كتب حسن أبوهنيّة:
الصوفية والسلطة: من نور العرفان إلى ظلمة السلطان
لا جدال بأن العامل الديني كان حاسما في نشأة التصوف الإسلامي عبر الاستناد إلى المصادر الإسلامية، فقد ظهرت نواته الأولى لدى الصحابة من خلال التيار التعبدي الزهدي؛ إلا أن أسباب ظهوره تعززت بجملة من العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية، فالظروف التي عايشها الإسلام المبكر والتي تمثلت بالفوضى السياسية والنزاع على السلطة والفتن والحروب الداخلية عملت على شيوع حالة من القلق الروحي والإحساس بالظلم الاجتماعي والاستياء من انتشار التفاوت الطبقي بين المترفين والمعدمين؛ الأمر الذي أدى إلى تنامي تيار الزهد. فبحسب نيكلسون تعددت عوامل نشأة التصوف؛ فمعاناة المسلمين من ظلم الحكام واستبدادهم بعث على الميل إلى الزهد كأداة للاحتجاج والثورة الروحية على السلطة. وبهذا اتخذ مسار التشكل الصوفي في بداياته مظهرا زهديا تعبديا أخلاقيا.
تشكلات التيار الزهدي التعبدي الأخلاقي برزت بقوة بفعل العامل السياسي الاجتماعي في الإسلام، كخيار فردي يسعى لإصلاح الذات ابتداء، وتمهيدا لإصلاح المجتمع المثقل بعسف السلطة الحاكمة، وتعبيرا عن العودة إلى القيم الإسلامية الفاضلة، فالزهد دشن المقدمات الضرورية لقيام التصوف المطبوع بالعزلة وقطع العلائق مع البشر والركون إلى الدنيا والإقبال على الله والآخرة، وبهذا تبلورت طبقة من الزهاد في المجتمع الإسلامي ثم تكاثرت تاريخيا، وأصبحت تيارا منظما في البصرة والكوفة والشام ونيسابور، وقد اتخذت موقفا صارما من السياسة والمجتمع المطبوع بالفساد والاستبداد، ودعت للإصلاح من خلال الانسحاب والعزلة والفرار من الناس طمعا في عودة الصفاء والاطمئنان إلى النفوس القلقة.
إن التغيرات التي طالت التصوف الإسلامي تطورت في سياق التحولات التاريخية الاجتماعية والسياسية والثقافية للإسلام ذاته، فقد تبلور الإسلام عن مدارس ومذاهب فلسفية وفقهية وكلامية عديدة، بفعل الاتصال ببيئات حضارية متعددة ودخول الترجمات الفلسفية العقلية، فدخلت في خصومات وجدالات واختلافات نزعت عن الدين بساطته الأولى وأسفرت عن نظريات في الألوهية والربوبية متباينة، وقدمت الصوفية اجتهاداتها وتصوراتها المستقلة في شتى المسائل المطروحة، واشتدت الخصومة بين الصوفية والفقهاء بسبب تبني الفقهاء لمنهج استنباطي في تقرير الأحكام الشرعية وتطبيقاتها والعمل بمقتضاها، وهو المنهج الذي اعتبرته الصوفية لا يتجاوز حدود الظاهر، وبهذا انتهجت مسلكا يقوم على البحث عن الباطن مع حفظ الظاهر.
مسارات التصوف تاريخيا تكشف عن تحولات عميقة في بنيتها وتكوينها وعلاقتها بالسلطة، فقد تحولت من تجربة شخصية ذات طبيعة نخبوية إلى ظاهرة اجتماعية منذ القرن الحادي عشر الميلادي، واستقرت تصوفا طرقيا شعبيا منذ القرن السابع عشر، إبان الدولة العثمانية التي استدخلتة في أجهزتها الأيديولوجية، ولم يكن للصوفية أن تستمر وتزدهر دون مساندة السلطة ورعايتها ولم تكن السلطة لتحافظ على استقرارها دون تأييد الصوفية، فقد حكمت معادلة “الولاء/الرعاية” العلاقة بين الطرفين، وعلى الرغم من أن هذه المعادلة لم تكن آلية مطردة تاريخيا، إلا أنها في سياق الدولة الوطنية المعاصرة باتت أكثر مولاة، واقتصرت وظيفتها على الولاء المطلق للسلطة، فالسلوك السياسي للطرق الصوفية تاريخيا كان متأرجحا بين المعارضة والموالاة.
