اخر الاخبار

الإثنين , 15 ديسمبر , 2014



من روائع المقالات القديمة
لمن أكتب؟
محمود بن محمد شاكر

بيني و بينها أيام معتقة كأنها خمر في دنان الزمان، فإذا ما قدَّر الله لنا أن نجتمع يوماً، طارت بلبي نشوة ترمي بي إلى عالم ساكن ناضر ناعم النسمات، فأفارق بها عالمـًا صاخبًا محترقًا، لافح الرياح، عاصف الأعاصير. و اجتماعنا هو إحدى الأماني التي يقول في مثلها الشاعر:

أماني من سُعدَى رِواءٌ، كأنما سَقَتْك بها سُعدَى على ظمأ بردا

و إذا اجتمعنا و تنهدت بيننا الأحاديث، فربما فاجأتني بالسؤال لا أتوقعه، فيردني سؤالها إلى نفسي ردًّا عنيفًا لا أملك معه إلا أن أديم طرفي إلى هذا الوجه الذي يُخفي وراءه نفسًا ثائرة، و لكنها ساكنة على ثورتها سكون الجبال الراسيات، و لست أدري أتلك إحدى لطائف الحيل التي تحب أن توقظني بها من غفوة الأحلام، أم تلك يقظة دائمة في نفس لا تطيق إلا أن تكون متيقظة حين يدعوها الهوى إلى إغفاءة تريحها من ثورة نفسها و اضطرابها؟ و أي ذلك كان، فهي قد أخذتني أخذاً شديداً حين استوت في جلستها و قالت: حدثني، لمن تكتب هذا الذي تكتبه؟ إنهم جميعًا نيام يغطُّون، فلو قذفتهم بالشهب أو الصواعق لناموا على وقعها أو إحراقها.

فلما أفقت على سؤالها، جعلت أردده في نفسي، و أنا أملأ عيني من صفاء هذه الينابيع التي تترقرق في وجهها و في عينيها، و أخيراً قلت لها: لن أجيبك إلا حيث تقرأين كلامي، و دعينا لما بنا، فإن لقاءنا ساعةٌ فرَّت إلينا من هذا الفراق السرمدي.

لمن أكتب؟ لم أحاول قط أن أعرف لمن أكتب؟ و لِمَ أكتب؟ و لكني أحسُّ الآن من سرِّ قلبي أني إنما كنت أكتب، و لا أزال أكتب لإنسان من الناس لا أدري من هو، و لا أين هو: أهو حيٌّ فيسمعني، أم جنين لم يولد بعدُ سوف يقدر له أن يقرأني؟ و لست على يقين من شيء إلا أن الذي أدعو إليه سوف يتحقق يومًا على يد من يحسن توجيه هذه الأمم العربية و الإسلامية إلى الغاية التي خلقت لها، و هي إنشاء حضارة جديدة في هذا العالم، تطمس هذه الحضارة التي فارت بالأحقاد و الأضغان و المظالم، و لم يتورع أهلها عن الجور و البغي في كل شيء، حتى في أنبل الأشياء، و هو العلم.

لم يخامر قلبي يأس قط من هذه الفترة التي نعيش فيها من زمننا، و لم يداخلني الشك في حقيقة هذه الشعوب، و إن كانت لا تزال تعيش في بلبلة جياشة بأخلاط من الغرور و الخداع و العبث، و في أكفان من الفقر و الجهل و المخافة، و في كهوف من الظلم و الاستبداد و قلة الرحمة، كل ذلك شيء أراه و أعرفه، و لكني أستشفُّ تحت ذلك كله نقاء و طهرًا و قوة تدب في أوصال هذه العالم الذي أوجِّه إليه كلامي، و هو خليق أن يتجمع للوثبة في الساعة التي كُتب له فيها أن يهبَّ مرة واحدة تذهل الناس كما أذهلتهم من قبل، و هو خليق أن يكون سرَّ الحياة الجديدة التي تضرب عروقها إلى عصور بعيدة في تاريخ البشر. و لعل هذه المحن التي أحاطت به من خارج، و التي استبطنته من داخل، هي حوافز البعث الجديد، و هي نار التمحيص التي تنفي خبثه كما ينفي الكير خبث الحديد.

