كتب أحمد طه:
اعرف مهمتك
منذ معركة اليرموك الظافرة 13 هـ.. والحملات الصليبية على الإسلام لم تنقطع حتى هذه اللحظة، حملات تستهدف استئصال الإسلام، ورد المسلمين كفاراً أذلة بعد أن أعزهم الله بهذا الدين.
اكتمل الدين، وتركه لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على المحجة البيضاء، وأقام للإسلام دولة.. وأكمل صحابته الطريق؛ فكانت الخلافة راشدة على منهاج النبوة.. ترفرف فيها أعلام الجهاد في كل مكان، وأدرك المسلمون أن العدوالتاريخي لهم هم الصليبيين ومن يحرضهم من اليهود، بقية شعوب الأرض كانت تستسلم لرسالة الإسلام لما تراه من الحق والعدل، وإذا حاربت لم تكن بنفس ضراوة وإصرار الصليب ! فكان مصداق قوله تعالى: { وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } [البقرة: 120]
في الملك العضوض - وبالتحديد إبان نهاية الخلافة العباسية - ضاع من المسلمين "المهمة" وانشغلوا بالجدل الفقهي، وعلم الكلام، والفلسفة اللاهوتية!، وتكفير الفرق، والتناحر والتقاتل بين المذاهب.. ولم تكن أبداً هذه مهمة المسلم يوماً ! أطبق على الخلافة العباسية من جهة الشرق المغول، ومن جهة الغرب الصليبيين.. وحدث تحالف بينهما، أدى لمقتل ما يقرب من مليون مسلم في بغداد وحدها، وسقوط بغداد الخلافة..!
بدأت عملية الإحياء مرة ثانية.. ومحاولات العودة إلى تزكية النفوس لا التناحر بين المذاهب.. ونفخ روح الجهاد من جديد، فكانت دولة نور الدين محمود الذي عمل على توحيد الشام ومصر لمواجهة العدو التاريخي "الصليبيين" ومتى أدرك المسلم "مهمته" ومتى استفرغ الوسع في إتمام السنن.. كانت معية الله ونصره ولا شك، وبالفعل تحقق النصر على التتار والصليبيين وتم تحرير بيت المقدس..
ثم ضاعت "المهمة" من حس المسلمين مرة أخرى، فعدوا للانشغال بالمُلك، والمتاع، والتناحر، والاختلافات !
ثم جاءت "الخلافة العثمانية" امتداداً للملك العضوض لترث دولة عظمى مترامية الأطراف، ورغم ما عليها من ملاحظات.. إلا أنها كانت تُمثل الوحدة السياسية والاجتماعية الجامعة للمسلمين.. ولم يتوقف كيد الصليب واليهود يوماً تجاه الإسلام، ولما شعروا الضعف والخوار والتفكك في الدولة العثمانية أعدوا العدة لوراثة "الرجل المريض" وإسقاط الخلافة، وتقسيم أمة الإسلام، فيما كانوا يعتبرونه "الضربة القاضية" للإسلام التي لن يقوم بعدها.
حمل لواء الحملة الصليبية "بريطانيا وفرنسا" ثم تبعتهم أمريكا بعد انحسار امبراطورية المملكة المتحدة.
وسقطت الخلافة.. وغرق المسلمون في الشتات، وضاعت وحدتهم السياسية والاجتماعية، واستبدلوها بالوحدة القومية العلمانية.. سواء أكانت عسكرية أو ملكية أو جمهورية.
