قصة من الأدب الروسي:
حبة من القمح كبيضة الدجاج!
للفيلسوف الروسي ليو تولستوي
بينما الصبية في لهوهم يعبثون ذات يوم. . . عثر أحدهم في ثلمة في الأرض على شئ عجيب فيه مشابه من حبة القمح. . بيد أنه كبير في حجمه حتى كاد أن يداني بيضة الدجاجة!!.
و مر بهم – و قد استخفهم المرح و تملكهم الفرح بلقيتهم - مسافر من جوّابي البقاع. . فلما أبصر ذلك الشيء بين أناملهم، عوضهم عنه بفلس و حمله معه إلى المدينة. . حيث باعه للملك بمال كثير كعجيبة من العجائب التي تمخض عنها الزمن. . .
فدعا الملك إلى مجلسه أهل العلم و أولي الحكمة و أرادهم أن يأتوه بحقيقة ذلك الشيء. . . فانثنى العلماء إلى كتبهم يتفحصونها، و انقلب الحكماء إلى عقولهم يستحثونها. و لكنهم لم يحيروا لهذا الشيء معرفة لماهيته و إدراكاً لحقيقته!. . حتى كان اليوم الذي طارت فيه دجاجة إلى عتبة النافذة حيث ترك ذلك الشيء العجيب عليها. . فراحت تضرب فيه بمنقارها حتى خلفت ثقباً في جانب منه!.
و يومها أدرك العلماء أن ذلك الشيء ليس إلا حبة من القمح!.
فلما حملوا إلى الملك ذلك النبأ. . اشتدت حيرته و تزايد عجبه و أمرهم بالبحث في أي يحن من الزمن و في أي بقعة من الأرض. كان الناس يزرعون مثل هذا القمح!
فعاد العلماء إلى كتبهم يقلبونها و انثنى أهل الحكمة إلى عقولهم يتروون من جديد. . و لكنهم باءوا بمثل ما كان نصيبهم في المرة الأولى!. فذهب إلى الملك وفد منهم. . و قال له:
- ليس في قدرتنا الإجابة على ما تطلبه مولانا.! فما حوت كتبنا نبأ عنه. . و لا انتهت عقولنا إلى فهم له. . و لكن في مكنة مولانا أن يسأل الفلاحين لعل بعضهم يعلم عن آبائه. . في أي حين و في أي بقعة كان القمح يزرع في مثل هذا الحجم.!.)
فأمر الملك أن ينبعث أعوانه في أرجاء البلاد و ينتشروا في مختلف ربوعها. و يأتوه ببعض الفلاحين الذين بلغوا من العمر عتياً.
فلم يلبثوا بعد حين أن فازوا ببغيتهم. . فأحضروا إلى الملك رجل تقدمت به السنين فأحنى ظهره ثقلها. . فراح يتوكأ على دعامتين معروق الوجه، شاحب اللون مهدل العارضين مغضن البشرة. .
فناوله الملك حبة القمح. . . بيد أن كفافة بصره قصرت به عن رؤيتها. . . فراح يتحسسها بين أنامله الجاسية. فسأله الملك:
(هل لك في أن تخبرنا. . . أيها العجوز عن المكان الذي كان يزرع فيه مثل هذه القمحة؟! ونبئنا إن كنت قد اشتريت أو زرعت شيئاً مثلها في حقولك؟!. . . )
كان بسمع الشيخ وقر جعله عاجزاً عن الإصغاء إلى ما قاله الملك. . . بيد أنه لم يلبث أن أدركه في مشقة و جهد. فقال بعد أن مكث حيناً لا ينبس:
- (كلا. . . إني لم أزرع و لم أحصد مثلها قط في حقلي. كما أني لم أشتر أبداً شيئاً يشبهها. . . و حينما كنا نتبايع القمح كانت حبوبه صغيرة في مثل حجمها اليوم. . . غير أنه يجمل بك أن تسأل أبي لعله سمعه قد وعى عن الفج الذي كانت تزرع فيه! )
فبعث الملك برجاله في طلب والد الشيخ. . . فعادوا به و هو يمشي معتمداً على عصا غليظة. . . فلما ناوله الملك حبة القمح. . . قلبها بين يديه، و راح يمعن فيها النظر، و قد عجز الكبر عن أن يذهب بحدته!. . . فسأله الملك: (أما في قدرتك أيها العجوز أن تخبرنا عن المكان الذي كان يزرع فيه مثل هذه القمحة؟! و هلا أنبأتنا إن كنت قد اشتريت أو زرعت مثلها في حقولك؟(
لم يذهب الثقل بمسمع الشيخ، بل ما زال سمعه خيراً من سمع ولده. . فأجاب الملك في صوت هادئ رزين:
- (كلا!. إني لم أزرع و لم أحصد مثلها في حقلي!. . كما أني لم أشتر شيئاً يشبهها!. فما كان للنقود تداول في أيامنا. . فكان كل امئ يزرع قمحة. . . و ما زاد عن حاجته يهبه من في عوز!.