لم تتتلبس الصوفية تاريخيا بتقاليد النزاع والصراع على السلطة فضلا عن ممارسة الانقلاب وتحقيق الثورة في نطاق دار الإسلام، أما في حال غزو قوات احتلال خارجية لبلدان إسلامية كما حصل إبان المرحلة الاستعمارية؛ فإن الاختلاف بين الطرق كان يصل حد التناقض بين اتجاه يتبنى المقاومة والجهاد وبين تيار يتبنى الموالاة والركون للإدارة الاستعمارية. ففي مصر، انقسمت مواقف الطرق الصوفية من الاستعمار البريطاني؛ فالطريقة الأحمدية تعاونت أما الطريقة العزمية فقاومت، وفي السودان ساندت المرغنية والختمية الاحتلال وتبنت الطريقة المهدوية المقاومة والجهاد، وفي ليبيا تواطأت معظم الطرق الصوفية مع الاستعمار الإيطالي وتصدت السنوسية بقيادة شيخها عمر المختار، وفي الجزائر برز الأمير عبد القادر وهو زعيم الطريقة القادرية في التصدي للاستعمار الفرنسي إلى جانب الطريقتين الرحمانية السنوسية والدرقاوية الطيبية، فيما وقفت الطريقة التيجانية إلى جانب الإدارة الاستعمارية. ويتكرر مشهد الولاء والمعارضة الصوفي في كافة الأقطار العربية والإسلامية التي خضعت للقوة الاستعمارية.
عقب أفول الحقبة الكولينيالية وتحقيق الاستقلال وقيام الدولة الوطنية في العالم العربي عمدت معظم الأنظمة القطرية العربية على اختلاف منظوماتها السياسية والأيديولوجية والثقافية على استدخال الصوفية في أجهزتها الأيديولوجية، وعملت على دعمها وإسنادها ومأسستها، وذلك لتوظيفها في مواجهة حركات الإسلام السياسي والحركي الصاعدة ولتثبيت شرعيتها. فبحسب الباحث الفرنسي إريك جيوفروي المختص في الصوفية: “إننا نجد أن الأنظمة العربية عملت على إدماج الصوفية في الحكم بهدف محاربة الظاهرة الإسلامية. فوزير الأوقاف المغربي أحمد التوفيق صوفي كما أن الشيخ أحمد الطيب في مصر -وهو خلوتي- أصبح رئيس جامعة الأزهر بعد أن كان مفتيا للديار المصرية وفي الجزائر نجد أن بوتفليقة قريب جدا من الصوفية وهو ما برز في حملته الأخيرة”. أما فوليا أتاجان التي أجرت مقارنة بين الحالتين التركية والمصرية وعلاقة الطرق الصوفية بالسلطة بعد الاستقلال وتكوين الدول القومية فقد أكدت أن معظم البلاد العربية فضلت أن تضم الطرق الصوفية إلى تركيبتها السياسية الجديدة، ولا يعنى ذلك أن الطرق الصوفية لم تكن أبدا في موقف معارضة من هذه الدول، ومن العسير في الواقع عمل تعميم لموقف الطرق الصوفية من الدولة، فيمكن للمرء إيجاد أمثلة على الحالتين من معارضة وتأييد، وبعبارة أخرى فالمواقف السياسية للطرق الصوفية كانت تتغير وتتبدل حسب الظروف الاجتماعية والسياسية لكل بلد عبر التاريخ.
ومن الممكن إيجاد أمثلة لعدة صور من ضم الطرق الصوفية في العديد من الدول، فالطرق الصوفية محظورة في تركيا، ولكن العديد منها كوّن علاقات حماية مع أحزاب مختلفة بما فيها حزب “الشعب الجمهوري”، وتكيفت مع النظام الجديد لتعدد الأحزاب وأصبحت جزءا من النظام السياسى التركي؛ فحزب “النظام القومي”، وهو أول حزب أنشأه نجم الدين إربكان كان في واقع الأمر من تأسيس إحدى الجماعات النقشبندية الخالدية -فرع جوموش حنفي- بتأييد من مجموعة نورشو، واليوم فإن شخصيات هامة جدا بما فيهم رجب طيب أردوغان في حزب “العدالة والتنمية” كانوا أعضاء في جماعة النقشبندية.
أما في مصر، فقد حاولت الدولة دائما أن تتدخل في عمل الطرق الصوفية منذ العهد العثماني، وأنشأت الدولة المجلس الأعلى للطرق الصوفية في عام 1895 والغرض منه مراقبة عمل هذه الطرق في مصر، وبالرغم من مراجعة القانون عام 1903، إلا أن الهيكل التنظيمى للطرق الصوفية في مصر اليوم مبنى على القانون رقم 118 الصادر عام 1976، ويتكون المجلس الأعلى من 16 عضوا منهم عشرة منتخبون من قبل الـ 73 طريقة صوفية المعترف بها، ومدة ولايته ثلاث سنوات، وإلى جانب هؤلاء العشرة هناك ممثل لشيخ الأزهر، وممثل لوزارة الأوقاف وممثل لوزارة الداخلية وممثل لوزارة الثقافة، وممثل للأمن العام في الحكومة المحلية والمنظمات الشعبية، وكلهم من المعينين، ويتم انتخاب مشايخ الطرق الصوفية المعترف بها بواسطة مجلس الشعب، ويعين شيخ المشايخ بواسطة رئيس الجمهورية.
