فيم أكتب!
للأستاذ محمود محمد شاكر
إلى أخي الأستاذ الزيات
السلام عليك و رحمة الله و بركاته، و بعد، فقد دعوتني فاستجبت لك، رضى بك و عنك. بيد أني أحببتك ساخطاً على نفسي، و الجمرة الموقدة أبرد مساً من سخطة امرئ على نفسه. كنت عزمت أن أدع هذا القلم قاراً حيث هو، في سنة لا تنقطع، يعلوه صدأ لا ينجلي. و ظللت أياماً أسأل نفسي: فيم أكتب؟ فيم العناء و النصب؟ علام أزهق أيامي في باطل لا ينقشع؟
بقي ما كتبته لك آنفاً معلقاً يوماً كاملاً، حتى خلتني مخلفاً لك موعدي. و الساعة ذكرت أمراً: ذكرت أني ختمت مقالاتي المتتابعة في الرسالة، منذ خمس سنوات تقريباً، بسؤال آخر: (لمن أكتب؟). و قلت يومئذ إني لم أحاول قط أن أعرف لمن أكتب؟ و لم أكتب؟ و لكني أحس من سر قلبي أني أكتب، و لا أزال أكتب، لإنسان من الناس لا أدري من هو، و لا أين هو. أهو حي فيسمعني، أم جنين لم يولد سوف يقدر له أن يقرأني؟ و وصفت يومئذ شراذم الساسة الذين لوثوا تاريخ الحياة الإسلامية و العربية، في حيث كان الإسلام و كانت العرب. و وصفت رجال العلم المتعبدين لساداتهم من أهل الحضارة الفاسدة التي تعيش بالمكر و الحقد و الفجور.
و وصفت أصحاب السلطان في الشرق، و هم حثالة التاريخ الإنساني، و وصفت أهل الدين، ألا من رحم ربك، الذين يأكلون بدينهم ناراً حامية. و زعمت أني لن أيأس من رجل أو رجال توقظهم هذه البلوى المطبقة المحيطة بنا، فيدفعهم حب الحياة و حب الخير، إلى نفض غبار القرون عن أنفسهم.
ثم ذكرت هذا الرجل الذي طواه الغيب إلى ميقاته، فأنا أكتب له حتى يخرج من غمار هذا الخلق، و ينفرد من هذه (السائمة)، ليقود الشعوب بحقها لأنه منها: يشعر بما كانت تشعر به، و يألم لما كانت تألم له، و ينبض قلبه بالأماني التي تنبض به ضمائر قلوبها. رجل خلطت طينته التي منها خلق، بالحرية. فأبت كل ذرة في بدنه أن تكون عبداً لأحد من خلق الله. يسير بين الناس، فتسرى نفسه في نفوسهم، و تموج الحياة يومئذ بأمواجها، ثم لا يقف دونها شئ مهما بلغ من قوته و جبروته. و زعمت أن الشرق العربي و الإسلامي، ينتظر صابراً
كعادته هذا الرجل، و أننا قد أشرفنا على أمره قد كتب الله علينا فيه: أن نجاهد في سبيله، ثم في سبيل الحق و الحرية و العدل، لأننا نحن أبناء الحق و الحرية و العدل، قد أرضعنا الدهر بلبانها منذ الأزل البعيد.
ثم ختمت كلامي بهذه الفقرة: فأنا إن كتبت، فإنما أكتب لأتعجل قيام هذا الرجل من غمار الناس، لينقذنا من قبور جثمت علينا صفائحها منذ أمد طويل. و ليس بيننا و بين هذا البعث إلا القليل، ثم نسمع صرخة الحياة الحرة العادلة، يستهل بها كل مولود على هذه الأرض الكريمة، التي ورثناها بحقها، ليس لنا في فِتر [مسافة ما بين السبابة و الإبهام ] منها شريك).
