أحمد حسن الزيات
المسلمون في معترك الخطوب
كأن الحلفاء يوم عقدوا ألوية الحرب قد عقدوا غيب ضمائرهم على الغدر بأنفسهم و بالناس، فلم يكادوا ينفضون أيديهم من تراب هتلر و حليفيه حتى أخذ بعضهم بتلابيب بعض، يتصارعون على أسلاب الحرب و يتكالبون على جثث الضحايا؛ فهذا يريد أن يغرز أنيابه هنا، و ذاك يحاول أن ينشب أظفاره هناك؛ و اللحوم طعوم، و الذبائح أجناس؛ فوقف كل وحش بازاء منافسة تهدده بما يملك من أسباب الحياة و بما يعلم من أسرار الموت، حتى خشع المهيض، و استكان الضعيف، و استخذى الجبان، و أقرت الأمم بالضيم، و اعترفت الدول بالرق، و انتهى النزاع على ملكوت الأرض إلى قوتين متعارضتين: قوة الرأسمالية في أمريكا، و قوة الشيوعية في روسيا، كلتاهما تريد أن تبسط سلطانها على المستضعفين في الأرض دون الأخرى، و الدولة التي كانت تنافسها في استرقاق الشعوب نتفت ريشها الحرب فتأخرت عن صفها و هبطت عن مستواها، فتركت لها تصريف الأمر و غفت في ظلال السكينة ترجو لأجنحتها أن ترتاش و لجروحها أن تندمل؛ فلم يبق العالم اليوم من يقف أمام هاتين القوتين العارمتين موقف الأبي الذي يتكرم عن الذل و يتجافى عن المهانة إلا قوة واحدة تستمد بأسها من روح الله، و تقتبس هديها من نور الحق، هي قوة الإسلام.
و بحسبك أن تسمع مذياعك في أي ليلة، أو تقرأ في أي يوم، لتعلم أن هذه القوى الثلاث هي التي تتصارع و تتقارع في الغرب و الشرق و ما بينهما، و سائر الأمم محتبون بهامش الميدان يشهدون هذا الصراع شهود المتفرج أو المهرج لينسخوا بمبادئهم دياناته و فلسفاته، و الأمريكيون يقيمون من دونهم السدود ليظلوا مستأثرين وحدهم بخيراته، و المسلمون في تركية و إيران و باكستان و أفغانستان و إندونيسيا، و في أقطار العروبة من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي، يجأرون بالشكوى، و يصرخون من الظلم، و يغضبون للكرامة، و يثورون للحق، و ينادون بالجهاد؛ و لكن أصواتهم الإنسانية اللينة تذهب في عواء الذئاب و نباح الكلاب كما تذهب النسمة الرخية في الأدغال الشواجن!
كأنما الحرب لم تخلف من المشكلات غير مشكلة الشرق الأوسط! و كأنما لم يتركوا من التراث غير تراث الإسلام! و كأنما الأسرى في نظام هيئة الأمم المتحدة هم المسلمون! فمن لم يكن له من شذاذ الأمم جعلوا له موطناً من أرض العرب! و من ضاقت عليه مذاهب العيش في بلده و سعوها عليه من أرزاق العرب! و من نقت ضفادع بطنه من المستعمرين لازدراد بقعة حرام سكنوا جوفه المسعور بقطعة من أملاك العرب! و من نازع المسلمين أو العرب! فالروس تتحلب أشداقهم على ابتلاع تركية و إيران. و الهندوس يجدون العطف الأوربي على عدوانهم الوحشي على أهل باكستان. و هولندة تحاول أن تمزق بجديد الأمم المتحدة إندونيسيا، و هذه الدولة لا تزال تشعر بمسامير النعل الهتلري الثقيلة تغوص في ظهورها الوطيئة البضة. و إنجلترا العجوز أن تخلى لحاميتها أمريكا طريق الشرق فتقرر الجلاء عن فلسطين لتقتطع السودان من مصر، و هو إنسان عينها و مهجة قلبها لتجعله نقطة ارتكازها في أفريقيا، و حقيقة مجازها إلى الشرق. و فرنسا المنحلة ما زالت تفرض الباقي من سلطانها على الشمال الأفريقي كله فتقيم بينه و بين أبويه الإسلام و العروبة حاجزاً من الظلام و الحصر و الرقابة و التجسس، و ترغمه على الاندماج بها و الفناء فيها، فيستظل بغير علمه، و يتكلم بغير لغته، و يؤمن بغير دينه.
و لولا ممالأة الدول و مواطأة اللصوص و مناوأة الخطوب لما ثبتت هذه القدم الناعمة في رمال الريف و صخور أطلس! و أمريكا التاجرة الطموح تصمم على أن تحول بين الشيوعية و ثروة الشرق فتجعل من الإنجليز و اليهود سداً كسد ذي القرنين يأخذ السودان من مصر، و فلسطين من العرب، و بقية امتداده من الإسلام.
و لولا هذه النية الخبيثة لما ساعدت انجلترة على مصر في مجلس الأمن، و عاونت اليهود على العرب في جمعية الأمم المتحدة.
ها هي ذي تقسم فلسطين و بها إحدى القبلتين و ثاني الحرمين قسمة ضيزى بين العرب الأصلاء و اليهود الدخلاء، و تحمل الصهيونية على ضمائرها و بواخرها من أركان الأرض إلى فلسطين لينصبوا للحق كما نصبوه من قبل لعيسى، و يبذروا في القدس الشقاق للناس كما بذروه في يثرب لمحمد! ليت شعري ما جريرة العرب و المسلمين على الأمم الأوربيين و الأمريكيين.
هل جريرتهم عليهم أنهم فتحوا العالم و طهروه، و أعلنوا دين الله و نشروه؟ قد يكون مع الفتح ترة العنصرية، و مع نشر الدين تعصب الكنيسة، و لكن ترة المقهور و تعصب الكاهن لم يكونا وحدهما السبب في ذلك الاستخفاف الدولي بالإسلام و العروبة؛ إنما السبب الأقوى فيما أعتقده أن المسلمين اعتمدوا على الحق دون القوة، و عولوا على القول لا على الفعل، و اعتقدوا في الشخص لا في المبدأ، و نسوا أن دينهم قرآن و سيف، و تاريخهم فتح و حضارة، و شرعهم دين و دنيا، و حربهم جهاد وشهادة، و زعامتهم خلافة و قيادة.
فهل آن لأبناء الأمة الوسطى و وراث الدعوة الكبرى أن يذكروا ما نسوا، و يحددوا ما طمسوا، و يعلموا أن الحق هو القوة، و أن القوة هي الوحدة، و أن وحدة العرب كانت معجزة دين التوحيد، قام عليها تاريخهم القديم و لن يقوم على غيرها تاريخهم الجديد؟!
أحمد حسن الزيات
المقال من مجلة الرسالة العدد 757 - بتاريخ: 05 - 01 - 1948