لقد أخذت العلاقة بين الطرق الصوفية والأنظمة العربية منعطفا عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، فقد كشفت الهجمات على مبنى التجارة العالمي والبنتاغون في نيويورك وواشنطن عن تورط أيديولوجية سلفية جهادية عربية، الأمر الذي حمل الإدارة الأمريكية على تبني سياسة “الحرب على الإرهاب”، وفي إطارها الشمولي تبنت “حرب أفكار” تستند إلى رعاية “إسلام معتدل” ووجدت ضالتها في الطرق الصوفية، وعكفت مراكز الدراسات ومخازن الأفكار على عقد مؤتمرات وإصدار دراسات والقيام بعمليات تشبيك واسعة مع الطرق الصوفية بالتعاون والتنسيق مع الأنظمة العربية الحاكمة. وكانت أولى الثمرات دراسة أصدرتها مؤسسة “راند” الأمريكية للأبحاث في عام 2003 بعنوان “الإسلام المدني الديمقراطي”، والتي أشارت إلى أن الجماعات الصوفية احد الحلفاء المفترضين لأمريكا في العالم الإسلامي، وفي عام 2007 أصدرت دراسة أخرى بعنوان: “بناء شبكات إسلامية معتدلة”، وفي عام 2009 أصدرت دراسة أخرى تطرقت إلى الصوفية بعنوان: “الإسلام الراديكالي في شرق إفريقيا”، كما أصدر معهد الولايات المتحدة للسلام عام 2005، دراسة بعنوان: “الإسلام السياسي في إفريقيا جنوب الصحراء”، تطرقت إلى المسألة الصوفية في المنطقة، كما أصدرت مؤسسة كارينجي الأمريكية للأبحاث عام 2007 دراسة موسعة بعنوان: “الصوفية في آسيا الوسطى”، وفي آذار/ مارس 2004، نظم مركز نيكسون للدراسات مؤتمرا بعنوان: “فهم الصوفية ودورها المحتمل في سياسة الولايات المتحدة”.
تزامنت هذه الفعاليات الدولية بنشاط صوفي في معظم الدول العربية والإسلامية، في إطار سياسات الولاء/ الرعاية واستدخلت الصوفية كأيديولوجية تسامحية في سياق الحرب الثقافية الباردة لنزع التطرف والعنف وإسباغ الشرعية على الأنظمة السلطوية، ففي مصر ينتمي عدد من مشايخ الطرق الصوفية إلى الحزب الوطني ومفتي الجمهورية وشيخ الأزهر من أقطاب الصوفية؛ فالطرق الصوفية في مصر كانت تقف إلى جانب مبارك وهي اليوم في كنف السيسي، فقد أعلنت تأييدها الكامل للمشير تحت شعار “لا إله إلا الله السيسي حبيب الله”، إذ أكد الحاج أشرف عبد العزيز شيخ الطرق الصوفية ونائب الطريقه البيومية أن الطرق تعلن عن ميلاد زعيم جديد سوف يحقق آمال وطموحات الشعب المصري بعد معاناة عاشها طوال الفترة الماضية.
وفي الجزائر حظيت الطرق الصوفية بدعم النظام وفي المقابل ساندت الصوفية وفي مقدمتها الطريقة القادرية التي باتت أحد أركان السلطة، وساهمت بفوز عبد العزيز بوتفليقة بالرئاسة في انتخابات 1999، و2004، ومن أهم المقترحات التي قدمت للحكومة دعوة الدكتور محمد بن بريكة أحد أنشط أتباع الطريقة القادرية، لإنشاء مشيخة تجمع كافة الطرق الصوفية لمواجهة المد السلفي في البلاد؛ حفاظا على المرجعية الدينية للدولة والمتمثلة في المذهب المالكي.