كتبت هذا يومئذ، و الناس في ظلمة ليل بهيم. و منذ ذلك اليوم و الأحداث في الشرق العربي و الإسلامي آخذ بعضها برقاب بعض. و حركت الأحداث المتتابعة نواعس الآمال، فهبت تمسح من عيونها النوم المتقادم. ثم حملقت في أكداس الظلام المركوم، فأوهمتها اليقظة أن الظلام من حولها يومض من بعيد ببصيص من نور. فتنادت الصيحات بانقشاع الظلم: وا فرحتاه! و صرخت أنا في محبسي: وا حسرتاه! أعمى رأى الظلام نهارا!
كانت الدنيا يومئذ ظلاماً، و نعرفها نحن ظلاما. و المعرفة دائماً تفضي إلى خير. ثم أصبحت الدنيا أشد ظلاما. و نتوهمها نحن نورا ينبثق. و التوهم عماده الكذب. و لا فلاح لشيء إلا بالصدق وحده.
لقد طرأت على هذا العالم العربي و الإسلامي طوارئ، فإذا لم يصدق نفسه فلا نجاة له. و احتوشته الأمم المفترسة بأساليبها الظاهرة و الخفية. فإذا لم يصدق النظر فلا خلاص له. لست قانطاً و لا مقنطاً. كما يتوهم من يحب أن يتوهم. و لكني أرى بلاء نازلاً بنا. و نحن نخوضه كأنه رحمة مهداة. و بئس ما نفعل؟ و بئس مطية الأعمال الكذب.
من حيث أتلفت أرى وجوها تكذب، و وجوها مكذوباً عليها. و أسمع أصواتاً تخدع، و آذاناً مخدوعة بما تسمع. و أقرأ كلاماً غمس في النفاق و في التغرير غمساً. و ألمح في عيون المساكين ممن قرءوه غفلة تتلألأ بفرحة و لكنها فرحة لا تتم عليها إلا بالعمى المطبق عن الحق و الصواب. إن هذا كله إعداد للمجزرة الكبرى. حيث تذبح الآلاف المؤلفة منا بمدى حداد استخرج حديدها من معدن القلوب المضطغنة بالعصبية، المنهومة بالمنفعة. و أمهاها ماء الحقد الصليبي الوثني؛ و أرهفت بلذة الفتك الذي لا تطفأ ناره.
إن الذي نعيش فيه اليوم حياة قد مهد لها جبابرة الدهاة؛ لا أقول منذ عام أو عامين، بل منذ أكثر من مائتي عام. حطم كل شئ قليلاً قليلاً حتى خر البناء كله. ثم انبعثت من تحت الأنقاض حياة خبيثة تلبس إهاب البشر. غذيت بالسم الذعاف حتى صارت لحماً و سما. لا لحماً و دماً؛ و لا يعنيك أو يعنيني أن ننظر: أهي تعرف نفسها و تدرك أنها مسخت أفاعي في مسلاخ إنسان، أم تراها لا تعرف و لا تدرك؟ بل يعنينا – و يعنيها هي أيضا - أن نصدق المعرفة أنها حيات تنفث سمها في حياة الناس؛ في حياة الغافلين النائمين. فمن استعصى عليها فتكت به؛ و من أطماع لسمها مسخ كمثلها حية تسعى. فإذا قدر لهذه الحيات أن تبلغ الغاية التي مسخت لها؛ فلن يتم ذلك حتى تكون الأرض العربية و الإسلامية كلها خراباً من البشر الأحرار؛ خراباً تعمره العمار من أفاع و حيات و أصلال.