انتبه المخلصون من أبناء الإسلام إلى خطورة وفداحة هذه الكارثة.. فخرجت ما يسمى "الحركات الإسلامية" لإعادة الخلافة من جديد.. حركات من شتى الأفكار والمشارب والمذاهب منها: الدعوية والحزبية والسلمية والمسلحة والسياسية والثورية والجهادية العشوائية.. وظلت تحاول وتحاول؛ تارة تنتصر انتصار جزئي محدود، ثم يُسرق منها النصر، وتارة تُسحق ثم تصبر وتحتسب، وتارة يكون شغلها الشاغل الصراع مع الجماعات الإسلامية الأخرى، وتارة تقول الحل تزكية النفوس، وتمكث حيناً من الدهر فيه، ثم لا ثمرة ولا فائدة، وتارة تقول الحل هو العودة إلى المنهج النظري للسلف الصالح، ثم تمكث حيناً من الدهر فيه، ثم تتضخم العقول وتقل الأعمال، وتارة تقول التربية هي الحل، ثم تمكث حيناً من الدهر، فتجد كل ثمار التربية يمسحها فيلم داعر، ومسلسل عاهر، وواقع منحط ! وتارة تقول المشاركة السياسية في الأنظمة القومية العلمانية هي الحل.. ثم تجد نفسها في النهاية هي المُحلل الرسمي له، وتارة تقول الثورة هي الحل.. ثم تدفع الضريبة كاملة، وتضيع الثورة ويعود الوضع أسوأ مما كان ! ثم في النهاية تنسى لماذا قامت أول مرة، وتروح تعطي "الشرعية الإسلامية" للدولة القومية العلمانية !!
لماذا كل هذه الضريبة الفادحة ثم لا ثمرة في النهاية ؟
لأن "المهمة" ضاعت من عقل وقلب المسلم.. ولم يعرف عدوه حق المعرفة.. لم يكن يتخيل أنه سيواجه "أفحش أجهزة الاستخبارات الفكرية" في العالم، لم يكن يدرك أنه يواجه عدو خفي تارة، وظاهر تارة.. يملك مهارة تاريخية، وإصرار عنيد على هزيمته، لم يكن يعلم أن عدوه يحمل الحقد الصليبي جيلاً وراء جيل.. لم يكن يعرف أنه يواجه "اليهود والصليبيين" فانشغلت ما يسمى الحركات الإسلامية منذ سقوط الخلافة بحروب صغيرة جانبية محدودة، داخل دائرة ضيقة مرسومة بعناية فائقة؛ تُفرغ فيها الطاقات.. فانشغلت بـ:
- حل المشكلات الناجمة عن القومية العلمانية.
- حل مشكلات الدولة العسكرية والجمهورية والملكية.
- علاج انحراف الأخلاق، واندثار الدين.
- بتكفير المخالف، وإزكاء روح التناحر والاقتتال المذهبي.
- المشاركة السياسية أملاً في حل ولو جزئي لهذا الواقع المظلم.
- محاولة التخلص من الاستبداد والظلم والقهر.
- محاولة تحقيق العدالة الاجتماعية، والمطالبة بمزيد من الحريات.
- أشكال شتى من الدعوة الإسلامية.
وشيئاً فشيء - وبمرور الوقت - غرق المسلم في زحمة هذا الواقع، وتضخمت اللحظة الآنية في حسه، وانتفشت.. فأعمته عن الرؤية الحقيقية، ومن ثم ضاعت المهمة، وضاع الهدف بـ "عودة الخلافة" واستُهلكت الطاقات في:
هل الشعوب مسلمة أم لا ؟ هل الحاكم مسلم أم لا ؟ هل يُعذر بالجهل أم لا ؟ هل يجوز المشاركة السياسية أم لا ؟ هل الجماعات الأخرى على صواب أم لا ؟!
والحقيقة لم تكن أبداً هذه القضية، ولا الهدف، ولا المُهمة..
لم تكن المشكلة مع الأمة المسلمة.. لم تكن القضية خلاف مذهبي أو فقهي مهما بلغ.. لم تكن القضية وجود جماعات مختلفة أم لا.. لم تكن القضية في "شخص" الحاكم هل هو كافر أم لا..
لقد دخلنا في متاهة منذ سقوط الخلافة، كلما دخلنا في طريق نحسبه هو "الحق المطلق المبين" ثم لا شيء في النهاية، ثم ندخل طريق آخر نحسبه هو "الحق المطلق المبين" ثم لا شيء في النهاية.. وهكذا إلى ما يقرب المائة سنة ! والحل ببساطة هو: الخروج من المتاهة بكسر أسوارها؛ للاطلاع على الحقيقة، ورؤية العدو الأصلي، والمهمة المطلوبة..
