ألا في سبيلِ المَجْدِ ما أنا فاعلٌ
هذه القصيدة لأبي العلاء المعري ، و هو أحمد بن عبدالله بن سليمان التنوخي ، شاعرٌ و فيلسوف ولد في معرة النعمان قرب مدينة حلب سنة 363 هجري، و توفي بها سنة 449 هجري ، روي أنه كان زاهداً مكفوف البصر شديد الذكاء يلعب بالنرد و الشطرنج ، حرم نفسه من اللحم اكثر من أربعين عاماً ، له مؤلفات شعرية و نثرية بديعة أطلق عليه فيلسوف الشعراء و رهين المحبسين و كان من أفضل شعراء عصره .. و قد كان مولعاً بالمتنبي و أشعاره.
ألا في سبيلِ المَجْدِ ما أنا فاعلٌ ... عَفافٌ و إقْدامٌ و حَزْمٌ و نائِلُ
أعندي و قد مارسْتُ كلَّ خَفِيّةٍ ... يُصَدّقُ واشٍ أو يُخَيّبُ سائِلُ
أقَلُّ صُدودي أنّني لكَ مُبْغِضٌ؛ ... و أيْسَرُ هَجْري أنني عنكَ راحلُ
إذا هَبّتِ النكْباءُ بيْني و بينَكُمْ، ... فأهْوَنُ شيْءٍ ما تَقولُ العَواذِلُ
تُعَدّ ذُنوبي عندَ قَوْمٍ كثيرَةً، ... و لا ذَنْبَ لي إلاّ العُلىَ و الفواضِلُ
كأنّي إذا طُلْتُ الزمانَ و أهْلَهُ، ... رَجَعْتُ، و عِنْدي للأنامِ طَوائلُ
و قد سارَ ذكْري في البلادِ فمَن لهمْ ... بإِخفاءِ شمسٍ ضَوْؤها مُتكاملُ؟
يُهِمّ الليالي بعضُ ما أنا مُضْمِرٌ؛ ... و يُثْقِلُ رَضْوَى دونَ ما أنا حامِلُ
و إني و إن كنتُ الأخيرَ زمانُهُ، ... لآتٍ بما لم تَسْتَطِعْهُ الأوائلُ
و أغدو و لو أنّ الصّباحَ صوارِمٌ، ... و أسْرِي، و لو أنّ الظّلامَ جَحافلُ
و إني جَوادٌ لم يُحَلّ لِجامُهُ ... و نِضْوٌ يَمانٍ أغْفَلتْهُ الصّياقلُ
و إنْ كان في لُبسِ الفتى شرَفٌ له ... فما السّيفُ إلاّ غِمْدُه و الحمائلُ
و لي مَنطقٌ لم يرْضَ لي كُنْهَ مَنزلي، ... على أنّني، بين السّماكينِ، نازِلُ
لَدى موْطِنٍ يَشتاقُه كلُّ سيّدٍ ... و يَقْصُرُ عن إدراكه المُتناوِلُ
و لما رأيتُ الجهلَ، في الناسِ فاشياً، ... تجاهلْتُ، حتى ظُنَّ أنّيَ جاهلُ
فوا عَجَبا! كم يدّعي الفضْل ناقصٌ ... و وا أسَفا! كم يُظْهِرُ النّقصَ فاضلُ
و كيف تَنامُ الطيرُ في وُكُناتِها؛ ... و قد نُصِبَتْ للفَرْقَدَيْنِ الحَبائلُ؟
يُنافسُ يوْمي فيّ أمسي تَشرّفاً؛ ... و تَحسدُ أسْحاري عليّ الأصائلُ
و طال اعتِرافي بالزمانِ و صَرفِه، ... فلَستُ أُبالي مًنْ تَغُولُ الغَوائلُ
فلو بانَ عَضْدي ما تأسّفَ مَنْكِبي، ... و لو ماتَ زَنْدي ما بَكَتْه الأناملُ
إذا وَصَفَ الطائيَّ، بالبُخْلِ، مادِرٌ، ... و عَيّرَ قُسّاً، بالفَهاهةِ، باقِلُ
و قال السُّهى للشمس: أنْتِ خَفِيّةٌ، ... و قال الدّجى: يا صُبْحُ لونُكَ حائلُ
و طاوَلَتِ الأرضُ السّماءَ، سَفاهَةً ... و فاخَرَتِ الشُّهْبُ الحَصَى و الجَنادلُ
فيا موْتُ زُرْ! إنّ الحياةَ ذَميمَةٌ، ... و يا نَفْسُ جِدّي! إنّ دهرَكِ هازِلُ
و قد أغْتَدي، و الليلُ يَبكي، تأسُّفاً، ... على نفْسِهِ و النَّجْمُ في الغرْبِ مائلُ
بِريحٍ، أُعيرَتْ حافِراً من زَبَرْجَدٍ، ... لها التّبرُ جِسْمٌ، و اللُّجَيْنُ خَلاخلُ
كأنّ الصَّبا ألقَتْ إليَّ عِنانَها، ... تَخُبّ بسَرْجي، مَرّةً، و تُناقِلُ
إذا اشتاقَتِ الخيلُ المَناهلَ أعرَضَتْ ... عنِ الماء، فاشتاقتْ إليها المناهلُ
و ليْلان: حالٍ بالكواكبِ جَوْزُهُ، ... و آخرُ، من حَلْيِ الكواكبِ، عاطلُ
كأنَّ دُجاهُ الهجْرُ، و الصّبْحُ موْعِدٌ ... بوَصْلٍ، و ضَوْءُ الفجرِ حِبٌّ مُماطلُ
قَطَعْتُ به بحْراً، يَعُبّ عُبابُه، ... و ليس له، إلا التَبَلّجَ، ساحلُ
ويُؤنِسُني، في قلْبِ كلّ مَخوفَةٍ ... حلِيفُ سُرىً، لم تَصْحُ منه الشمائلُ
من الزّنْجِ كَهلٌ شابَ مفرِقُ رأسِه، ... و أُوثِقَ، حتى نَهْضُهُ مُتثاقِلُ
كأنّ الثرَيّا، و الصّباحُ يرُوعُها، ... أخُو سَقْطَةٍ، أو ظالعٌ مُتحاملُ
إذا أنْتَ أُعْطِيتَ السعادة لم تُبَلْ، ... و إنْ نظرَتْ، شَزْراً إليكَ القبائلُ
تَقَتْكَ، على أكتافِ أبطالها، القَنا، ... و هابَتْكَ، في أغمادهِنَّ، المَناصِلُ
و إنْ سدّدَ الأعداءُ نحوَكَ أسْهُماً ... نكَصْنَ، على أفْواقِهِنَّ، المَعابلُ
تَحامى الرّزايا كلَّ خُفّ و مَنْسِم، ... و تَلْقى رَداهُنَّ الذُّرَى و الكواهِلُ
و تَرْجِعُ أعقابُ الرّماحِ سَليمَةً، ... و قد حُطِمتْ في الدارعينَ العَواملُ
فإن كنْتَ تَبْغي العِزّ، فابْغِ تَوَسّطاً ... فعندَ التّناهي يَقْصُرُ المُتطاوِلُ
تَوَقّى البُدورٌ النقصَ و هْيَ أهِلَّةٌ، ... و يُدْرِكُها النّقْصانُ و هْيَ كواملُ