الحكمة المستخلصة فنردّدها مع سيد قطب فى هذه العبارة :

"لقد أدرك المؤمنون فى وقت مبكر من مراحل الدعوة الإسلامية - كما أدرك أعداء الإسلام طبيعة هذا الدين: و أنه قائم كحد السيف للعدل و الإنصاف و إقامة حياة البشر على العدل و الإنصاف ؛ فهو لا يقبل من طاغيةٍ طغيانًا .. و لا من باغٍ بغيًا ، و لا من متكبِّرٍ كِبْرًا . و لا يقبل للناس الغبن أو الخسف أو الاستغلال .. و من ثَـمَّ يحاربه كل طاغٍ باغٍ متكبِّرٍ مستَغِلّ .. و يقف لدعوته و لدعاته بالمرصاد..".




القراء 1090

التعليقات


مقالات ذات صلة

حروف ممنوعة _ هشام حسن ((( الأسد المركوب )))

حروف ممنوعة _ هشام حسن ((المطبخ))

حروف ممنوعة _ هشام حسن (( الناس))

حروف ممنوعة _ هشام حسن ((مسوخ أرض عاميس))

حروف ممنوعة بقلم/ هشام حسن الببغاوات

حروف ممنوعة _ هشام حسن ((قفا نبك من ذكرى آخر أسهمى))

حروف ممنوعة _ هشام حسن ((عصا وأرجوز))

حروف ممنوعة _ هشام حسن الخوازيق

تعقيباً على لقاء أجناد مصر بقلم/ إحمد طه

حروف ممنوعة _ هشام حسن ((خووووووووود))

القرآن المهجور : بول الإبل بقلم ا.د محمد أبوزيد الفقى

القرآن المهجور : بول الإبل بقلم ا.د محمد أبوزيد الفقى

دولة ‫‏الخلافة‬ لا يعاديها أحد إلا فضحه الله بقلم/ الشيخ عبد المجيد الهتاري الريمي

طواغيت، منافقون، عبيد بقلم/ أحمد طه

حروف ممنوعة _ هشام حسن (( السفينة ))

الإرهاب و السحر عند الفراعنة

ﻓﻲ ﻇﻼﻝ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺳﻴﺪ ﻗﻄﺐ

بروتوكولات حكماء العرب البروتوكول الثاني

هجمات باريس وإرهاب الإسلام - حسن أبو هنيّة

هل حان الوقت لكي نفهم ؟ بقلم المستشار/ محمد يوسف عدس

الايدولوجيا و الدين و المسلمين و الحرث في الماء بقلم المهندس/ خالد غريب

الايدولوجيا و الدين و المسلمين و الحرث في الماء بقلم المهندس/ خالد غريب

تأملات في الواقع بقلم/ حسين بن محمود

النماذج الثلاثة

عبادة الرموز و تقديسها بقلم/ أيمن إمام

بروتوكولات حكماء العرب الجنس الثالث..!!.. البروتوكول الخامس د. محمد عباس

التعصب للجماعات يعمي البصيرة حتى و لو كانت الجماعة جماعة مجاهدة

جاءت الملاحم يامسلمون فتهيئوا لها

انتصارات الدولة الإسلامية وشعبيتها

غلام الجاهلية

انتهت مرحلة الردود على الشبهات بقلم أحمد طه

حروف ممنوعة _ هشام حسن ((الرجل ذو الألف مسبحة))

حروف ممنوعة _ هشام حسن (( الفلاشة ))

طه عبد الرحمن، السياسة والترجمة: أي معنى للإبداع؟

سلسلة قبل الغروب عوامل السقوط الحضارة و التخلف

لماذا فشلت الثورات العربية؟ أحمد طه

حروف ممنوعة _ هشام حسن (( ليلة التاسع من نوفمبر ))

تعليقاً على المصالحة المصرية القطرية.. أحمد طه

و إذا كان العرب أغبياء فلم نلوم الغير ؟

تعليقاً علي خبر القبض على شاب وفتاة بالمترو تحدثا بالإنجليزية



خريطة الموقع


2024 - شبكة صوت الحرية Email Web Master: admin@egyvoice.net