أنا أعلم أن رجال السياسة عندنا لا يزالون أوزاعًا من خلق الله لا ندري كيف نشؤوا، و على أي شيء قامت شهرتهم، و لا إلى أين تمضي أهدافهم؟ و هم فوق ذلك كله قد لوثوا ضمائرهم و عقولهم و أخلاقهم و عزائمهم بأشياء لا يمكن أن تؤدي إلى خير، و هم قد أشربوا فتنة بأخلاق الساسة الطغاة الذين ابتُلي بهم الغرب، و امتُحنت بهم الحضارة الغربية. و لست أشك ساعة في أنهم لا خير فيها البتة، مهما دلَّ ظاهر تدليسهم أو تدليس الصحافة بأسمائهم على أنهم يفعلون خيرًا، أو أنهم سوف ينتهون إلى خير، و لست أرتاب البتة في أن الخير كل الخير هو في زوالهم جملة واحدة من مكانهم، لكي يتسنى لهذه الشعوب العربية و الإسلامية أن تهتدي إلى الحق في حياتها و في جهادها و في أهدافها.

و أنا أعلم أن رجال العلم من أي أقسامه كانوا، لا يزالون يتعبدون أنفسهم لكثير مما لا نفع فيه لأممهم، بل لعلهم لا يزالون يترفعون عن هذه الشعوب الفقيرة الجاهلة، و التي هي شعوبهم، ظنًّا منهم أنها شعوب لا تستطيع أن تبلغ ما بلغ الناس في العلم، فضلًا عن أن يدركوا سوابق العلماء في هذه الفترة من زماننا، فضلًا عن أن يسبقوا أمم الحضارة الحاضرة في ميدان هذه العلوم. و هم في خلال ذلك – إلا من عصم الله – يبسطون ألسنتهم بسطًا شديدًا في أعراض هذه الشعوب، فيقرفونها بكل مسبة، ثم يصرفون وجوههم إلى أوربة و أمريكا و غيرهما كأنما هم منها و من صميمها، لا من هذه الشعوب البائسة التي ظنوا أن الموت كتاب محتوم عليها.

و أنا أعلم أن أكثر أهل السلطان في هذا الشرق، لا يزالون يعيشون في عزلة لا يبالون قليلًا و لا كثيرًا بما فيه خير بلادهم، و أنهم يحتقرون جماهير الشعوب احتقارًا ينسرب في خاص كلامهم كما ينسرب في أكثر أفعالهم. و هم فئة قليلة فتنتها النعمة و الترف و اللذاذات، حتى ما تبالي أن تصبَّ على أممها ضروبًا من المظالم كان ينبغي أن تترفع عن ارتكابها، لا رحمة بالناس، بل مخافة من الناس، فالشعوب إذا هاجها ما يهجيها لم تبق على شيء و إن كان في بقائه خيرها.

و أنا أعلم أن أهل الدين – إلا من رحم ربك – قد رموا بدينهم ظهريًّا، و إن لبسوا لباسه، و تشبهوا على الناس و غرُّوهم باسم هذا الدين. و هم يأكلون باسم الدين نارًا حامية، و هم قد فقدوا بفقد آداب هذا الدين كل شيء يجعل لهم عند الناس مكانة ترفعهم عن الشبهات، و بذلك أصبحوا كالعامة التي تحتاج إلى من يقودها و يهديها.