إن "العدو الحقيقي" - الذي يحاول أن يظهر دوماً في صورة الصديق، والأخ في الإنسانية، والمشارك في المجتمع العالمي - هو: "الصليب وأحفاد القردة من اليهود"! وما تركه من وكلاء لهما - من بعد سقوط الخلافة حتى هذه اللحظة - هؤلاء الحُكام ما هم إلا تابع للصليب.. لسنا بحاجة إلى كبير جهد في معرفة الموقف الشرعي منهم ! ولسنا بحاجة إلى القول هل يجوز المشاركة السياسية أم لا، ولسنا بحاجة أن نقول هل يُعذر فيهم أحد أم لا، ولسنا بحاجة أن نقول ما قيمة ثورة تتم بالحدود التي يسمح ويأذن بهم الصليب ؟
إن المشكلة ليست مع الأمة المسلمة، وليست في مظاهر الشِرك والجاهلية والعلمانية، وليست في الاستبداد والقهر والظلم، وليست في الفساد وسرقة الثروات، وليست في التدني الأخلاقي والعلمي والفكري، وليست في الفقر والبطالة والمرض...إلخ، كل أولئك "أعراض" مرض واحد فقط.. "الحملات الصليبية" المستمرة على العالم الإسلامي.. سواء أكانت حملات عسكرية مباشرة أم حملات اقتصادية أم فكرية أم سياسية أم جميعها !! مشكلة المسلم مع هذه الحملات الصليبية، أنه لا يستطيع أن يراها إلا عندما يرفرف الصليب فوق لواء الجيوش ! ولم يدرك المسلم بعد أن العلمانية هي الوجه الآخر للصليب.. وأن الحملات الصليبية ليست بحاجة إلى رفع الصليب! بل هي تتخفى أحياناً حتى لا تستفز المسلم، أو تجعله يستيقظ من ثباته العميق ! وما الحُكام - في بلادنا - إلا جنود لجيوش الصليب !
وإن مهمة المسلم هي نبذ الخلاف والتناحر المذهبي، والجدل الفقهي، والفكر اللاهوتي، والتناطح الأيديولوجي.. هي: نبذ كل ذلك، وتطهير القلوب، ثم جهاد الصليب ووكلاءه وخدمه وعبيده وجنده، وكسر الحملة الصليبية على الإسلام، وتحرير الأمة..
كل مشكلة المسلم هي فقط "معرفة المهمة" المسلم ليس بجبان، ولا بضعيف، ولا بخاف.. كل ما هنالك أنه يتخبط في التيه، ويصرف طاقاته كلها في عبث، ثم يُصدم في النهاية أنه لا ثمرة، بل انحدار إلى ما هو أشد وأقسى !
وبمجرد إدراك المسلم للمهمة.. ومعرفة عدوه، واستفرغ الوسع؛ كلما كانت معية الله حاضرة، ونصره أكيد، ووعده حق.
وكلما اجتمع المسلمون على هذه "المهمة" وكلما استقر في يقينهم معرفة "عدوهم" وكلما انقطع الجدل بأن الطريق الوحيد لمواجهة عدوهم هو "الجهاد في سبيل الله".. كلما كانت التضحيات أقل، وكلما كنا أقرب إلى التمكين، وإلى عودة سيادة الإسلام على العالم من جديد.
* * *
رابط مدونة الأستاذ أحمد طه
http://ommaty1401.blogspot.com/ و به موضوعات ذات صلة:
- الإسلام الوسطي الجميل.
- أجهزة الاستخبارات الفكرية.
- الطائفة الممتنعة.
- الطاغوت وجنده.
- المقاومة السياسية للطاغوت.
- دولة الخلافة والدولة القومية.
- عام على المذبحة.
- المتدين العلماني.
- ديمقراطية بمرجعية إسلامية.
- الدين.. السياسة، تحليل المشهد.
- الكاهن.. والعلماني.