من مخافة هذا اليوم كنت أكتب قديماً ما استطاع هذا القلم أن يكتب، ثم وجدتني فجأة في موج متلاطم من الضلالات، تتقاذفه ضلالات العلم المكذوب، و ضلالات الرأي المدلس، و ضلالات السياسة الخداعة. و إذا الأرض من حولي تعج بترتيل مظلم مخبول؛ و إذا السماء من فوق تهتف بتسبيح كالح مزور؛ و إذا صوتي يضيع في سمعي؛ فهو إذن في أسماع الناس أضيع؛ و تردد في صدري شعر الحكمى؛ فاستمعت له و سكت:
مت بداء الصمت خير ... لك عن داء الكلام
إنما السالم من ... ألجم فاه بلجام
فلما دعوتني فأجبت، انقلبت أسائل نفسي: فيم أكتب؟ فيم العناء و النصب؟ علام أزهق أيامي في باطل لا ينقشع؟ إن بيني و بين الأسماع و الأبصار و القلوب، حجاباً صاخباً من غماغم الدجاجلة، و هماهم الأفاكين، و ثغاء أهل الغش، وضغاء أخدان النفاق. . . ويذهب قولي باطلاً ويضيع صوتي مختنقاً، و لم أجن عندئذ عن حياتي إلا شقاء يقول فيه القائل: (إن الشقي بكل حبل يخنق)، حتى حبل الحق و الصدق!. و إنك لتعلم: أن لو أني عرفت للكتابة ثمرة، لما توقفت ساعة، و لما أبطأت دون ما وجب على بأي لسان أستطيع أن أفتق للناس أسماعها غير الأسماع التي طمها الكذب المسموع؟ و بأي قلم أستطيع أن أسلخ عن العيون غشاوة صفيقة لبسها الكذب المكتوب؟ و بأي صوت أستطيع أن أنفذ إلى قلوب ضرب عليها نطاق من الكذب المسموع و المكتوب؟ و بأي لسان، و بأي قلم، و بأي صوت؟ و لكنه، على ذلك كله واجب، و إن كان جهد لا ثمرة له! و هو كذلك، و إذن فليس لي أن أسأل نفسي: فيم أكتب؟ و لم هذا العناء و النصب؟ و علام أزهق أيامي في باطل لا ينقشع؟
و إذن فقد كتب على أن أنصب وجهي لهذا الشقاء الصًيْخُود، لا أبالي أن أحترق، و لا أحفل أن أعود سالماً، و لا آبه لما يصيبني، ما دام حقاً علي أداؤه.
إنها أيام بلاء و محنة: من عدونا حيث بلغ منا كل مبلغ، من أنفسنا، حيث صار كل امرئ منا عدو نفسه و عقله، عدو تاريخه و ماضيه، عدو مستقبله من حيث يدري و لا يدري. و إنها أيام ضلال و فتنة، تدع الحليم الركين حيران، بلا حلم و لا ركانة، تدع البصير المهتدي، أعمى بلا بصر و لا هداية. تدع الصادق الحازم، غفلاً بلا صدق و لا حزامة. و لكنها على ذلك كله، كتبت على الحليم الركين، و على البصير المهتدي، و على الصادق الحازم - أن يعيش في شقائها بلا ملل، و أن يكون فيها كما قال شاعر الخوارج، عمران بن حطان، في أهل الدنيا:
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها ... على إنهم فيها عراة و جوع
فمنذ حملت إليك هذا القلم، استجابة لدعوة لم أجد ردها من الأدب و لا من الوفاء في شئ، عرفت أني سوف أكتب كما كتبت قديما، لأتعجل انبعاث رجل من غمار أربعمائة مليون من العرب و المسلمين، تسمع يومئذ لحكمته الأجنة في بطون أمهاتها، و تهتدي بهديه، الذراري في أصلاب الآباء و الأمهات.
و لكنك بعد، قد أنزلتني بحيث يقول القائل:
حيث طابت شرائع الموت، و المو ... ت مراراً يكون عذب الحياض
فأنا إن شاء الله بحيث أحببت لي أن أنزل، و السلام.
محمود محمد شاكر
هذا المقال نشر في مجلة الرسالة العدد 1018 - بتاريخ: 05 - 01 - 1953