و قصارى ما يقال هو أن الحياة في هذا الشرق على اختلاف نحله و مذاهبه و أديانه و أحزابه، قد صار كأهل سفينة جنَّ أكثر من فيها، و كلهم يريد أن يقود السفينة كما خيَّلت له طوائف وساوسه و أوهامه، مستبدًّا بما يرى من الرأي، و لكني مع ذلك لن أيأس ساعة من أهل الخير، لن أيأس من رجل أو رجال توقظهم هذه البلوى المحيطة بالجماعة، فيدفعها حبُّ الحياة و حبُّ الخير إلى نفض غبار القرون عن أنفسهم، ثم تنشط من عقالها إلى قيادة هذه الناس بقوة تنفث في هؤلاء جميعًا روحًا مسددة هادية تبرئهم مما أصابهم، و تستنقذ منهم من يصلح للبقاء و العمل في جيل جديد، له هدف معين، و له طريق لا يفارقه، و له همة جياشة تجعله يطوي المسافات المترامية طيًّا حتى يصل إلى غايته، لم يلحقه كلل و لا سآمة و لا إعياء.
فأنا أكتب لرجل أو رجال سوف يخرجون من غمار هذا الخلق، قد امتلأت قلوبهم بالقوة التي تنفجر من قلوبهم كالسيل الجارف، تطوح بما لا خير فيه، و تروى أرضاً صالحة تنبت نباتًا طيبًا.

و مهما كان من أمر تلك الطوائف التي ذكرتها، و مهما كان رأيها في هذه الشعوب التي تنتمي إليها، و مهما عدت شعوبها سائمة ترعى أيامًا معدودة حتى تتخطفها أرماح الأجل، فمن هذه (السائمة) سوف ينفرد رجل يقود الشعوب بحقها؛ لأنه منها: يشعر بما كانت تشعر به، و يألم لما كانت تألم له، و ينبض قلبه بالأماني التي كانت تنبض في قلوبها. و هو وحده الذي يعرف كيف يرفع عن عيونها حجاب الجهل، و يطرح عن كواهلها قواصم الفقر، و يملأ قلوبها بما امتلأ به قلبه من حب هذه الأرض التي تعيش فيها مضطهدة ذليلة خائفة.

إنه الرجل الذي قد خُلطت طينته التي خلق منها بالحرية، فأبت كل ذرة في بدنه أن تكون عبدًا لأحد ممن خلق الله على هذه الأرض، فهو يشرق من جميع نواحيه على أجيال الناس كلها كما تشرق الشمس، ترمي بأشعتها هنا و هنا، و لا يملك الناس إلا أن ينصبوا لها وجوههم و أبدانهم؛ ليذهب عنهم هذا البرد الشديد الذي شلَّهم و أمسك أوصالهم عن الحركة. و هو يسير بينهم فتسري نفسه في نفوسهم، فتموج الحياة فيهم بأمواجها التي لا يقف دونها شيء مهما بلغت قوته أو جبروته.

ألا إن الشرق العربي لينتظر صابرًا كعادته هذا الرجل، و إني لأحس أن كل شرقي قد أصبح اليوم يتلفت لا من حيرة وضلال، بل توقعًا لشيء سوف يأتي قد أنَى [حان و دنا] زمانه، ففي كل نفس منه خاطرة تختلج. و هذا الإحساس فينا هو الذي يحملني على الإيمان بأن ذلك كائن عن قريب، و أننا قد أشرفنا على زمن قد كتب الله علينا فيه أن نجاهد في سبيله، ثم في سبيل الحق و الحرية و العدل؛ لأننا نحن أبناء الحق و الحرية و العدل، قد ارتضعنا لبانها منذ الأزل البعيد. و كل ما دخل علينا في القرون الماضية من المظالم و الأكاذيب و الاستبداد، لم يستطع أن يخفت ذلك الصوت الذي تتجاوب به نفوسنا باسم الحق و الحرية و العدل.

إن هذه الشعوب التي تُرى اليوم كأنها على بلادها أسمال بالية ممزقة، قد بدأت تحسُّ أن عليها أن تتجدد أو أن تزول، و طبيعة الحياة تأبى لها أن تزول، فهي لابد أن تتجدد. و هذا الدافع وحده سوف يمهد للرجل المنتظر أن يزأر زئيره فتصغى له آذان الملايين من أبناء الشرق، ثم تنطلق من مجاثهما إليه مجيبة لندائه، فإذا انطلقت إليه أرسالًا [جماعات واحدة بعد الأخرى]، فيومئذ لن يقف في طريقها أولئك الساسة المنافقون، و لا أولئك العلماء المتبجحون، و لا أولئك الديَّانون المخادعون، بل سوف يصيرون تبعًا، و قد طال ما خيلت لهم نفوسهم أنهم الرؤوس و السادة.