وفي المغرب، كان توظيف الزوايا خلال هذه المرحلة يتم بشكل غير مباشر، من خلال الاستفادة من طبيعة الثقافة السياسية التي كانت تعمل على نشرها بين مريديها، وتوظيفها اليوم يتم بشكل مباشر وشفاف من خلال إدماج هذه الزوايا في دواليب الحكم بهدف مواجهة مختلف التنظيمات السياسية الإسلامية، وهذا ما اتضح بشكل جلي منذ انطلاق عملية إعادة هيكلة الحقل الديني، بهدف رسم معالم سياسة دينية جديدة قصد ضبط التوازنات الدينية والسياسية، من هنا تعلن الطريقة البودشيشية بكل صراحة ووضوح أنها لا تناصب العداء لأحد ولا تنازع أحدا، وشيخها حمزة يلح دائما على ضرورة جمع الشمل داعيا المغاربة على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم إلى نبذ الخلافات والنزاعات وإلى العمل لما فيه صالح البلاد والعباد، وإلى الالتفاف من أجل ذلك حول أمير المؤمنين صاحب الجلالة محمد السادس.
وفي سوريا، تتمتع الصوفية برعاية فائقة وحضور مكثف في هياكل السلطة؛ فمفتي الجمهورية السابق أحمد كفتارو هو شيخ الطريقة النقشبندية، والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي صوفي، ويضم حزب البعث الحاكم ومجلس الشعب عددا من أتباع الطرق الصوفية، وهي تؤيد الحزب وتبارك نظام الحكم والرئيس الأسد الأب الراحل والابن الحالي.
وفي ليبيا، كانت الطرق الصوفية توالي نظام العقيد معمر القذافي وقد رفعت أثناء الثورة الشعبية في شباط/ فبراير 2011 عددا من بيانات التأييد والولاء للنظام، وفي تونس تمتعت الصوفية إبان حكم زين العابدين بن علي بالرعاية والدعم وباتت جزءا من النظام السياسي وتعاظم دورها لمواجهة الإسلام السياسي، وخصوصا حزب النهضة، واستخدمت لإسباغ الشرعية على النظام.
في هذا السياق، بدا واضحا سلوك الطرق الصوفية وموقفها من الثورات الجارية في العالم العربي، الأمر الذي دعا الشيخ يوسف القرضاوي إلى القول بأن الصوفية “سفهت الثورات العربية” عبر ثقافة سامة تربط الفتنة بالخروج على الحكام، وتراوحت مواقف الطرق الصوفية تجاه الثورات بين الصمت أو إدانة الثورات العربية. ويبدو سلوك الطرق الصوفية واضحا بالميل نحو الواقعية الفجة فهي مع سلطة المتغلب بغض النظر عن نهجه وسلوكه السياسي، ولذلك شهدت الطرق الصوفية تبدلا متوقعا عقب نجاح الثورة في تونس ومصر، وعادت إلى متلازمتها التاريخية بين الإخلاص لوظيفتها الدينية كأيديولوجية فردية للخلاص الروحي في إطار مؤسساتها التقليدية “الطرق” والانشغال بالآخرة، وبين الدخول في أفق التحديث والاشتغال بالسياسة من خلال “الأحزاب”. وشهدت الطرق الصوفية انقساما؛ فمعظمها آثر العودة إلى التقليد بينما أعلن بعضها عن عزمه على الدخول في الحياة السياسية والمشاركة من خلال تكوين أحزاب. والتحولات السياسية للطرق الصوفية بمصر شملت محاولة الاستفادة من الثورة لتصفية الحسابات مع الشيخ عبد الهادي القصبي شيخ المشايخ الصوفية لكونه أحد أعضاء الحزب الوطني المصري، وعضو مجلس الشورى المعين من قبل النظام السابق، وقامت 15 طريقة صوفية بإصدار بيان طالبت فيه بعزل شيخ المشايخ باعتباره من فلول الحزب الوطني ولا بد من تطهير المشيخة الصوفية، وأعلن المجلس الأعلى للطرق الصوفية برئاسة د. عبد الهادي القصبي، شيخ مشايخ الطرق الصوفية، ومشايخ 45 طريقة رفض إنشاء أحزاب سياسية باسم الصوفية، مؤكدا أن النشاط الصوفي سيستمر ولن يتأثر بما يحدث حاليا، وعقب الانقلاب العسكري عادت معظم الطرق إلى ذات النهح القديم ودخلت في كنف قائد الانقلاب السيسي.
فرضت الثورات العربية تحديات عديدة على مختلف التيارات الإسلامية، التي عملت لعقود في إطار الأنظمة السلطوية، ويبدو أن معظم الطرق الصوفية التي استدخلت في أجهزة الدولة الوطنية السلطوية لا تزال تتشبث بنهجها المبني على مبدأ الرعاية/ الولاء، وتتمسك بأطرها التقليدية ووظائفها الدينية والاجتماعية المحافظة، وهي بذلك تتنكر لمبادئ التصوف التأسيسية وتخرج من نور العرفان إلى ظلمة السلطان.
حسن أبوهنيّة