لست أدري أين كان يزرع مثل هذا القمح. . . و لكنني أعتقد أن القمح في عهدنا كان أكبر حجماً و أكثر دقيقاً منه في أيامنا هذه. . . بيد أنه - مع ذلك - لم يبلغ حجم هذه القمحة. و أحسبك واجداً عند أبي فائدة و علماً عنها! فسله)
فأرسل الملك من يأتي بوالد الشيخ. . فغابوا حيناً، ثم عادوا به إلى حضرة الملك!. . يسعى في سيره في خفة و نشاط له بصر ثاقب و سمع مرهف. . . و لسان ينطق في جلاء!. .
فلما مد الملك له يداً بحبة القمح. . . تناولها منه. . . و راح يقلبها في راحتيه. . . و يمعن فيها النظر. . ثم لم يلبث أن ارتفع صوته في هدوء (لم أر مثل هذه القمحة إلا منذ زمن سحيق. . سحيق جداً!.) و قضم شطراً من الحبة بثناياه، و أخذ يتذوقها بفمه!! و استطرد في قوله:
) - إنها نفس النوع!. . .) فسأله الملك:
- (ألا حدثنا أيها الجد الوقور. . . في أي مكان و في أي زمان، كان الناس يزرعون هذا القمح. . . و هلا خبرتنا إن كنت قد ابتعت أو زرعت مثلها في حقولك؟!. . )
فأجابه الشيخ: -
. . . كان هذا القمح يزرع في كل البقاع في أيامي لقد طعمته في شبابي، و أطعمت غيري منه!. و طالما زرعناه في أراضينا. . و حصدناه. . . و درسناه!!. )
فقال الملك و قد استبد به العجب وتملكه الفضول: -
(هل كنت تبتاعه؟! أم كنت تزرعه بيديك؟! )
فتريث الشيخ حيناً. . . كأنه يسبر غور الماضي، و يستعيد ذكراه – و قد ضرب النسيان عليها سجنه و أرخى دونها سدوله - ثم أجابه: (لم يكن ثمت واحد. . في أيامي. . يجسر على أن يأتي هذه الخطيئة. . أن يبيع أو يشتري الخبز. . و لم نكن ندري شيئاً عن هذه النقود التي تتداولونها الآن. . فكان لكل امرئ كفايته من القمح والزاد!. )
- (بالله خبرني أين توجد أراضيك حيث كنت تزرع فيها ذلك القمح؟!. )
فتبسم الشيخ و أجابه في هدوء:
- (كان حقلي هو (أرض الله) الواسعة. . . أينما زرعت و حيثما غرست فهذا حقلي. . . فكانت الأرض مباحة طليقة بين الناس! و ما كنت تجد واحداً يجرؤ على القول بأن هذه الأرض ملكه. . بل العمل هو وحده الذي كان ملكاً للناس):
- (هلا أجبتني أيها الجد الكريم. . إلى سؤالين آخرين؟
- أولهما: لماذا كانت الأرض تنبت مثل هذا القمح، ثم لماذا كفت عن إخراجه الآن؟!!. .
- و ثانيهما: ما العلة في أن حفيدك لا يخطو إلا على دعامتين و ابنك يتوكأ على عصا واحدة. أما أنت فلا تعتد على شئ؟! و ما الذي جعلك ذا بصر ثاقب و سمع مرهف و صوت واضح جلي تهفو الأذن لسماعه؟! )
فهز الشيخ رأسه، و ما زالت البسمة مرتسمة على شفتيه و قال:
) -لقد صار الأمر إلى هذا الحال. . لأن الناس كفوا عن العيش بما تعمله أيديهم، و راحوا يسخرون غيرهم لعمل ما تعوزهم الحاجة إليه!.
في أيامنا الخوالي. . كان الناس يعيشون حسب ما سنته لهم شريعة (الله). . (العامل بعمله)!. فلم تملأ الضغائن نفوسهم و لم تفسد الأحقاد قلوبهم. . و لم يكن بينهم من ينظر بعين الحسد إلى ما متع الله به بعضاً منهم!. . )
-
(طنطا) مصطفى جميل مرسي
هذه القصة بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
و نشرت بتاريخ 27 - 10 – 1947 في مجلة الرسالة العدد 747