فأنا إن كتبت، فإنما أكتب لأتعجل قيام هذا الرجل من غمار الناس، لينقذنا من قبور جثمت علينا صفائحها [حجارة عراض توضع فوق القبور] منذ أمد طويل. و ليس بيننا و بين هذا البعث إلا القليل، ثم نسمع صرخة الحياة الحرة العادلة يستهل بها كل مولود على هذه الأرض الكريمة التي ورثناها بحقها، ليس لنا في فِتر [مسافة ما بين السبابة و الإبهام] منها شريك.

محمود محمد شاكر
من مجلة الرسالة العدد 766 - بتاريخ: 08 - 03 - 1948




القراء 1236

التعليقات


مقالات ذات صلة

حروف ممنوعة _ هشام حسن ((( الأسد المركوب )))

حروف ممنوعة _ هشام حسن ((المطبخ))

حروف ممنوعة _ هشام حسن (( الناس))

حروف ممنوعة _ هشام حسن ((مسوخ أرض عاميس))

حروف ممنوعة بقلم/ هشام حسن الببغاوات

حروف ممنوعة _ هشام حسن ((قفا نبك من ذكرى آخر أسهمى))

حروف ممنوعة _ هشام حسن ((عصا وأرجوز))

حروف ممنوعة _ هشام حسن الخوازيق

تعقيباً على لقاء أجناد مصر بقلم/ إحمد طه

حروف ممنوعة _ هشام حسن ((خووووووووود))

القرآن المهجور : بول الإبل بقلم ا.د محمد أبوزيد الفقى

القرآن المهجور : بول الإبل بقلم ا.د محمد أبوزيد الفقى

دولة ‫‏الخلافة‬ لا يعاديها أحد إلا فضحه الله بقلم/ الشيخ عبد المجيد الهتاري الريمي

طواغيت، منافقون، عبيد بقلم/ أحمد طه

حروف ممنوعة _ هشام حسن (( السفينة ))

الإرهاب و السحر عند الفراعنة

ﻓﻲ ﻇﻼﻝ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺳﻴﺪ ﻗﻄﺐ

بروتوكولات حكماء العرب البروتوكول الثاني

هجمات باريس وإرهاب الإسلام - حسن أبو هنيّة

هل حان الوقت لكي نفهم ؟ بقلم المستشار/ محمد يوسف عدس

الايدولوجيا و الدين و المسلمين و الحرث في الماء بقلم المهندس/ خالد غريب

الايدولوجيا و الدين و المسلمين و الحرث في الماء بقلم المهندس/ خالد غريب

تأملات في الواقع بقلم/ حسين بن محمود

النماذج الثلاثة

عبادة الرموز و تقديسها بقلم/ أيمن إمام

بروتوكولات حكماء العرب الجنس الثالث..!!.. البروتوكول الخامس د. محمد عباس

التعصب للجماعات يعمي البصيرة حتى و لو كانت الجماعة جماعة مجاهدة

جاءت الملاحم يامسلمون فتهيئوا لها

انتصارات الدولة الإسلامية وشعبيتها

غلام الجاهلية

انتهت مرحلة الردود على الشبهات بقلم أحمد طه

حروف ممنوعة _ هشام حسن ((الرجل ذو الألف مسبحة))

حروف ممنوعة _ هشام حسن (( الفلاشة ))

طه عبد الرحمن، السياسة والترجمة: أي معنى للإبداع؟

سلسلة قبل الغروب عوامل السقوط الحضارة و التخلف

لماذا فشلت الثورات العربية؟ أحمد طه

حروف ممنوعة _ هشام حسن (( ليلة التاسع من نوفمبر ))

تعليقاً على المصالحة المصرية القطرية.. أحمد طه

و إذا كان العرب أغبياء فلم نلوم الغير ؟

تعليقاً علي خبر القبض على شاب وفتاة بالمترو تحدثا بالإنجليزية



خريطة الموقع


2024 - شبكة صوت الحرية Email Web Master: admin@egyvoice.net